بلقاسم بوقنة صوت الصحراء التونسية الذي لفت برحيله الانتباه إلى فنه

فنان عاش ومات زاهدا في الظهور الإعلامي والشهرة منشغلا بموسيقاه.
الثلاثاء 2024/05/07
فنان عاش ورحل بهدوء

ودعت تونس الأحد واحدا من أبنائها الفنانين؛ فنان يندر وجوده ويستحيل تكراره، هو بلقاسم بوقنة، صوت الصحراء الذي حمل أفراحها وأتراحها ليغرد بها في مهرجانات ومحافل قربته من الناس، وتحديدا من المتألمين والبسطاء ومن لا يحبون الظهور بل يعيشون البساطة المفرطة.

يعتبر الفنان بلقاسم بوقنة حالة فنية خاصة ومتميزة في تونس، انطلق من أعماق الصحراء صوتا شاديا وحاديا بعيون الشعر الشعبي على أنغام موسيقاه التي كان يكتفي في تقديمها بعزفه على العود مصحوبا بآلة إيقاع، تأكيدا على قناعة راسخة لدى البدو بأن الشعر هو الأصل، وأن الكلمة هي التي تحدد مسارات الأغنية فتمنحها البريق وتضمن لها الخلود.

في بداية تسعينات القرن الماضي بدأت ملامح تجربة بوقنة تتشكل من خلال عدد من الأغاني الناجحة لشعراء شعبيين تونسيين كبار مثل أحمد البرغوثي ومحمد الطويل وسالم بوخف وسالم بن عمران ورضا عبداللطيف وبلقاسم عبداللطيف والبشير بن عبدالعظيم والبشير قريرة وغيرهم. وكان في الوقت ذاته يواصل عمله كمدرس ابتدائي في مدينته دوز بوابة الصحراء التي تبعد عن العاصمة التونسية في اتجاه الجنوب بحوالي 550 كيلومترا، متمسكا بحيائه البدوي، بعيدا عن الإعلام، يكتفي بتسجيل أغانيه في أستوديو مغلق بحضور مهندس الصوت وضابط الإيقاع.

تجربة بلقاسم بوقنة تميزت بمحافظته على خصوصيته الفنية وعدم القفز عليها، وكان في منتهى المصالحة والانسجام مع نفسه

وفي أحد تصريحاته الصحفية النادرة تحدث بوقنة عن بداياته فقال “الأغنية التي جعلتني أدخل مجال الغناء هي ‘بعيد برّك يا سمح الصفة’ والتي كتبها المرحوم عمر بن خليفة البازمي سنة 1937، وللأغنية حكاية طريفة ومحزنة نوعا ما، حيث تمّ تجنيد صاحب الأغنية من قبل السلطات الفرنسية ليلة دخلته، ووضعوه في منطقة برج الخضراء لمدة ثلاث سنوات، أثرت عليه تلك الفترة تأثيرا كبيرا مّا غيّر من طباعه وحالته النفسيّة فرقّ له قلب المسؤول في الجيش ومنحه عطلة، ولمّا كانت وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة هي الجمال والصحراء واسعة تستوجب دليلا، فقد بحث عن دليل اشترط عليه من باب الدعابة أن يسمعه أغنية حتى يوصله، وبدأت الحكاية هكذا ومع أنه لم يكن شاعرا إلاّ أنه انطلق في أغنيته بعيد برّك يا سمح الصفة”.

ويضيف “كان البازمي كلّما وصل قرية أو مكانا ما يقول فيه شعرا من برج الخضراء إلى دوز، والعجيب أنك إذا وضعت أمامك خارطة الجنوب التونسي ستجد تطابقا غريبا بين وصفه لتلك المناطق التي مر بها وما هو موجود، إلى أن وصل إلي قريته، وعلى مستوى لحن الأغنية قمنا بالاشتغال عليه بشكل جديد ليخرج على ما هو عليه”.

وقالت وزارة الشؤون الثقافية التونسية إنها “تنعى بكل حسرة وأسى، الفنان الشعبي بلقاسم بوقنة الذي وافته المنية مساء الأحد 05 مايو 2024، عن سنّ تناهز 61 عاما”. وأضافت أن “الرّاحل من مواليد يوم 27 سبتمبر من سنة 1963، أصيل منطقة القلعة من معتمدية دوز الشمالية واشتهر بإتقانه للغناء البدوي والأغاني التراثية ذات الإيقاع الصحراوي، وكان صاحب أداء مرهف وقدرة كبيرة على التأثير، وقد عمل أيضا مدرّسا للمرحلة الابتدائية”.

وذكرت الوزارة أن الفنان الراحل أنتج حوالي 11 ألبوما، وعُرف بعدد هام من الأغاني الناجحة على غرار “عندي سبع سنين تعدوا” و”الضحضاح” و”سهران” و”يا الوالدة” و”يا سمح الصيفة” وغيرها.

بوقنة حالة فنية خاصة ومتميزة في تونس، انطلق من أعماق الصحراء صوتا شاديا وحاديا بعيون الشعر الشعبي
بوقنة حالة فنية خاصة ومتميزة في تونس، انطلق من أعماق الصحراء صوتا شاديا وحاديا بعيون الشعر الشعبي

وأوضحت ولاية قبلّي التي ينتمي إليها الراحل “أن بوقنة توفي بعد مسيرة فنية متميزة ساهم خلالها بصوته المتفرد في انتشار الأغنية البدوية والصحراوية محققا نجاحات عديدة على المستويين الوطني والدولي مخلدا عديد الأعمال الفنية”.

ومن أبرز الأغاني التي أداها بوقنة أغنية “على الله” التي انتشرت لاحقا بصوت المطربة أمينة فاخت، كما غنتها الفنانة إيمان الشريف، ويرى المتابعون للشأن الفني أن نجاح الفنان الراحل جاء نتيجة تعدد وتنوع المواضيع التي تغنى بها كالحب والهجر والغربة والأم والطبيعة من خلال نصوص شعبية بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر وبعضها الآخر لشعراء حاليين ممن حافظوا على الهوية الثقافية للجنوب كوطن للقصيد.

وتميزت تجربة بلقاسم بوقنة بمحافظته على خصوصيته الفنية وعدم القفز عليها، وكان في منتهى المصالحة والانسجام مع نفسه، ولم يفكر في مغادرة بيئته الاجتماعية والثقافية، فيما كانت أغانيه وألحانه تتنقل بحرية بين مختلف مناطق البلاد وفي الجارتين ليبيا والجزائر. كان زاهدا في الشهرة والنجومية، يعيش حياته من داخل إيقاعاته الذاتية، وبرؤية تنطبق على امتدادات الصحراء في اتساعها وغموضها.

بالإعلان عن رحيله شعر التونسيون بحزن الفراق على فنان لم ينل ما يستحقه من العناية والرعاية والتكريم، ولم يجد دعما حقيقيا لمواجهة أزمته الصحية التي أدت إلى رحيله، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي اهتماما واسعا بوفاة بوقنة وكأن الجمهور الواسع يكتشفه أو هو يعيد اكتشافه من جديد. لقد كان نخلة تغني في صحراء الجنوب قبل أن تعصف بها الأقدار.

14