القرنُ الـ19 قَرْن بناء المكتبات والقرن الـ20 قرن هدمها

ماثيو باتلز: كيف نتعامل مع طوفان المطبوعات.
الاثنين 2024/05/20
تدمير الكتب يتكرر عبر التاريخ

تمثل المكتبات الكبرى دليلا على الرقي الحضاري والازدهار، إذ تعتبر الصانع الأول للمعرفة التي تقود المجتمعات إلى حال أفضل. ولكن المكتبات شهدت تطورا كبيرا على مر التاريخ بينما تأثرت بشكل واسع بالأحداث السياسية.

يروي الباحث الأميركي المتخصص في المكتبات ماثيو باتلز في كتابه “المكتبات: تاريخ مضطرب”، قصة نشوء المكتبات تاريخيا من المكتبات الأولى التي حفظت الألواح الطينية في بلاد ما بين النهرين مرورا بحضارات الصين العظيمة والمرحلة الأموية والعباسية ودور بيت الحكمة والتحول الذي طرأ على شكل الكتاب بدءا من اللوح الطيني والشمعي واللفافة والمخطوط انتهاء بالقرص المدمج.

ويبحث في تطور المكتبة عبر التاريخ من غرف القراءة الاشتراكية والمكتبات المنزلية الريفية ووصولها إلى الشكل العملاق للمكتبة الشاملة في المدن الكبرى، كما تتجسد في بناء مكتبة الكونغرس أو مكتبة وادينر في هارفارد ومحتوياتهما من الكتب التي بلغت الملايين، كاشفا عن الكثير من التحديات التي واجهتها المكتبات من انتهاكوتفكيك وتدمير وهدم وحرق.

يقول باتلز في كتابه الذي ترجمه الشاعر والمترجم أسامة إسبر وصدر عن دار صفحة سبعة للنشر “تشكّل لدي بين رفوف مكتبة وايدنر في هارفارد الانطباع المتميز بأن مجلداتها الملايين يمكن أن تحتوي فعلا على شمولية التجربة البشرية. لا أعني أنها تصنع نموذجا للكون، بل هي نموذجه. وحين أنزل على الدرج الرخامي الذي هرّأته الأقدام داخلا في أحشاء البناء، وأمر عبر طبقات متلاحقة من الكتب ذات الرائحة الحريفة، غالباً ما يذهلني الإحساس بأن كل شيء يحدث في الخارج يجب أن يكون له نظيره المطبوع في مكان ما على الأرفف”. ويلفت إلى أن مجموعات مكتبات هارفارد وأمكنة أخرى ازدادت مئة ضعف من سبعينيات القرن الـ19 إلى تسعينيات الـ20 وفي بعض الحالات إلى ألف ضعف. وسبّب هذا السيل الجارف من الكتب صدمةً وقلقا لدى الكثير من الناس. من لديه الوقت كي يقرأ هذه الكتب كلها؟

إن كتاب "تقويم أمين المكتبة القديم”، الذي يعود إلى القرن الـ18 والمشكوك بأمره، (في الحقيقة هو كتاب زوّره أمين مكتبة في بوسطن في أوائل القرن العشرين)، يمجّد فضائل أمين مكتبة يشق طريقه باجتهاد وسط غبار الكتب أثناء تأدية واجبه. وكان لديه الوقت كي يقرأ جميع المجلدات، وحين ينهي آخر كتاب يبدأ من جديد. لا يستطيع أمين المكتبة في مكتبة الأبحاث اليوم أن يكمل هذه المهمة في فترة حياة، ولا في ثلاثمئة فترة حياة. ذلك أن مكتبة الكونغرس، والتي هي أضخم مكتبة في العالم، تضيف كل يوم تقريبا سبعة آلاف كتاب إلى المئة مليون كتاب التي توضع على 530 ميلا من الرفوف. أضفْ إليها المطبوعات التي ننتجها كل يوم على حواسيبنا وفاكساتنا وناسخاتنا علاوة على ما يتجاوز 800 مليون صفحة من الشبكة الشاملة للعالم يصبح واضحاً أننا نواجه سيلاً غامرا.

طوفان المطبوعات

◙ كيف يتمر ترتيب كل هذه الكتب
◙ الطوفان من المطبوعات: كيف نرتبها كلها؟

ويتساءل باتلز مع هذا الطوفان من المطبوعات: كيف نرتبها كلها؟. ويقول ”حتى وقت قريب، أعني في المئتي عام الأخيرة، والتي هي فاصل قصير للمكتبة، كان بوسع أمناء المكتبة أن يعدّوا أنفسهم بين الأتباع الرواقيين لسينيكا الذي قال في كتابه ‘الرسائل الأخلاقية‘: ‘لا يهم كم لديك من الكتب بل المهم كم هي جيدة‘. كانت مكتبة سينيكا مكاناً للمعايير. وأحب أن أدعو هذا النوع من المكتبة المكتبة “البارناسية”، ذلك أنها على غرار دلفي معبدٌ بُني على سفوح جبل بارناسوس، ذلك الجبل المقدس لأبولو وربات الإلهام. وكانت الكتب في هذه المكتبة مقطرةً، جوهرَ كل ما هو جيد وجميل (في الصيغ الكلاسيكية) أو مقدس (في الصيغ القروسطية)، وقُصد أن يكون نموذجاً للكون، ومجموعة منسقة بدقة من المُثُل. بالمقابل، لا تُعامل الكتب في المكتبة الكونية كجواهر ثمينة مميزة، على الأقل ليس في المقام الأول".

ويكشف أنه عوضا عن ذلك، يُنظر إليها كنصوص وأنسجة يجب أن تُمزق وتُنسج معا في تركيبات ونماذج جديدة كمثل النجوم في السماء أو أزهار لينايوس. ويجب ألا يُثنى عليها من أجل تأثيرات أو مواصفات خاصة، بل يجب أن تُحصى وتُصنف قبل أن يصبح من الممكن أن يُرغب بها. لقد منح سينيكا المتأفف مكتبة بارناسان الانتقائية شعارا مناسبا كي يُنقش في العاصمة الرومانية فوق الأبواب. أما توماس جيفرسون (الذي شكلتْ كتبه نواة مجموعتيْ جامعة فيرجينيا ومكتبة الكونغرس) فقد قدّم للمكتبة الشاملة التراكمية عقيدة مغايرة لا تلين".

ويرى أن المكتبة لا تقدم أي أمل بجواب محدد على أي سؤال. ورغم أنها تحتوي على نبوءات عن حيوات جميع من عاشوا أو يعيشون، علاوة على نظريات تشرح أصول الكون نفسه واشتغالاته، يجب أن تحتوي أيضا على عدد لا يمكن تخيله من الحسابات الزائفة، دون وسائل لفرز الحقيقي والجوهري عن الزائف والمضلل. يتجول أمناء المكتبة في مجموعات أو كمتسولين وحيدين، يبحث بعضهم عن كتاب واحد يفهرس الكتب كلها، فيما ينشد آخرون “توضيح ألغاز الإنسانية الأساسية. وما يزال هناك آخرون يؤمنون أن الكتب بلا معنى”، تؤلفها كائنات بدائية تافهة تحاكي الهندسة المعمارية التامة للإله.

◙ الكتاب يبحث في تطور المكتبة عبر التاريخ من غرف القراءة الاشتراكية والمكتبات المنزلية الريفية ووصولها إلى الشكل العملاق للمكتبة الشاملة في المدن الكبرى
◙ الكتاب يرصد قصة نشوء المكتبات تاريخيا من المكتبات الأولى التي حفظت الألواح الطينية إلى المكتبات المعاصرة اليوم

يوضح باتلز أنه لم يكن ممكنا أن تحترق المكتبات الأولى لأنها كانت مليئة بكتب مكتوبة على الألواح الطينية على النقيض من مجموعة مكتبة الإسكندرية من مخطوطات البردي. وكان أدب بلاد ما بين النهرين يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد ويتسلسل من الشعر إلى الصلاة، ومن الرسائل إلى كتب الحسابات. وكان الخط الذي كُتبت به يُدعى المسماري، وسُمّي بهذا الاسم نظراً لشكل حروفه المقطعية التي تتألف من عناقيد من العلامات الصغيرة التي على شكل إسفين محفورة في ألواح فخارية بقلم مستدق الطرف.

 وكان الفخار يُترك كي يجفّ، أو يُحرق في فرن. وكانت الكتب المصنوعة بتلك الطريقة تصمد زمنا طويلا خاصة في المناخ الجاف للهلال الخصيب. وقدمت تلك الكتب الفخارية المتينة نفسها لدافع بناء المكتبة. وفي بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد ضمَّ معبدٌ في بلدة نيبور، في ما هو الآن جنوب شرق العراق، غرفَ أرشيفٍ مليئة بالألواح. ويضيف “وصلت مكتبات بلاد الرافدين إلى ذروتها تقريبا بعد ألفي سنة أثناء حكم آشور بانيبال الثاني الذي حكم الإمبراطورية الآشورية في القرن السابع قبل الميلاد. وأسس مكتبة كبيرة في عاصمته، والتي هي مدينة نينوى القديمة، التي نمت إلى أن ضمت 25 ألف لوح طيني. وخدمت المكتبة كأرشيف إلا أن طموحات آشور بانيبال كانت كونية، فأمر بجمع لا البشائر والتعاويذ والتراتيل فحسب، بل الآداب القديمة للغات بلاد ما بين النهرين القديمة الآشورية والسومرية والأكادية والأوغاريتية والآرامية وغيرها أيضاً. وتبين أن المكتبة عالية التنظيم، وربطت الأعمال معاً في ألواحها الطينية المختلفة وتم تعليمها بتسمية عرّفت محتوياتها".

وعُثر أيضا على فهرس سجل عناوين الأعمال وعدد الألواح التي تتكون منها. وأظهرت أرشيفات ومكتبات أخرى في أنحاء بلاد ما بين النهرين على نحو مشابه مستويات عالية من التنظيم. وحُفظت الألواح في بعض المخازن في سلال مصنفة، وكتبت عناوينها على حواف اللوح الطيني من أجل التعرف عليها بسرعة. ونظرا إلى قدم هذه الكتابات، فإن العدد الذي بقي مذهلا: إذ توجد نحو عشرين ألف شظية من مكتبة آشور بانيبال وحدها، محفوظة الآن في المتحف البريطاني. ولم يستطع خلفاء آشور بانيبال أن يديروا الأراضي الشاسعة التي فتحها، وضعفت قوة إمبراطوريته بسرعة بعد وفاته، وهُجرت نينوى بالتدريج ونُسيت. لا بد أن المزيد من مكتبات بلاد ما بين النهرين ما تزال مدفونة في تلال أو روابي المدن المدمرة، وتنقط مشهد الموطن الآشوري الذي هو العراق الآن، وأكيد أن القنابل الدقيقة دمرت مكتبات لا نعرف عنها أي شيء.

ويقول باتلز “وصف سترابو المشهد الذي كان يراه القراء في الإسكندرية، حيث كانت الكتب الموجودة على الرفوف الداخلية محاطة بسلسلة من الأروقة المهواة أو الممرات المسقوفة، التي يمكن أن يجتمع الباحثون فيها كي يدرسوا ويتناقشوا. وصارت أروقة كهذه، والتي ربما تذكّر بغيضة أفلاطون المظللة، عنصراً للقياس في المكتبات القديمة، وحتى المكتبات الرومانية، التي كانت لديها غرف قراءة فيها طاولات وكراس على غرار المكتبات الحديثة".

ويذكر أنه لم يكن الباحثون يقرؤون بالطبع كتبا كما نعرفها الآن، ذلك أن المخطوطات أو الكتب المجلدة لم تُستخدم حتى العصر المسيحي في روما. وكانت مكتبتا الإسكندرية، على غرار جميع المكتبات القديمة، مليئتين بمخطوطات البردي، وهو قصب مائي ينمو على ضفاف النيل. وكان ورق البردي هشًّا وصعب الحفظ بالمقارنة مع الألواح الطينية. وكان غزيرا، على أي حال، ويمكن تحويله إلى أداة ملائمة للكتابة بسرعة ويُسر. وحين يُطرق كي يُسطّح تعمل عصائر النبتة كنوع من الإسمنت للصق الأنسجة وتثبيتها.

حرق الكتب

◙ تساؤلات حول قائمة الكتب التي أتلفت
◙ تساؤلات حول قائمة الكتب التي أتلفت

وتعلَّمَ صانعو الورق الأوائل أن يقسموا سيقان النباتات المفردة، ويضعوها متداخلة مع بعضها البعض ويضربوها إلى أوراق بأي طول يريدونه. وحالما تجف، تُلفّ الأوراق الناتجة حول وتدٍ يُدعى السرة. لم يتبق أي دليل مادي لمكتبات الإسكندرية، ولا تزال الأدلة الأثرية لمكتبات الإسكندرية والأدلة الأثرية من المكتبات الأخرى اللاحقة ذات قيمة مشكوك فيها في إعادة بناء الرفوف والوصول إلى المخطوطات في أكوامها.

ويرى باتلز أنه إذا كان القرنُ الـ19 قَرْنَ بناء المكتبات فإن القرن العشرين كان قرن هدمها. إلا أن هذا لا يعني أن حرق الكتب اختُرع في القرن العشرين، بل كان يطارد تاريخ المكتبة من الإسكندرية إلى تينوشتيتلان ومن كابادوقية إلى كاتالونيا، ومن سلالة كين الصينية إلى انحلال الأبرشيات الإنجليزية. في القرن العشرين تم اختبار طرق جديدة في تدمير الكتب وحرقها واستغلال دمارها.

قد لا يكون من قبيل المبالغة القول إن التضمين المفاجئ للكتب في أواخر القرن العشرين – بعد اختفاء النص في البداية في تشوشات الميكروفيلم ولاحقا في الأثير المبكسل أو المنقّط للإنترنت – بدأ مع التجدد الهمجي للعنف ضد الكتاب في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكثيرا ما يُقتطف ما قاله هاينرش هاينه في القصص الحديثة عن حرق الكتب، وخاصة حرق النازيين للكتب في أيار 1933 ”هناك حيث يحرق المرء الكتب فإنه يحرق البشر في النهاية“. كان هاينه ينتمي إلى القرن الـ19… إلا أنه تبين أن حرق المكتبات في القرن الأخير، قرن الأيديولوجيات الشمولية والحروب الكبرى، لم يكن الطريقة الوحيدة لتدميرها.

◙ ماثيو باتلز يبحث في تطور المكتبة من غرف القراءة الاشتراكية والمكتبات المنزلية الريفية ووصولها إلى الشكل العملاق
ماثيو باتلز يبحث في تطور المكتبة من غرف القراءة الاشتراكية والمكتبات المنزلية الريفية ووصولها إلى الشكل العملاق

ويشير إلى ما ذكره لويس بي لوشنر، مراسل وكالة الأسوشييتد برس مصدوما من مشهد إحدى عمليات الحرق الكبيرة للكتب التي نفّذها النازيون في ربيع 1933. رأى لوشنر النيران كتعبير عام عن شخصية جوزيف غوبلز، المفكر النازي البارز ووزير الثقافة المستقبلي للرايخ الجديد. لم يأمر غوبلز أبدا بحرق الكتب. كان جَمْع الكتب وحرقها في الحقيقة من عمل مجموعة طلابية مؤيدة للنازية تُدعى هيئة الطلاب الألمان.

وقام الطلاب بتطهير مكتباتهم ومكتبات مدارسهم، ثم انطلقوا إلى مكتبات بيع الكتب ومكتبات الإعارة من أجل الوقود. وعلى الرغم من أن غوبلز لم يكتب ”خطابات النار“ أو ينظّم حرق الكتب إلا أن الطقس أمتعه، ووظّف على الفور طاقاته باسم الرايخ. وحين وصله خبر إحراق الكتب في برلين، اندفع كي يخطب في الرعاع في ساحة فرانز جوزيف، ونقل لوشنر كلامه “أيها الرجال والنساء الألمان، أنت تفعلون ما هو صائب في رمي الروح الشريرة للماضي في ألسنة اللهب في هذه الساعة المتأخرة  من الليل. إنه فعل رمزي عظيم وقوي، فعل يشهده العالم كله، يتألق فيما ترتفع ألسنة اللهب. هذا سيكون قسمنا: الرايخ والأمة وزعيمنا أدولف هتلر: يحيا! يحيا! يحيا!”.

ويضيف “كانت قائمة الكتب التي أُتلفت في القرن العشرين طويلة. حين غزا جيش التحرير الشعبي التبت دمّر عددا كبيرا من الأبرشيات، ورُميتْ مئات آلاف الكتب في ألسنة اللهب. انقرض الشكل المتميز للكتاب التبتي المطبوع، المخطوطات الطويلة والضيقة المطبوعة على كتل خشبية اكتست بأغلفة من الزعفران مخيطة بخيط قرمزي. وكان هذا شكلاً أقدم بقرون من الكتاب المقدس لغوتنبرغ. ونقل الرهبان واللاجئون مكتبات كاملة عبر الحدود إلى الهند على ظهور الأحصنة والبغال، حيث لم يبنوا مكتبات كاملة فحسب بل شرعوا أيضا بإنشاء مطابع جديدة.

وحافظوا على صنعة الكتاب التبتي، كما حافظوا على نسل حيوانات اللامة حيا. وفي أمكنة أخرى في الصين، عانت الكتب على نحو مريع أثناء الثورة الثقافية. لكن الكتب كانت تُحرق في الأمكنة التي تُقرأ فيها كلها: أحرق القوميون السنهاليون المكتبة التاميلية في جافنا في سريلانكا. وكانت هذه المكتبة التي احتوت على آلاف المخطوطات ولفائف سعف النخيل والكتب المطبوعة إحدى مستودعات جنوب آسيا الأعظم للثقافة والتاريخ. وشكلتْ شهادة حية على مجتمع سريلانكي متعدد الأعراق وعالمي. وقبل ثلاثة أعوام من تلغيم حركة طالبان لتماثيل بوذا وتفجيرها في باميان، أعلنت الحركة عن رغبتها بتدمير الثقافة عن طريق حرق خمسة وخمسين ألف كتاب في مركز حكيم ناصر خسرو البلخي الثقافي، في شمال أفغانستان، أمام بصر المدير المرعوب".

13