عصرنة التعليم الجامعي في مصر تصطدم بميول نحو الكليات التقليدية

خطاب الحكومة عن مزايا التخصصات الحديثة يلقى تحفظات مجتمعية.
الخميس 2024/05/09
الإقناع بتغيير الاختصاص يتطلب خطة واضحة

أدى غياب خطة حكومية لتوعية أرباب الأسر وأولادهم من الشباب بالوظائف المستقبلية إلى هجر كليات الاختصاصات المعاصرة رغم تناسبها مع سوق العمل الحديث، وذلك لارتباط الأسر وأبنائهم ثقافيا وفكريا بكليات تقليدية تتيح لهم توظيفا مضمونا. ويرى أرباب الأسر أن على الحكومة أولا غلق التخصصات التي عفا عليها الزمن بعيدا عن التحجج بأيّ مبررات لن تجلب سوى المزيد من طوابير البطالة.

القاهرة - استقبل المصري عماد السيد، وهو أب لثلاثة أبناء في مراحل جامعية مختلفة، حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي أخيرا حول عدم وجود مستقبل للكليات النظرية مقابل المكاسب المالية التي تحققها التخصصات العصرية، بعدم اقتناع، مبررا موقفه بأن “الحكومة لو كانت جادة في عصرنة التعليم لما تركت الكليات القديمة تستقبل عشرات الآلاف سنويا، وما يتم التسويق له محاولة لإلقاء مسؤولية البطالة على أسر الشباب”.

انشغل الرأي العام المصري مؤخرا بحديث الرئيس السيسي خلال افتتاحه مركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية، المعني بتحليل البيانات الضخمة لصناعة القرار، عندما عاتب المواطنين لأنهم يستسهلون في إلحاق أبنائهم بكليات تقليدية، مثل الحقوق والآداب والتجارة، مع أن المستقبل الحقيقي للوظائف لخريجي الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والرقمنة والذكاء الاصطناعي.

وقال السيسي “هذه التخصصات تجلب لأصحابها الآلاف من الدولارات شهريا، وقد يصل العائد المادي إلى مئة ألف دولار”، مضيفا “لا تلوموني ولا تلوموا الحكومة وحدها. لوموا أنفسكم أيضا. الكل يقوم بإدخال أولاده كليات تقليدية، فأين وبأي طريقة سيجدون الوظائف. الشاب يغضب من الحكومة لأنها لا توفر له فرصة عمل. وأنا أسألكم: لماذا لا تذهبون إلى التخصصات الجديدة التي توفرها الدولة في التعليم الجامعي”.

لم يستوعب الأب عماد حديث الرئيس السيسي، خاصة ما يتعلق براتب المئة ألف دولار شهريا من تخصص البرمجة، مثله مثل الكثير من المصريين الذين تعاملوا مع كلام السيسي بطريقة ساخرة، مع أن كلامه تم اجتزاؤه من سياقه، حيث كان يشير إلى العوائد المالية التي يتحصل عليها المبرمجون في دول أوروبية خطت مشوارا طويلا في هذا المجال، وهو ما ترغب مصر في تحقيقه بالتوسع في المشروعات الرقمية.

ينتمي والد الطلاب الجامعيين الثلاثة إلى شريحة مجتمعية تقدس الكليات التقليدية، وترى وظائفها مضمونة. فهناك خريج الآداب يعمل معلما في مدرسة حكومية أو مركز للدروس الخصوصية، وخريج الحقوق يوظف في مؤسسة عمومية أو يفتتح مكتبا للمحاماة، ومن يدرس التجارة يسهل عليه العمل في بعض البنوك أو مكتب محاسبة، إذا فاته طريق التوظيف في القطاع الحكومي.

عقّب الأب في حديثه لـ”العرب”، قائلا “الغالبية لا تعرف شيئا عن التخصصات الجامعية المعاصرة التي تتحدث عنها الحكومة. ولا تُدرك مستقبلها الحقيقي في التوظيف، وطبيعة الشهادة الجامعية التي يتحصل عليها الخريج. الناس لن يضحوا بأولادهم لمجرد تحقيق أحلام صانع القرار بزيادة الإقبال على كليات يبدو مستقبلها في علم الغيب. إذا كانت التخصصات القديمة تضاعف البطالة، لماذا لا تغلقها الحكومة لصالح نظيرتها المعاصرة”.

تساؤلات وتناقضات

محب الرافعي: بعض المؤسسات التعليمية تتحمل جانبا من المسؤولية
محب الرافعي: بعض المؤسسات التعليمية تتحمل جانبا من المسؤولية

بدت تساؤلات ومخاوف السيد منطقية، حيث لا توجد خطة حكومية لتوعية أرباب الأسر وأولادهم من الشباب بالوظائف المستقبلية، رغم أن الدولة أنشأت العشرات من الكليات التي تتناسب مع سوق العمل الحديث، لكن الإقبال عليها ضعيف، ما يدفع الكثير من المواطنين إلى التعامل معها بريبة، لارتباط الناس ثقافيا وفكريا بكليات تقليدية، وعدم وضوح رؤية الحكومة تجاه الخريجين المعاصرين.

قال محب الرافعي، وزير التربية والتعليم السابق وعضو لجنة التعليم بمجلس الشيوخ، لـ”العرب” إن ضعف الإقبال على التخصصات الجامعية المستقبلية مرتبط بالثقافة المجتمعية، على الرغم من الإنجازات الضخمة التي حققتها الدولة في هذا المجال، لذلك هناك حاجة ملحة إلى تطبيق فكرة المرشد الأكاديمي في المؤسسات التعليمية، وتعريف الطلاب منذ الصغر بالتخصصات العصرية ومزاياها، والوظائف المطلوبة في المستقبل، وتلك التي سيتم إلغاؤها لعدم الاعتراف بها.

وذكر الرافعي أن مشكلة الكثير من الأسر أنها تفرض وجهات نظرها على أولادها عند اختيار التخصص الجامعي بلا اكتراث بمهارات وقدرات وطموحات الشباب، وأنهم من المفترض أن يلتحقوا بالكلية التي تناسب تطلعاتهم، وهذه ثقافة متجذرة في بعض العائلات، ولا بد من استمالة الشباب بتحفيزهم على الالتحاق بالتخصصات الحديثة، بدلا من الاستسلام لرؤى الآخرين.

وعقب إعلان نتيجة البكالوريا (الثانوية العامة) من كل عام وبدء مرحلة تنسيق القبول في الجامعات، يتهافت الكثير من المصريين لمعرفة درجات الالتحاق بكليات القمة، وهي: الطب والهندسة والصيدلة والإعلام والألسن والاقتصاد والعلوم السياسية، وقليلا ما يسأل أحدهم عن كليات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات وغيرها من التخصصات التي تتناسب مع ما تصبو إليه الحكومة لتعميم الرقمنة.

ما يلفت الانتباه أن بعض النقابات، مثل الصيدلة والمهندسين وطب الأسنان والعلاج الطبيعي، طالبت الحكومة بتحجيم استقبال المزيد من الطلاب في هذه الكليات لسنوات بسبب زيادة أعداد الخريجين عن حاجة المجتمع، لكن ذلك لم يغيّر من قرار الكثير من العائلات شيئا، ما جعل سوق العمل على موعد مع مئات الآلاف من العاطلين من خريجي كليات القمة، يضافون إلى الملايين من الموجودين حاليا.

ترضية للشارع المصري

إقبال على التخصصات التقليدية
إقبال على التخصصات التقليدية 

على النقيض تماما، قد تجد الكثير من الآباء والشباب الذين يفضلون الكليات التقليدية ويبتعدون عن التخصصات العصرية، شغوفين بالتطورات المتسارعة في الدول المتقدمة ويتابعون أحدث التطورات ويحلمون بأن تصل مصر إلى مستوى متطور من حيث الثورة التكنولوجية والمعرفية، لكنهم يرفضون التخلي عن التقليد الأعمى بتفضيل التخصصات الأكاديمية التي عفّى عليها الزمن.

تعتقد دوائر سياسية أن التغيرات التي طرأت على فهم الحكومة لمواكبة التعليم سوق العمل المستقبلي، تبدو محاولة لترضية الشارع بعد سنوات طويلة من اتهامها بتجاهل أهم ملف خدمي ذي ارتباط مباشر بالمواطنين، ما دفعها إلى هدم المنظومة القديمة طالما أن الرأي العام يربط نجاحها في أي ملف آخر بقدرتها على إصلاح المنظومة التعليمية، لكنها لم تستطع بعد تحسين صورتها.

ترى هذه الدوائر أن الممانعة الشعبية لمسار الحكومة في تطوير التعليم المدرسي أو الجامعي، مرتبطة بإحساس البعض بأنها تتعامل مع العصرنة بنفس طريقة إدارتها لمشروع تنموي تريد الانتهاء منه سريعا ليضاف إلى قائمة إنجازاتها دون اكتراث بأن هدم منظومة قديمة وبناء أخرى مناسبة لتطورات العصر يحتاج إلى إرادة وقناعة مجتمعية أكثر منها سياسية.

أمام سير الحكومة وحدها دون تشريك الرأي العام في ما تفعل من تطوير وتحديث في المنظومة التعليمية، وجدت نفسها غير قادرة على تذليل مخاوف الناس من كل ما هو معاصر، وكانت النتيجة أن كثيرين ما زالوا يرفضون إلقاء أولادهم في حقل تجارب غير مضمون النتائج، وهي نقطة لم تستوعبها الحكومة أو تحاول إقناع الناس بعوائد ذلك على مستقبل أولادهم وظيفيا واجتماعيا.

يتصدر التعليم قائمة أولويات الأسرة المصرية، ويصل عدد الملتحقين بالمدارس إلى نحو 26 مليون تلميذ، وقرابة 4.5 مليون طالب في المستوى الجامعي، أي أكثر من 27 في المئة من تعداد السكان، وأغلب هذه الفئة يشعرون بتقصير الحكومة، مع أن تطوير المنظومة التعليمية في قائمة أولويات النظام المصري منذ وصول السيسي إلى الحكم.

يظل توجه الحكومة نحو عولمة التعليم ليكون مناسبا لمتطلبات المستقبل بلا قيمة طالما أن الأغلبية غير مقتنعة بالفكرة ولا تستوعب الخطاب الذي يدعو إلى مقاطعة التخصصات التقليدية مقابل نظيرتها الحديثة، وهي إشكالية تتحمل المؤسسات الرسمية جزءا كبيرا منها، لأنها تتبع نظاما عقيما في القبول بالجامعات.

ولدى غالبية الوزارات المتداخلة مع التخصصات الجامعية قائمة بالتخصصات الوظيفية المطلوبة لسنوات مقبلة، لكنها لا تتدخل لإقناع الجامعات بتحديد أعداد القبول سنويا وفق الاحتياجات الفعلية كي يذهب الشباب إلى الكليات المعاصرة التي تتوسع فيها الدولة والحد من التخصصات التقليدية التي تفتح باب القبول لمن لم يحالفه الحظ في دخول كليات القمة.

تحديات وقناعات

Thumbnail

أكد محب الرافعي لـ”العرب” أن بعض المؤسسات التعليمية تتحمل جانبا من مسؤولية استمرار المخاوف المجتمعية من مواكبة التخصصات العصرية في الجامعات، لأن دورها المشاركة بفاعلية في ضرب الموروثات القديمة حول التخصص الدراسي، ولا يجب التعامل مع المجتمع وكأنه قارئ جيد لاحتياجات المستقبل ومطلع على التغيرات العالمية، لأن هذا يتطلب خطابا توعويا شاملا ومقنعا.

جزء من المشكلة أيضا أن بعض كليات القمة تمثل عند أغلب المصريين الباب السحري لتحقيق معايير الوجاهة، باعتبارها تجلب الاحترام والتقدير لمن يلتحق بها، ويظهر خريجوها أمام الناس بصورة الشخص الذي يستحق الفخر، مع أنه قد لا يجد وظيفة، لكن يكفي أنه سيحمل لقب “دكتور” مثلا وهذه ثقافة يصعب تغييرها.

تتلاقى التحديات مع معضلة أكبر ترتبط بغياب الحد الأدنى من الوعي والفهم المجتمعي لطبيعة الكليات العصرية، وعدم تعريف الناس بهويتها ومزاياها وفرصها المستقبلية وتغيّر قناعاتهم المرتبطة بالعادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية التي تربى عليها الشباب، ما يوحي بأن طموحات الحكومة لعولمة وعصرنة التعليم الجامعي في واد، والأغلبية السكانية تسير في طريق آخر تماما.

مشكلة الكثير من الأسر أنها تفرض وجهات نظرها على أولادها عند اختيار التخصص الجامعي بلا اكتراث بمهارات الشباب

وتزداد الأزمة تعقيدا عندما تصطدم الحكومة بأن نسبة الأمية بين السكان تتجاوز 35 في المئة، أي أنه من الصعب للغاية إقناع أرباب الأسر من هذه الفئة بأن تخصصا جامعيا مثل النانو تكنولوجي مستقبله أفضل من الطب والصيدلة، لأن هذه الشريحة تربت على أن خريجي كليات القمة سوف يصبحون مستقبلا من الصفوة دون إدراك لتغير تلك المعادلة جذريا. يصعب فصل المخاوف المجتمعية في مصر عن الانصياع لرغبات الحكومة ووجود ميراث من عدم الثقة في توجهاتها، بما يعرقل إيمان شريحة كبيرة بأنها تخطط بالفعل

للنهضة والتنمية واللحاق بالدول المتحضرة، بعكس شعوب بلدان أخرى متقدمة أصبحت تقتحم تخصصات علمية نادرة لثقتها في صانع القرار، أي أن المشكلة مركبة، وأصبحت بحاجة إلى حلول غير تقليدية.

يتفق أكاديميون على أن تكريس عولمة الجامعات لن يتحقق طالما أن الاختيار بين الماضي والمستقبل في يد الأهالي ولا بديل عن إجبارهم على إعادة النظر في قراراتهم المرهونة بالثقافة القديمة، وتضع أمامهم الحكومة العصرنة كخيار وحيد، لكن عليها أولا غلق التخصصات التي عفّى عليها الزمن بعيدا عن التحجج بأي مبررات لن تجلب سوى المزيد من طوابير البطالة.

ويؤكد هؤلاء أن عدم تدخل الحكومة يعني استمرار تحديد التخصص الأكاديمي أسيرا لرؤى وترشيحات دائرة الأقارب والمعارف، في ظل معاناة كثيرين من عقدة الطبقية. هذا طبيب، وذاك صيدلي، ما يجعل العشوائية متحكمة في قرارات الناس بعيدا عن متطلبات العصر، ما يفرض على الحكومة تغيير آلية الالتحاق بالتخصصات العلمية، لتكون على أساس القدرات وليس الدرجات.

تظل طريقة الالتحاق بالكليات في مصر مثيرة للريبة وتتناقض مع طموحات الرئيس السيسي، ومع ذلك لا تتحرك الحكومة لتغييرها، فقد تتسبب نصف درجة في تغيير مسار الطالب جامعيا، ما يعني أن بعض الشباب الذين يستهويهم التخصص العصري يُستبعدون ولو امتلكوا مهارات وقدرات ولديهم طموحات مستقبلية، ويُجبرون على كليات متحفظ عليها رئاسيا.

16