رئيس الوزراء العراقي يثني على ديمقراطية التعطيل في بلاده ويعتبرها أرضية للتنمية

التجربة الديمقراطية المطبقة في العراق تحمل من المثالب أكثر مما تنطوي عليه من فضائل، إذ لم تقف سلبياتها عند وضع مقاليد الحكم بين أيدي قوى دينية وطائفية غير ديمقراطية في سلوكاتها وسياساتها، بل تعدّت ذلك إلى إحداث انسدادات مستمرة في الحياة السياسية وتعطيل لمؤسسات الدولة ومصالح المواطنين.
بغداد- أثنى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على الديمقراطية في بلاده معتبرا أنّها تمثل أرضية للتنمية.
وقال السوداني في كلمة مسجلة ضمن أعمال منتدى الأمن العالمي المنعقد في العاصمة القطرية الدوحة، إنّ العراق تمكّن من تجاوز أكبر الشرور وانتصر في معركة الإرهاب وانتقل بقوّة من مرحلة الانتصار إلى مرحلة التنمية في ظل ديمقراطية مستقرة.
لكنّ كلام السوداني عن دور الديمقراطية في بلاده لم يعكس الحقيقة كاملة بشأن ما يعيشه العراق من صراعات شرسة بين كبار أفرقاء العملية السياسية في نطاق اللعبة الديمقراطية ذاتها والتي كثيرا ما قادت إلى تعطيل وانسدادات في الحياة العامّة وشلل في مؤسسات الدولة غالبا ما تستعصي عن الحل وتأخذ وقتا طويلا قبل إيجاد مخارج لها باعتماد حلول ظرفية مبنية على توافقات مصلحية هشّة، في ظل فراغات في المنظومة القانونية وافتقار للآليات الدستورية الضامنة لحلحلة المشاكل وتنفيس الاختناقات.
ويتوفّر الواقع القائم في البلد حاليا على أربعة نماذج للانسدادات التي تتسبب بها تشوهات العملية الديمقراطية العراقية، وتتمثّل في تعذّر انتخاب رئيس جديد للبرلمان خلفا لرئيسه السابق محمّد الحلبوسي الذي أزيح من المنصب قبل حوالي ستة أشهر بقرار من السلطة القضائية، إلى جانب تعذّر استكمال تشكيل الحكومتين المحلّيتين لكل من محافظتي ديالى وكركوك بعد أكثر من خمسة أشهر على إجراء انتخابات مجالس المحافظات، فضلا عن تعذّر إجراء انتخابات برلمانية في إقليم كردستان العراق بعد أن انتهت الفترة القانوينية للمجلس السابق منذ سنة 2022.
ويجمع قاسم مشترك بين تلك الأزمات الأربع يتمثّل في كونها ناتجة جميعا عن صراع شرس بين قوى شاركت في الانتخابات وفازت فيها وتريد أن تحصل على مناصب في مؤسسات الدولة مكافئة لنتائجها الانتخابية ووفقا لما تعتبره هي استحقاقات مشروعة لها، فيما النتائج الانتخابية لا تسمح بحل الصراع ديمقراطيا بسبب تكافؤ القوى المتنافسة.
ويمكن اعتبار حكومة السوداني بحدّ ذاتها نموذجا خامسا عن الانسدادات في العملية السياسية العراقية، حيث نتجت تلك الحكومة عن مخاض عسير استمرّ عاما كاملا بعد إجراء الانتخابات البرلمانية السابقة ودارت خلاله تجاذبات حادّة بين التيار الصدري بقيادة الزعيم الديني الشيعي مقتدى الصدر وكبار منافسيه من داخل العائلة السياسية الشيعية التي ينتمي إليها، حول الأحقية بتولي تشكيل الحكومة.
وقال السوداني في كلمته لمنتدى الدوحة إنّ حكومته بصدد تحقيق إنجازات في مختلف المجالات وتمرير إصلاحات للاقتصاد جنبا إلى جنب التقدّم في محاربة الفساد، معتبرا كلّ ذلك “دعامة لاستمرار الخيار الديمقراطي والسبب الأول الذي يدفع المواطنين إلى المشاركة في الانتخابات كوسيلة دستورية لا بديل لها لاختيار الحكم وصنع القرار”.
ولفت إلى الدعم الذي تحظى به حكومته من قبل مجلس النوّاب (البرلمان) في سياستها الشاملة التي “تعالج بها كلّ ما يمسّ المواطن في معيشته وتلبّي طموحه”.
لكن البرلمان الذي اعتبره رئيس الوزراء العراقي جزءا من الحلول، بدا على مدى الفترة المنقضية من مدّته النيابية جزءا من المشاكل، إذ استهلك الكثير من الوقت في الصراعات بين الأفرقاء الممثلين تحت قبّته وذلك على حساب الأشغال الكثيرة التي كان يفترض أن ينجزها ومن بينها النظر في قوانين وتشريعات متعلّقة بمسائل حيوية للبلاد.
وبلغت الصراعات أشدّها داخل مجلس النواب العراقي بسبب تنافس القوى السياسية السنيّة على منصب رئيس للبرلمان الذي أخفق السبت الماضي مجدّدا في انتخاب رئيس جديد له خلفا للحلبوسي.
وفي مظهر على حدّة الصراعات وخروجها عن سياق التنافس الديمقراطي، تداولت وسائل الإعلام المحلية مقاطع فيديو لمشاجرة بين عدد من النواب أسفرت عن إصابة أحدهم.
ويعكس ذلك درجة تعقيد ترتيبات تقاسم السلطة في العراق الذي يتألف من فسيفساء من المجموعات العرقية والطوائف المختلفة الممثلة في عملية سياسية تقوم على المحاصصة وتقاسم المواقع في السلطة على اختلاف درجاتها، باعتبارها مغانم.
◄ حكومة السوداني بحد ذاتها نموذج عن انسدادات العملية السياسية العراقية حيث نتجت عن مخاض عسير استمر عاما كاملا
ويخصص تقليديا منصب رئيس الجمهورية الشرفي إلى حد كبير للأكراد، ومنصب رئيس الوزراء للشيعة، في حين أن رئيس البرلمان عادة ما يكون سنيا. لكن يهيمن على البرلمان ائتلاف من الأحزاب الشيعية التي لها أيضا كلمتها في اختيار من يرأس المجلس.
وفي جلسة السبت دعم ائتلاف من ثلاث كتل سنيّة النائب المرشح لرئاسة البرلمان سالم العيساوي، أما منافسه محمود المشهداني الذي كان أول رئيس للبرلمان العراقي بعد اعتماد دستور عام 2005، فقد حظي بدعم الكتلة الكبيرة لرئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي.
ومن المفارقات أن التنافس الشديد الذي بلغ حدّ العراك بالأيدي هو على رئاسة لن تستمر سوى فترة قصيرة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقرّرة لسنة 2025. إلى ذلك لا تسلم الحكومات المحلية للمحافظات العراقية من صراع شرس على مناصبها القيادية، والتي أدت إلى حدّ الآن إلى تعطيل تشكيل اثنتين منها هما حكومة محافظة ديالى وحكومة محافظة كركوك شمالي العاصمة بغداد.
ففي ديالى لا تزال مهّام المحافظ تدار بالوكالة بسبب الخلاف المتصاعد على المنصب بين ائتلاف دولة القانون بقياة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، ومنظمة بدر بقيادة هادي العامري.
وإلى جانب محافظة ديالى لا تزال محافظة كركوك بشمال العراق تواجه حالة تعطيل مشابهة نظرا لتكافؤ القوى الفائزة في الانتخابات المحلية ما جعلها جميعا تطالب بمنصب المحافظ.
واتّخذ الصراع على منصب محافظ كركوك مظهرا قوميا إلى جانب مظهره الحزبي، حيث يطالب كل من الأكراد والعرب والتركمان بالمنصب.
وأبرزت عملية تشكيل الحكومات المحلية للمحافظات العراقية في ضوء النتائج المتحقّقة في الانتخابات التي أجريت في الثامن عشر من شهر ديسمبر الماضي، مجدّدا مساوئ نظام المحاصصة المتّبع في العملية السياسية بالعراق والذي يهدف في ظاهره إلى تحقيق قدر من العدالة بين القوى السياسية والمكوّنات الطائفية والعرقية بالبلاد، لكنّه أفضى عمليا إلى حياة سياسية مشوّهة كثيرا ما تنتهي إلى انسدادات وتعطيل لمؤسسات الدولة ومصالح المواطنين.
وأصبح تعطّل تشكيل البرلمانات والحكومات واختيار قياداتها ظاهرة مألوفة يشهدها العراق بعد كل انتخابات يجري تنظيمها.
وتطال حالة التعطيل التي تعرفها مؤسسات السلطة الاتّحادية العراقية بسبب تنافس الأفرقاء على المناصب، كذلك مؤسسات إقليم كردستان العراق الذي بات مهدّدا بالفراغ الدستوري وبنزع غطاء الشرعية عن حكومته، بفعل العراقيل التي تواجه إجراء انتخاباته البرلمانية.
ورغم تحديد تاريخ العاشر من شهر يونيو القادم موعدا لإجراء الانتخابات، إلاّ أنّ مؤشرات كثيرة تتواتر على صعوبة إجرائها في التاريخ المذكور.
ومن أبرز أسباب التعطيل المرجّح لإجراء الاستحقاق الانتخابي إعلان الحزب الديمقراطي الكردستاني عن مقاطعته للانتخابات احتجاجا على التعديلات التي أدخلتها عليها السلطة القضائية العراقية، ومطالبته بتأجيلها أملا في إلغاء تلك التعديلات، التي يتمسّك غريمه في الإقليم حزب الاتّحاد الوطني الكردستاني بالإبقاء عليها ويطالب بإجراء الانتخابات في موعدها.
ويأتي الموقفان المتضادّان للحزبين الغريمين في ضوء ما يريانه من مصلحة مباشرة يمكن أن يحصل عليها كل منهما من وراء المشاركة في الانتخابات، حيث يحرص الحزب الديمقراطي على الحفاظ على مكانته في السلطة عبر إجراء الانتخابات وفق القانون القديم، بينما يرى غريمه الاتحاد الوطني في التعديلات التي أدخلت على القانون فرصة لتقليص مقاعده ومن ثمّ وزنه في برلمان الإقليم.