"أنطولوجيا اليد" تدريبات طقوسية في مواجهة الكتابة

محمود هدايت يحاور اليد والوجود البشري في رحلة مجنونة.
الخميس 2024/04/25
رحلة حسية وفلسفية عبر الأيدي  (لوحة للفنانة نور عسلية)

من وظائف الكتابة الأدبية أن تعيد تقييمنا أو فهمنا وتصورنا للعالم ولذواتنا وأفكارنا وحتى أجسادنا وكل ما يعتمل في الوجود البشري، وإذا كانت الفلسفة تستنطق أكثر الأشياء اعتيادية فإن الأدب يماهيها في ذلك، وهنا نقرأ كتاب “أنطولوجيا اليد” للكاتب العراقي محمود هدايت الذي يبدو خارج التجنيس الأدبي المتعارف عليه، مسائلا قناعاتنا وفاتحا آفاقا أخرى للتفكير.

لأن القراءة لمحمود هدايت تحتاج إلى أكثر من لغة وبصيرة، ولأنها عبارة عن مشاهد مسرحية تبالغ في مغالاتها الفلسفية وتفاصيلها السردية للتراجيديا الإنسانية والانبعاث والفناء والخلود، تحتاج الكتابة عنه أيضا إلى أكثر من عين وأعمق من رؤية وبحث، لرصد احتمالات الصورة وتفاعلات الروح والجسد بين الكون والكيان والكينونة.

كتابات هدايت تعتبر مأدبة فكرية وجمالية في آن، تستفز الفضول الحسي في تماس الخواء والامتلاء تلك التي تقع على ذلك الحد الرفيع بين العقل والجنون الذي يقدسه في محراب الإنسانية، التي تستلهم طقوسها من تفانينه وتستعيد مواسم البناء من فوضاه، فوحده الجنون دليل ودلالة قادته مجازا ومفهوما نحو “أنطولوجيا اليد” رحلة ورقية تفصيلية ونصوص جمالية في 133 صفحة.

أنطولوجيا اليد هي تدريبات طقوسية في مواجهة الكتابة أو هي ملاسنات منتزعة من الزمن والأشياء صاغها محمود هدايت بلغة عقله وتفاصيل انتمائه لعوالم المعرفة والفكر الإنسانية منذ البدء حيث الكلمة ومنذ البدء حيث يد الخالق كونت الحاضر والحضور، ورفعت التساؤلات أبعد في عمق وجوديته وسرياليته بين الضوء الداكن والسواد المنير.

بوكس

“اليد التي قدت من رمل تحول كل ما يأتي به النهر فتصهره كتابة” يقول روني شار.

إنه الغموض الخفي في تكوين اليد إنها الرحلة الحسية الناضجة والمجنونة التي أراد من خلالها محمود هداية أن يسبح في هواء الفراغ من المنطلق ومنذ مهد بدايات التكوين الفردي للمنهج الجماعي مراوحات بين “الأنا” و”النحن” انصهار يتكاثف كتابة.

من أين تبدأ اليد بحثها؟ وهل تموت بعد كتاباتها أو بعد أن تشق درب الابداع الكامن في تفاصيلها المنفلتة عن الجسد؟ ذلك هو المفهوم الذي مسرحه وأخرجه وكتبه وتكاتب به هدايت مع ذاته والمجموعة، يقول “لا تقيم اليد في الجسد، هي هواء يطوف صفيح الموت باستدعاء الحاسة من غيابها الأثيري، يا لنشوة المجنون وهو ينثر يده في مدى موته السائل من أصابعه الهوائية هواء من موت”.

محمود هدايت كما يقول عنه الشاعر والكاتب اللبناني بول شاوول ويقدمه دوما “هذا الذي كنت أتمنى أن أكونه في ذلك الزمن البعيد.. إنه من سلالة المنقرضين”، وهو ما يبدو حقيقة في كل أثر يرصد فيه بزوايا الباحث العالم العارف المنتسب لعقل العابرين بآثارهم في الإنسانية.

إن ما يفرضه هدايت على القارئ في هذا الكتاب هو تحليق آخر مختلف، مغامرة حرة في الفضاء، فلسفة تتعقد لتفتح أفق الفهم تساؤلات وجود ينكر وجوده وأصل يبتكر تفاصيله، يتماهى أبعد في الجنون ليعود أعقل في الرصد الذي يمنحه القدرة على مواجهة الشمس بأجنحة إيكاروس وتخطيها نحو فضاءات حرة استباحت ذلك العمق المجنون في تفاصيل هاملت.

يكتب هدايت “أين اختبأتْ يد الإله بعدما نفخ الروح بآدم؟ أين نامتْ يد قابيل بعد تقطيعها للجثة؟ أين ذهبتْ يد الشاعر عندما أكمل كتابة قصيده؟ ما لون يد كافكا قبيْل تحوله إلى صرصار؟ أكانت لأوديب يد أم ثمة من أعانه على فقْأ عينيه؟ وما الحركة الأخيرة ليده في جسد جوكاستا؟ كيف استطاع برجمان أن يلعب الشطرنج مع الموت وما ردة فعل يده آنذاك؟ ما النكتة التي تبادلها دوشامب مع يده عندما أتى بالمبولة؟ ما الذي قاله هاينر مولر ليده عندما كتب “هاملت ماكينة”؟ أهي كتابة اليد عن اليد؟ يقال إن هاملت هو منْ سرق يد شكسبير عند موته بذريعة حاجته الدائمة لاستشارتها. بعد أنْ قرأْنا “في انتظار غودو” هل سأل أحد نفسه: أين تعيش يد صموئيل بيكيت الآن”.

في أنطولوجيا اليد ينطلق هدايت من عوالم الجنون لرصد الفكرة والمفهوم بين العقل والجسد ليفصل اليد في حركتها الحرة عنهما وكأنها لا تتوقف إلا بمزاجها ولا تنطلق إلا بتكوينها الحر، واليد تلك اليد هي التي ترصد تفاصيل الكون في خلق الابداع حيث التساؤلات العفوية تحمل انطباعات الفعل الإبداعي بين تلقائية الحضور ومقصدية التنفيذ لذلك يتكامل العقل والجنون لأن المجانين في تكوينات هدايت هم أصحاب قرار لا يتصرفون بعفوية، بل ينفلتون نحو ثنايا عبقرية يعجز العاقلون عن رصدها وتلك تكوينات الخلود في الابداع الذي تمادى أبعد وأعمق في تفاصيل الرصد التي ثبتتها اليد وانطولوجيا العوالم الخفية.

ويذكر أن كتاب “أنطولوجيا اليد” صدر عن دار وتر للنشر والتوزيع العراق، تصميم الغلاف الفنان التشكيلي كريم سعدون.

12