التصوف لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ

ربما يعتقد البعض في بعد حركة التصوف الإسلامي عن الانخراط في الفكر والتاريخ السياسي العربي، بينما هي في جوهر هذا الحراك، وقد شهدت تحولات عديدة وتصنيفات مختلفة بين ما هو سلبي وما هو إيجابي، وهذا ما تدرسه الباحثة والأكاديمية مريم ثابت العبيدي مقدمة صورا أكثر دقة عن الحركة الصوفية من زوايا مختلفة.
ما الأسس النظرية للفكر السياسي الصوفي؟ وماذا قدم التيار الصوفي من أطروحات ومبادئ أسهمت في إثراء الفكر السياسي الإسلامي؟ من هم المتصوفة؟ ما هي السلطة وما هو تعريفها عند الصوفية؟ لماذا ركزت الصوفية على "المريد، الشيخ" ولم يتم التركيز على الأبعاد الاجتماعية للشريعة الإسلامية؟ لماذا نادى الفقهاء والمتكلمين الصوفية بالزندقة والتكفير؟
من هذه التساؤلات وغيرها مثل ما هو تعريف الجهاد وما هي شروطه وأنواعه عند المتصوفة؟ ما هو تعريفهم للحرية، وما هي أنواعها؟ تنطلق الباحثة مريم ثابت العبيدي في دراستها “الفكر السياسي الصوفي – السلطة.. الحقوق.. الحريات”، وذلك انبثاقا من فرضية مُفادها “على عكس التصورات المألوفة فإن للصوفية فكرها السياسي الذي تميزت به عن التيارات الإسلامية الفقهية والكلامية والفلسفية".
إن هذه الدراسة للعبيدي، الصادرة عن دار العربي، تأتي محاولة لسبر أغوار الإسهام الصوفي في مجال الفكر السياسي الإسلامي، والنظر في خصوصياته، ومن ثم تعريفه على أساس يظهر هويته، ولا شك أن مثل تلك المقارنة تجعلنا قبالة لون من ألوان التراث السياسي، والذي تكون له القدرة على إخصاب التفكير في الحداثة السياسية، وتخليقها، وتحريرها من بعض الضعف قبالة التراث.
ترى العبيدي أن التصوف أسهم فكرا وممارسة ورجالات في صنع التاريخ الإسلامي، وتشكيل الكثير من أحداثه، ومازالت الآثار والشواهد ناطقة ومعبرة عن حجم الحضور الصوفي بأشكاله المتنوعة، غير أن مقابل تلك الحقيقة التي تشكل معلما من التاريخ يتساوى في إدراكها أرباب العقول مهما اختلفت منازلهم، هناك غموض واضطراب في فهم أشكال الإسهام الصوفي ومحتواه في ذلك الماضي وحدوده وطبيعته، والشيء الذي يؤدي بصورة أو أخرى إلى زيغ الكثيرين في مواقفهم تجاه التصوف والصوفي عموما.
مصانع الفكر والثقافة
ويظهر ذلك بشكل سافر وواضح في التحيزات الأيديولوجية والمذهبية، وإن من مجالات العمل التاريخي التي يظهر عندها نقص واضح في تغطية الدور الصوفي، إذ لا نكاد نعثر بين ثناياها على ذكر لإسهامات أهل التصوف في مجال الفكر السياسي، فالمراجع والمتتبع لنصوص الفكر السياسي الإسلامي، والتي اعتنت بالتأريخ لهذا العلم والتعريف بنصوصه وأعلامه، يلحظ ضعف الإحالة إلى المرجع الصوفي، وكأنّه غير معدود في أصنافه، لذلك نراهُ يلحق بأصناف الفكر السياسي الأخرى.
وتوضح أن التصوف عند رواده علم باطن، أي علم لا تدرك حقيقته بالحواس، وإنّما بالبصيرة أو القلب الذي هو منبع الحكمة ومصدر المعرفة، وبه يتطلع الصوفي إلى الأمور الخفية، والتي حجبت عن أبصار الخلائق، وقد يكون لذلك العلم طابع مميز في كونه لا يكون إلا عن طريق التجربة، غير أن تلك التجربة لا تُعدّ مصدرا للمعرفة كما هو معلوم عند الفلاسفة التجريبيين، وإنّما هي تجربة ينذرف فيها السالك جمال سفره الروحي، حيث تسكن النفس في عالم دائم الاتصال بالله.
ونظرا إلى ما شاهده المتصوفة من عجائب يعجز العقل عن استيعابها فقد لجأوا إلى لغة رمزية تعبر عن مواجدهم وكتاباتهم، فكانت لغتهم موحدة المعاني ذات شفرة خاصة، خوفا من واقع ظالم، والتي تحتاج بطبيعة الحال إلى تأويل يتلاءم مع قواعد تلك اللغة، فكان الرمز من سمات الخطاب الصوفي قديما وحديثا.
وتلفت العبيدي إلى أن الأوضاع السياسية تُعدّ من أهم الأسباب التي كانت وراء نشأة التصوف؛ فنتيجة اتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول الكثير من العادات والتقاليد الغريبة عن الإسلام وتخلي المسلمين عن الكثير من أمور دينهم والتكاسل عن أداء الفرائض والعبادات والإقبال على الملذات وشيوع مجالس الخمر والغناء وكثرة أماكن اللهو، فضلا عن الفتنة الداخلية وقيام الحروب الأهلية واستشعار بعض الصحابة خطورة الجو المشحون بالخلافات والاضطرابات السياسية، آثروا أن يقفوا موقف الحياد. ولعلهم فعلوا ذلك إيثارا للسلامة، وابتعادا عن الفتنة التي هي أشد من القتل، والعيش في عزلة تامة.
وتقول إن مصدر التصوف يكمن في كل من القرآن والسنة، غير أنه لا يخفى علينا تأثير بعض الثقافات الأجنبية في التصوف الإسلامي، والذي بدأ جليا على بعض أفكارهم، ولاسيما أفكار أئمته؛ كابن عربي وابن سبعين والسهروردي الشهيد وغيرهم، خاصة في مسألة النبوة والولاية وغير ذلك. وقد عرفت الصوفية بمرور الوقت تطوراً ملحوظاً وإيجابيا في وظائفها من التعليم إلى العبادة إلى حل قضايا الناس، ودورا لعابري السبيل، وإيواء الفقراء والمساكين، كل ذلك كان عن طريق زواياها، فكانت أشبه بالمصانع التي تخرج رجال الفكر والثقافة، وقد جاهدت بالسيف والقلم، وأسهمت في التكوينين التربوي والثقافي للأجيال.
◙ التصوف له وجهان سلبي وإيجابي، فالمتصوفة أنتجوا سلوكا سياسيا معارضا ثوريا كما أنتجوا سلوكا تخاذليا منضبطا
وترى العبيدي أنه بالرغم من أن المتصوفة اعتبروا أن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس وهو أعظم جهاد، حيث تكون حياة الصوفي في رحلة جهاد ومجاهدة لملاقاة الله تعالى، غير أن ذلك الجهاد الروحي، وفي أوقات كثيرة، لم يمنع المتصوفة من المشاركة الفعلية في الحياة السياسية والجهاد، ولا يمكن أن نتجاوز الدور المهم الذي قامت به الطرائق الصوفية في مقاومة الاحتلال بالرغم من تذبذب ذلك الدور، والذي تراوح ما بين السلبية والإيجابية في أحيان كثيرة.
وتلفت إلى أن المتصوفة احتلوا مكانة خاصة لدى العامة ولدى بعض السلاطين، وقد حاولوا تأكيد تلك المكانة عن طريق الجهاد، والمشاركة في الحروب، وبناء الأربطة للدفاع عن الأمة الإسلامية، والنصح للسلاطين، ودفع المظالم.
توضح العبيدي أن التصوف في جانبيه السلبي والايجابي كان تقويما للسلطة السياسية، وسلطة الدولة والسلطان، وفي الجانب السلبي منه هو نوع من محاولة تحصيل المنفعة المتبادلة ما بين الحاكم أو السلطان والرعية، وفي أحيان كثيرة تم استخدام المتصوفة لتطويع العامة ودفعهم إلى مهادنة الحكام وعدم الثورة عليهم، وفي مناسبات كثيرة أعلنوا أنّهم لا يثورون على الحاكم ظنا منهم أنّ ذلك الموقف السلبي أكثر مواءمة للشريعة الإسلامية؛ كون الحاكم هو ولي الأمر.
وبمرور الوقت، وخاصة في الوقت الحاضر، تطورت المشاركة الفعلية للصوفية بفعل طرقها وزواياها، حيث أصبحت للزوايا قيمة حضارية مهمة في المجتمعات العربية والإسلامية لما أسهمت به من الحفاظ على الهوية الوطنية والإسلامية، ومقاومة الاحتلال بكل أشكاله من العسكري الاستيطاني إلى الثقافي الذي مس ثقافات المجتمعات وتقاليدها، ووقفت في وجه الاحتلال.
وتكشف العبيدي أن التصوف في حقيقة الأمر لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ، فقد صارت مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يؤدي دوراً تنمويا وسياسيًا واجتماعيًا، وبعضها الثاني نما في الفلكلور وتم اختزاله في الظواهر الاحتفالية، وبعضها الثالث يسامح في التعامل مع الآخرين بما في ذلك اتباع الطرائق الصوفية المنافسة، كما أن بعضها الآخر تعاون مع الاحتلال وانساق وراء برامج دمج العالم الإسلامي في الحضارة والثقافة العالميتين.
فرادة التصوف
وبناءً على ذلك نرى أن المتصوفة أنتجوا سلوكا سياسيا معارضا ثوريا في أحيان كثيرة، وتخاذليا منضبطا في المدد نفسها، فقناعات المؤسسات الصوفية ليست نمطية أو واحدة يمكن القياس عليها أو تقييمها، وهناك طرائق صوفية كافحت الاحتلال بصبر وإرادة، وأخرى تعاونت معه، وهناك طرائق نهضت بمجتمعاتها، وكونت كيانات سياسية ذات شأن، وأعطت نماذج حرة للعمل السياسي الفعال المؤطر بالتطورات الصوفية، كما أن هناك طرائق أخرى عاشت عالة على مجتمعاتها في الزوايا والربط والخانقاوات، ولم تحرك ساكنا في الواقع الذي نعيش فيه.
وترى العبيدي أن المتصوفة حولوا مفهوم الحقوق إلى بؤرة وجودهم الجوهرية، وحاولوا في سعيهم العملي أن يجسدوا الحق، ويتمثلون في يقينيته عن طريق مصنفاتهم التي عبّرت أصدق تعبير عن تمسكهم برعاية الحقوق، إذا ما علمنا أن فكر التصوف يهتم بربط العلاقة بين الحقوق الإنسانية والقيم الإنسانية، فالتصوف يقدم أهم أسس الرياضة الروحية للإنسان، لذلك شكلت المنظومة الصوفية الباب لمعالجة الكثير من الاختلال في مجال الحقوق، وإن الثقافة الصوفية لبنة أساسية لبناء المواطنة، كما أن ثقافة الحقوق في بُعديها العبودي والإلهي لتصحيح المفاهيم الخاصة بالدين والتدين، فالحديث عن منظومة الحقوق يقتضي الحديث عن فلسفة دينية.
وتضيف أن التصوف تفرد عن غيره من الأفكار والفلسفات بكونه يضم إلى عالمه الفسيح كل صنوف الحب وألوانه ونزعاته من الألفة والمحبة لتمضي صعودا إلى العشق. لقد حاولت الثقافة الصوفية إزالة جليد العلاقات ما بين الإنسان وأخيه الإنسان بروح التسامح والنظرة المتساوية إلى كل الملل والنحل والنزعات، متجاوزة حدود الأديان ورسومها التي يكفر بعضها بعضا، ويستبيح بعضها أموال وأعراض ودماء الطرف المخالف أو المختلف بشتى الذرائع والأسباب.
وتؤكد العبيدي أن المتصوفة لا يعترفون بالعنصرية، وإنّما يتفاضل الناس عند الله على قدر بلوغهم مراتب الطاعة الإلهية. وإن التصوف الإسلامي لم يفرق بين الرجل والمرأة الا بالعمل الصالح، واتخذ موقفا متحضرا من المرأة المسلمة الصالحة العابدة، وساعدها في دفع طاقتها الروحية صوب الاعتصام بحبل الله، ومواكبة حركة الحياة ومشاركة مجتمعها الإسلامي في شتى المجالات، والعمل على رقيه.
وتخلص العبيدي إلى أن المنصف في قضية التصوف ودوره في التاريخ الإسلامي ومدى إسهامه السلبي أو الإيجابي في السلم الحضاري للأمة الإسلامية لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينكر أنّ الظاهرة الصوفية قد فرضت نفسها بقوة على الأصعدة كافة في حياتنا المعاصرة، وبرهنت بقوة على قوتها وديمومتها عكس بعض التيارات والمذاهب التي تابعت تترى في التاريخ الفكري الإسلامي. إن جملة النتائج التي تم التوصل إليها من وراء هذه الدراسة تجعلنا نجزم بأن التصوف ومدارس الطرائق الصوفية ومصادرها الأصلية والأصيلة، وعبر زواياها المختلفة تسعى إلى تمثيل الفضاء الفكري الواسع، والإلهام لتُراثينا العربي والإسلامي. لذلك أدعو إلى التخلص من إسار الأحكام الجاهزة والمرافق الختمية تجاه الدور الوظيفي للتصوف في النهضة العربية المأمولة، كما أن هناك حاجة ماسة إلى المزيد من البحث والتعقيب للدور السياسي الذي من الممكن أن يقوم به التصوف في مجتمعاتنا المعاصرة.