الصحراء تنجح في تلبس أبنائها

الفنان الراحل بلقاسم بوقنة يستحق بالفعل لقب صوت الصحراء التونسية، فكل ما فيه من هيئة وسلوك وموسيقى يوحي بأنه ابن البادية، ملتزم بتعاليمها وقيمها السمحة.
الأربعاء 2024/05/08
فنان يعتز بجذوره وأصوله الصحراوية

"إن الصحراء جميلة. مكان نظيف ونقي إلى درجة لا يصدقها عقل. لا شيء يمكنه أن يفسد هناك. إذا مات شيء هناك يتحنط على الفور ويتحجر. صمت الصحراء يحصِّن وينشِّط. ولذيذٌ ذلك الهواء الجاف الذي يلفح الجسد كدواء وينزع عنه كل فساد. والشمس أيضا نقية ومعتدلة. إنها كالأم التي تعلِّم -بقسوة عذبة- أن نبقى متشبثين بالأساسي، والاستغناء عن كل ما هو سطحي”.

هكذا يصف الأديب الإيطالي ماويرتسيو ماجياني الصحراء، وهي بالفعل أم قاسية تمتلك صفات مميزة، أم لم تفشل ولو مرة في إنجاب أطفال يشبهونها، يحملون صفاتها التي تميزهم بين أبناء الوطن الواحد والعالم الأوحد، سواء كانوا في صحراء تونس أو الصحراء الليبية أو صحراء مصر. فالصحراء على عكس بقية التضاريس، ملامح رمالها متشابهة، بيئتها متقاربة وتأثيراتها على ساكنيها متقاربة.

بلقاسم بوقنة، الفنان الذي رحل عن عالمنا الأحد، هو واحد من أبناء الصحراء التونسية. حملها إلينا وإلى أبناء سهول وهضاب وجبال تونس وحتى سواحلها، كأنه يقول “ها أنا، صحراوي بدوي كما يبدو لكم”.

لقد حملها حتى اتحدت مع صحراء العريش في جنوب سيناء بمصر، أين التقى بمن يشبهونه في القيم والسلوكيات حتى وإن اختلفت اللهجات.

من أول لمحة بصر باتجاه هذا الفنان، ستدرك أنه ابن الصحراء، بتلك العمامة السوداء التي يصر على ارتدائها، وبسمرته التي تذكر باحتراق بشرته تحت أشعة الشمس، وبلكنته الجنوبية ذات الكلمات الموزونة. إن تحرك أو مشى أو ضحك، ترسخت في عقلك الفكرة، إنه فعلا مثال حي لما تفعله الصحراء والبادية في أبنائها وكيف تحولهم إلى شخوص هادئة لا تهزها العواصف، شخوص تمشي بثبات وتنطق بالحرف في مكانه المناسب، وتنظر إلى عمق الأشياء، فلا تغريها متغيرات أو مؤثرات ولا يثيرها ما يثير الآخر الذي لا يشبهها.

والصحراء كغيرها من البيئات الأخرى، أثبت الباحثون على مر السنين أنها تؤثر في ساكنيها، فالبيئة هي التي تصنع الإنسان، لا الإنسان صانعها، لذلك تجد أبناء الصحراء يعيشون بنسق حياتي هادئ قد يبدو لسكان المدن الكبيرة نسقا بطيئا مملا مثيرا للتوتر وأحيانا الغضب، وقد يراه البعض كسلا وحبا في الراحة.

وأورثت الصحراء أبناءها حب الشعر ونظم القول، لذلك يخرج علينا منها بين الحين والآخر شعراء أفذاذ، بينما يختار البعض من أبنائها أن يكتبوها ويوصلوا صوتها ويرووا حكاياتهم معها للعالم الخارجي، كالروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي لم يشغله رحيله عن صحرائه وعمله الدبلوماسي عن كتابة حكاية عجائبية عن الصحراء الليبية الشاسعة ومعانيها.

ورغم أننا جميعا في حركة تطور مستمر، وكذلك الصحراء، ورغم أننا في عصر انفتح فيه العالم على بعضه البعض، فصار التغير أكبر والتقليد آفة الغالبية، إلا أن بصمة الصحراء لا تزال واضحة على أبنائها وعاداتهم وتقاليدهم، أكثر من غيرها من البيئات، ويبدو أن أبناء الصحراء أكثر الناس تمسكا بهويتهم، يكفي أن تتأمل أصدقاءك ممن تعرف أنهم قادمون من بين كثبانها، سترى كيف يفرحون ويحزنون، وكيف يفكرون ويتكلمون، وأي سمات تحملها حيواتهم.

قد لا تكون المساحة في هذا العمود كافية للتوسع وإثرائه بدراسات وبحوث عن الصحراء وتأثيرها في البشر، لكنني استرجعت هذه الأمثلة البسيطة لرحيل بلقاسم بوقنة، الفنان التونسي البدوي، الذي ولد وعاش في جنوب تونس، الجنوب الذي تميزه صحراؤه الذهبية وخرج علينا منه فنانون ومبدعون رفعوا راية تونس عاليا.

يستحق الفنان الراحل بلقاسم بوقنة بالفعل لقب صوت الصحراء التونسية، فكل ما فيه من هيئة وسلوك وموسيقى يوحي بأنه ابن البادية، ملتزم بتعاليمها وقيمها السمحة، مرددا أشعار أبنائها ومتبعا قواعدها في الرثاء والهجاء وحتى الغزل.

18