انتظارات الجزائريين تتعدى حدود الرواتب والمعاشات

في مرات متتالية تقر الحكومة الجزائرية زيادات في الرواتب والمعاشات والمنح الاجتماعية المختلفة لموظفي القطاع العام، على أمل تحسين مستواهم المعيشي ومواجهة موجة الغلاء والتضخم التي أصابت الوضع الاقتصادي والاجتماعي منذ جائحة كورونا، لكن يبقى تعميم الخطوة على باقي الفئات والقطاعات الأخرى، خاصة العاملين في النشاط الاقتصادي والخدماتي والقطاع الخاص، محل تساؤل عن تحقيق الهدف بشكل شامل ومعمم.
وتظهر نوايا الحكومة في ردم الهوة السحيقة بين مختلف الفئات والقطاعات الاجتماعية والمهنية واضحة، وبدا أنها عازمة على التخفيف من الطبقية داخل الجبهة العمالية، فالعامل البسيط في شركة نفطية حكومية أو أجنبية وفي شركة كبيرة يقبض أضعاف الموظف والعامل في قطاع الخدمة العمومية، لكن اللافت أن مشروع مراجعة الرواتب مازال مخصصا للعاملين في الوظيفة العمومية، ولم يمس القطاعات الأخرى، خاصة القطاع الخاص.
◄ إلى وقت قريب كانت الحكومات وأرباب العمل والشركاء الاجتماعيون يتنازعون الحصرية أمام الجزائريين لمن حقق لهم هذا القرار الاجتماعي أو ذاك الإجراء المهني، لغاية في نفس يعقوب
أمام الحكومة العازمة على رفع الرواتب والمعاشات والمنح بنسبة تناهز الخمسين في المئة تحديات كبيرة تبدأ من مصدر تغطية كلفة الزيادات الجديدة، إلى تحقيق العدالة بين جميع الفئات والقطاعات. وإذا كانت يدها ممدودة إلى القطاعات المملوكة للدولة، فإن مبادرتها لا يمكن فرضها على القطاع الخاص الذي يملك مقاربته في ملف الرواتب، ويرفع دائما حججا وذرائع الوضعيات الاقتصادية والمالية لمؤسساته، خاصة في ظل الانكماش الذي يعيشه خلال السنوات الأخيرة، وهنا تجد نفسها أمام حقيقة لا يمكن تفكيكها إلا بتحقيق نفس جديد في عجلة النمو الاقتصادي.
في الجزائر العديد من المعطيات التي بقدر ما هي أوراق إيجابية هي أيضا إكراهات ثقيلة إذا لم تتم مواكبتها السريعة والاستشرافية، ففي بلد يقدر تعداده السكاني بنحو 45 مليون نسمة، ومليون مولود سنويا، وربع مليون شاب وشابة يتخرجون سنويا من الجامعات والمعاهد العليا، وحوالي 11 مليون تلميذ وتلميذة في الأطوار التعليمية، فإن المطلوب هو تحقيق نسبة نمو عالية ومستقرة من أجل احتواء كل ذلك، قبل أن يتحول إلى قنبلة قابلة للانفجار.
وأمام ذلك فإن الجزائريين الذين خرجوا من أزمة كوفيد ومن عدم استقرار سياسي، في مخيلتهم الكثير من الانتظارات والآمال، تتعدى حدود رفع الرواتب والمعاشات والمنح إلى تحقيق نهضة شاملة تضم كل القطاعات التعليمية والجامعية والصحية والخدماتية.
الجزائر ليس في إمكانها هدر المزيد من الفرص، والسلطة القائمة أمامها تحديات كبيرة من أجل مواكبة المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لتوفير فرص الشغل والقيمة المضافة وتنويع المداخيل وإطلاق وتيرة المؤسسات المصغرة وتحقيق نمو عال ومستقر، لتلبية الحاجيات المتنامية للمجتمع في الغذاء والصحة والتعليم والمرافق العمومية ومختلف الخدمات.
وبإمكان الزيادات المقررة من طرف الرئيس عبدالمجيد تبون تغطية جزء من الشرخ وتسكين الألم الذي تصاعد في السنوات الأخيرة، لكن ذلك سيكون ظرفيا، قياسا بعشرات الآلاف الذين يقفون سنويا على أعتاب سوق الشغل، وبحاجة المجتمع المتنامية للصحة والتعليم والبنى التحتية والمرافق المعيشية، حتى ولو أنها ورثت تركة ثقيلة عن السلف قوامها الفساد والبيروقراطية التي عطلت فرصا بإمكانها المساهمة في حلحلة فصول الأزمة لكن ليست كافية لوحدها.
◄ أمام الحكومة العازمة على رفع الرواتب والمعاشات والمنح بنسبة تناهز الخمسين في المئة تحديات كبيرة تبدأ من مصدر تغطية كلفة الزيادات الجديدة، إلى تحقيق العدالة بين جميع الفئات والقطاعات
التفاؤل يطبع خطاب السلطة وطموحها المعبر عنه في خطابات الرجل الأول في الدولة للتكفل بالانتظارات المتنامية للجزائريين، لكن أحسن خطاب يمكن أن يقنع الناس هو ذلك الذي يترك الفرصة للإنجازات كي تعبر عن نفسها، بدل أن يروج لها في المنابر السياسية، التي تحيد في الغالب عن سرد الحقيقة بسبب بنيتها وأهدافها.
في العالم الكثير من النماذج المشابهة للتجربة الجزائرية أو التي شابهتها في السابق، ويمكن الاستلهام منها وكشف المفاتيح التي قادتها إلى الإقلاع من واقع التردد والارتباك والانكماش إلى فضاء التطور والتنمية، ولعل أبرزها ترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فالترويج السياسي للمكاسب الاقتصادية يبقى وجها من أوجه المن الاجتماعي وليس تحقيق النهضة المنشودة.
وكما أن البلاد في حاجة إلى هدنة سياسية لاحتواء جميع الجزائريين، فإنها في حاجة أيضا إلى هدنة اقتصادية، يتم خلالها التفرغ تماما للشأن التنموي، فلا كلام عن المستقبل وعن الأجيال وعن السيادة خارج النهضة الاقتصادية، والاستقلال الاقتصادي بأرقامه وبياناته وحقائقه هو الذي يصنع جميع الاستقلالات الحبلى بالشعارات والخطب الرنانة.
وإلى وقت قريب كانت الحكومات وأرباب العمل والشركاء الاجتماعيون يتنازعون الحصرية أمام الجزائريين لمن حقق لهم هذا القرار الاجتماعي أو ذاك الإجراء المهني، لغاية في نفس يعقوب تدور حول حلقة الفضل السياسي في نهاية المطاف، وفي السنوات الأخيرة مسكت السلطة لنفسها حصرية ذلك الفضل بعيدا عن النقابات أو أرباب العمل، وبادرت بمحض إرادتها لإطلاق مخطط الرفع التدريجي للرواتب والمعاشات والمنح، لكن ذلك لم ينزهها بدورها عن التوظيف السياسي، فهي أيضا في حاجة إلى رضا سياسي واستقرار اجتماعي.