شاعر تونسي يعيد تركيب الشجرة عبر رموز أخرى تحررها

الشاعر يخلق بديلا رمزيا للشجرة من خلال استعاراته ليعود إلى الجحيم الفردوسي حيث "وجه أبي الحداد".
الخميس 2024/05/09
شجرة الشاعر كائن مختلف (لوحة للفنان سمعان خوام)

تونس - نستعير علامة رمزية لنمثل ولادة الشعر، هي شجرة ذات أنواط. هذه الشجرة لم نشهد على نباتها أو نموها، وإنما شهدنا عليها أصلا ثابتا يرنو إلى السماء، تحلّق بها الناس في زمن الجاهلية قاطبين، تباركوا بها أثناء الحرب، ينيطون أسلحتهم على أغصانها، طالبين “البخت”، عاكفين في ظلالها. لا نصرَ يحقق دون ذات الأنواط.

كثيرون هم الشعراء الجاهليون الذين كتبوا في صورة الحرب ومتعلقاتها من بأس وشجاعة وفروسية، فنظَموا دوالّ في “ظلال” العلامة الرمز/الشجرة. ولم تمُت هذه العلامة الشعرية.

يخلق الشاعر التونسي أشرف القرقني شجرةً تكون علامة للعالمين، هي بديل رمزي لعلامة فرغ اشتغالها الرمزي، ماتت شجرة الأنواط في المخيال، وجاءت محلها تمثلات شعرية أخرى للأشجار. وعنوان مجموعة القرقني الشعرية “صلاة شجرة قبل أن تقطع” ينبئ أن القطع/الموت حادث. فهل يتولد الشعر من موت الشجرة؟

هو نص من دوال لها بدء وختم، وإن تغص أكثر تعِ أن الدال المفرد يُضمر أكثر من دال، هو نص في الحفر، حفريات الدوال. إن يقرأه القارئ مستقيما يجد نفسه فجأة، في وضعية قلب. الشاعر، وهو ينبش، قد يعثر على شيء يسحب به العالم كله. أهو عمل الشاعر أم عمل الساحر؟

إن عمل الشاعر السحري يسحب القارئ من رأسه، ليجعله يقرأ النص معكوسا، القارئ ما عاد يرى أشرف الشاعر وإنما يرى ظل أشرف، فالشاعر يقلب العلاقة بين الدال والمدلول عمدا حتى يريك مرآة الأضداد، فـ”قبل” في العرف اللغوي يضبط زمنا محددا لكن الشاعر اختار أن يصيّره سابحا في لانهائيته. فمن غير البديهي أن يصل الشاعر إلى الأشياء دون علامة/شجرة بديلا رمزيا يهبه سحر الدوال.

◙ عمل الشاعر السحري يسحب القارئ من رأسه ليجعله يقرأ النص معكوسا
◙ عمل الشاعر السحري يسحب القارئ من رأسه ليجعله يقرأ النص معكوسا

تتالى القرائن الزمنية في نص أشرف القرقني في أول قصيدة، إذ لا عنوان لهذه القصيدة خلافا للقصائد الأخرى الموسومة بعناوينها، زمن القصيدة الأولى بلغ إطلاقيته حتى أُزيح العنوان، وتَركنا للبياض، البياضُ هو أيضا علامة على نبش مديد، وعلى ثقب يحملك إلى عالم آخر، هو عالم الشاعر.

"يوما ما/ جئتك/ بذراعين مفتوحين/..".

يخصص هذا الزمن المطلق قصيدة فقصيدة، إن هذه الإطلاقية التي شهدناها في القصيدة الأولى، تختزل فجأة، وتمضي إلى ضديدها، فقصيدة “ومادة” هي تتابع لأزمنة قريبة “بعد غد/ بعد قليل/ أنتهي الآن”، زمن يسير في ضموره، يمضي نحو أفوله، يأفل الزمن، فيأفل الشاعر.

أشرف القرقني في مجموعته شاعر يتخبط مع الزمنَ، فيلتحم به. سطوعُ الشاعر من سطوع الزمن، وأفولُ الشاعر من أفولِ الزمن. إنهما الزمنُ والشاعر قد صُهرا، “وعاشا سعيدين إلى الأبد”. هي أبدية الخلود، حيث جنانُ آدم وشجرةُ آدم المقدسة التي تُخرج المرء من الجنة. أفتكون شجرة أشرف علامة قالبة، فتُرجع المرء إلى الجنة ولا تخرجه منها؟

يعي الشاعر كل هذه المفارقات حين يكتب قصيدته “تعليق أبي العلاء على خبر ولادته في حديث الرواة”، فيؤسس استعاريا فضاءين، فضاء الجنة وفضاء الجحيم. والظاهر أن أشرف القرقني قد نصب نفسه في الجحيم، إذ يرتبط الجحيم رأسا في المخيال الجمعي بألسنة اللهب الصاعدة، إلا أن ألسنة اللهب هذه هي فردوس الشاعر، لأن الحديد باشتغاله الرمزي يُنفث النار فيه، مثلما يلتقط المجوسي النارَ، ولأن الشاعر يحب الحياة حد الاحتراق بها.

“أنا لا أعرفك/ ولا أعرف لماذا أناديك الآن/ لكني أسمع هذا الصوت/ وأراه في سراب مسافتي/ مبتسما/ شاحبا/ وآيلا للتبدد/ وجه أبي الحداد”.

عجيب ما يفعله الشاعر، أشبه بالتمثيل السحري، جامع هو بين علامات أيقونية ولغة مفتوحة على دوال لا تنتهي، وقصائد مفتوحة على مجازات “فرعُها في السماء” وزمن يصهر نفسَه به. عجيب أن يَعجز شاعر/ ساحر أن “يضم الشعر والموت والحزن معا".

لم تقطع الشجرة ولن تقطعَ. زمنُ الشاعر هو الشاعر، والشاعر هنا هو دواله التي لا تنتهي، إذ ينبش طويلا لأنه "يرى جيدا"، عمل الحفر هذا في طبقات اللغة يكثف الأنوات: "أبدأ بالحديث عن الشعر/ فأقع في الحديث عن نفسي".

شعرُ أشرف القرقني في مجموعة “صلاة شجرة قبل أن تقطع"، الصادرة مؤخرا عن منشورات الجمل، قيل في ظلال "ذات الأنواط"، ماتت علامة ذات الأنواط، وخلق الشاعر بديلا رمزيا يعيده إلى الجحيم الفردوسي حيث “وجه أبي الحداد".

12