"في حضرة السوء" قصائد تعبر متاهة عالم الشاعر الداخلي

النصوص تراوح بين الاستتار والتجلي، بين الانكشاف والتخفي، لكنها تشترك في نزعة خفية هي نزعة اللغة.
الاثنين 2024/04/15
في الداخل يصنع الشاعر عالمه (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

إن ننظر في العتبات النصية، نجد أن العنوان لم يبلغ تمامه التركيبي، إذ يخبرنا الشاعر أننا في حضرة السوء والشعر معا. وقد يكون لفظ السوء مخاتلة أو مراوغة ليتساءل القارئ، بأي وجه يمكن أن نقرن الشعر بالسوء؟

خمس وسبعون قصيدة نثر شكلت متن المجموعة الشعرية “في حضرة السوء” للشاعر التونسي محمد العربي، الصادرة عن دار نقوش عربية للنشر. هي قصائد تتراوح بين القصيدة الطويلة، والقصيدة متوسطة الطول. تعمد هذه القصائد في صياغتها على القطعة الشعرية، وتعمد كل قطعة على الاختزال والتكثيف الدلالي.

من قصيدة “الضفة فكرة لا ضفاف لها” يقول العربي: “الشاعر قارب مثقوب/ يرسم المياه/ ويغرق في بياضها”.

للشاعر تصور محموم عن الشعر والشاعر
للشاعر تصور محموم عن الشعر والشاعر

للشاعر تصور محموم عن الشعر والشاعر، حيث يمتزج الشعر بنفس ذاتي، وتبرز لنا نزعة مخصوصة، منبثقة من أزل الشعر، وهي نزعة الشعر على الشعر. هذه الذاتية وسمت النصوص كلها ومضت بنا نحو فرادة الشاعر. هي ذاتية المستويات أو العتبات، فلئن كانت العتبة الأولى متجسدة بضمير “أنا” فإن العتبة الثانية مكشوفة من خلال ضمير الغائب “هو” إضافة إلى أننا نجد عتبات أخرى من مثل “هي” و”أنتَ”.

يكتب “ينظف ثيابه/ تدمع عيناه/ يواصل الكتابة بدم بارد/ بإمكانك أن تفتح عينيك وتصرخَ”.

يراوح الشاعر، إذن، بين الاستتار والتجلي، بين الانكشاف والتخفي. لكن القصائد جميعها تشترك في نزعة خفية، نزعة اللغة. لغة محمد العربي أحادية، بسيطة، تخلو من التواءات وتعقيدات، مبسوطة وخافتة، إلا أن المعنى في حمولته يخزن أكثر من التواء، فلا يدرك القارئ زاوية البدء، ولا زاوية النهاية. فمن قصيدة “فضيلة المشي” يقول: “قد ترسمين طريقا/ فأضيع/ أرسم متاهة/ فلا تعرفين/ أي جهة تختارين”

هذه المتاهة تمتد في قصائد أخرى من مثل “عواء”: “كلامي عواء/ وقلبي كلاب جريحة”

خرج الشاعر أخيرا من متاهته قائلا في “حدق في تجاعيدي”: “انظر/ إني هناك/ بين ملايين الحيوات/ حدق في جبهتي/ ولا ترتجف/ في تلك الندبة الصغيرة كنملة/ ستراني”

من هو حاملٌ لهم اللغة، سيفتش عن لفظ “لغة” في النص كله، هو باحث عن نزعة “اللغة على اللغة” فإذا بالقارئ داخل “الكلمة على الكلمة”. الكلمة عند الشاعر جنس لأنواع، أنواع غزُرت فكثُرت. فالكلمة تحضر بأنيابها، بصدئها، بأذرعها، بضجرها. يحضُن الشاعر كل هذه الأنواع “داخل نص”. يعيش مأزق الكلمة مشتعلة، ينفخ فيها، فتهيج مثلما يهيج عود ثقاب.

يقول “بإمكاني أن أجعلك تطيرين/ فتسألين عن الغيوم/ أنفخ في القصائد/ إلى أن تصير السماء صافية ورحبة/ ويسقط من قلبي ريش كثير”.

يحملك هذا النص ” أنفخ في القصائد” إلى نص الشاعر التونسي آدم فتحي في “نافخ الزجاج الأعمى: أيامه وأعماله”، حيث ينضح طابع طقوسي سحري، ينفخ الشاعر في الكلمة/ القصيدة مثلما ينفخ الله في الروح.

غغ

“أنفخ في الكلمة كي تكبر قليلا/ هكذا أحصل أحيانا على قصيدة”

آدم فتحي ينفخ في الكلمة، محمد العربي ينفخ في القصيدة. كل من الكلمة والقصيدة قصبة ينفخ فيها عازف من جهتين اثنتين. نصان يعرضان في صفحتين متواجهتين “داخل نص” و”نافذة”. إن يدخل القارئ النص، يخرج من النافذة. أنت مع محمد العربي في حركة لولبية، يسحبك إلى نصه طواعية، يخرجك منه فجأة.

“كئيبة كانت نافذتك الزرقاء”. من النافذة تطل على الأشجار والغيوم والبرق، المعنى يلفك وتلفه. ولأن الشاعر يحدس بضيق من معه، فهو يوسع من النافذة لتصير بابا.

يقول “تتركين الباب مفتوحا/ وتنتظرين أن تحمله الأمطار بعيدا”. أنت الآن “داخل نص” لكن الفكرة داخلك لم تبرح مكانها، فكرة تنبهك إلى خطر المغادرة.

يقول: “حذار أن تضع قدميك خارج النص/ ثمة لغم مزروع في مخيلة المارة/ صوت مزعج يقطع أفكارك بسكينك الصدئة/ ثمة حرب خسيسة/ ودم لم يسفك بعد/ الفكرة داخلك الآن/ إنها تشتعل ولا تحرق سواك” القارئ يأنس بشاعره، لا يتركه وحيدا، فيعود إلى النص طوعا. يسحب الشاعر الجميع حتى يبحثوا معه عن مفتاح النص، المعنى. يقول: “.. لا تكشف عن وجهك كاملا أيها المعنى/ دع الحكاية مثيرة ومتوهجة/ ولنغلق الباب قبل أن يبتلعنا البياض الهائل”.

نصوص أربعة “داخل نص”، “نافذة”، “فكرة داخلك الآن”، “غابة زرقاء” تشكل قصيدة واحدة. نص واحد لا يتشقق، شققه الشاعر عمدا لينشئ حركة لولبية أو حركة تشبه الدائرة التي تبدأ بـ”الداخل” وتنتهي بـ”الداخل”. محمد العربي هو شاعر الداخل الذي لا يبرح نصه.

قق

13