المفكرة والفنانة مارلين يونس لـ"العرب": الدهشة أوديسة المعرفة

في عالم يزداد فيه الفصل المعرفي بشكل مصطنع وحاد، ما أنتج علوما منفصلة وبالتالي ذواتا تقنية أحادية التفكير، صار لزاما علينا إعادة الاعتبار لأهم فضائل المعرفة التي تقوم على التشابك والتقاطع، وهنا فإن الفلسفة هي ما يحقق ذلك، إذ تجمع في اشتغالها العلمي الفكري بالفني الجمالي والنفسي والاجتماعي.. إلخ. “العرب” كان لها هذا الحوار مع المفكرة والباحثة والفنانة اللبنانية مارلين يونس التي تكرس تجربتها لهذا التلاقي المعرفي.
إن الاختصاص برأي عدد من الباحثين قد ضيق أفق التفكير وأكسب الإنسان صفة وظيفية على حساب الكينونة الحيوية، وهذا ما أدرك مآلاته الكارثية الفلاسفة المحدثون وفي مقدمتهم جيل دولوز الذي أشار إلى أن المجالات التي تبدو مختلفة في الظاهر قد تلتقي في البعد المحايث، وبذلك لايصح النظر إلى الحقول المعرفية على اعتبار أنها وحدات مكتفية بآلياتها المعروفة.
لا يختلف ما يصبو إليه الفيلسوف الفرنسي فلاديمر جانكلفيتش من توسيع الملعب الفلسفي عن المنحى الجذموري لدى صاحب مقولات “التكرار، الاختلاف، المفاهيمية” إذ لاتنفصل الفلسفة في منهج جانكلفيتش عن البعدين الجمالي والأخلاقي وهو بخلاف فتغنشتاين لا يرى الصمت إشهارا بالإخفاق في الفهم بقدر ما يكون شكلا من التعبير الفلسفي المسكون بالحس الجمالي. والملمح الأجلي في أفكار جانكلفيتش هو الاهتمام بالموسيقى وما من موضوع بنظره يعادلها ثراء وقوة وبلاغة في الكشف والتفرد بإضفائها جوا من الحب والبركة والاحتفالية إلى الكون.
يمكن للمرء أن يعيش من دون الموسيقى ومن دون الفلسفة ومن دون الحب لكن هذه النسخة للحياة ليست بجودة عالية. ما يقوله جانكلفيتش عن الموسيقى يذكر بمقولة نيتشه “إن الحياة من دون الموسيقى هي غلطة” الأمر الذي حدا بالباحثة اللبنانية مارلين يونس لاختيار فلسفة جانكلفيتش موضوعا لأطروحة الدكتوراه التي نشرتها تاليا بين دفتي كتاب بعنوان “فلاديمر جانكلفيتش محاكمة أخلاقية في هدى جمالي”.
ساهمت يونس بكتابة عدة بحوث في موسوعة الفلسفة الفرنسية المعاصرة. إضافة إلى اهتماماتها الفلسفية على الصعيد الأكاديمي بالتأليف والدراسات حصلت على شهادة الماجستير في علم الفنون والآثار وشهادة دبلوم في الغناء الشرقي من المعهد الوطني العالي للموسيقى، وألفت عددا من الألحان والأغاني، أكثر من ذلك سجلت مجموعة من الأغاني منها “أسرار بيروت، وحدي، أنا أسكن لغة”. صوتها أقرب إلى مدرسة أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وأسمهان.
الفلسفة والتجربة الذاتية
يمثل الفن برأي مارلين يونس مؤشرا لأطوار الحضارة إذا ساد الفن بلونه الراقي المعبر عن السمو في التذوق فهذا يعني أن المناخ المجتمعي يكون مواتيا للنهوض الفكري والثقافي أما المجتمع الذي يغزوه الفن المهتريء فبالتأكيد يبوء بالفشل في محاولاته الرامية للخروج من قصوره العقلي. حول اشتغالاتها المتشعبة كان لنا حوار مع مارلين يونس.
العرب: مجال اهتماماتك واسع ومتعدد بدءا من الموسيقى مرورا بالتأليف وعلم الآثار وصولا إلى الفلسفة والمشاركة في الموسوعات بكتابة الدراسات، لماذا هذا التمدد الجذموري بالحقول المختلفة؟
مارلين يونس: من مقومات حراك الفعل الوجودي الانتباه من غفلة الحياة وذلك بهدف اقتناص اللحظات الهاربة، ومحاربة القلق الوجودي وبخاصة الهم المصيري الذي نعرف فعله (Quod) ولا نعرف لحظة حدوثه أو صيغته أو طريقته (Quid)، وغياب الطريقة هو الدافع إلى البحث الدائم عن سر الحياة.
من المعلوم أن الإنسان هو كائن زمني متعدد الأبعاد (pluridimensionnel) ومفطور على المعرفة، يشغل وجوده الهم الكياني فيبحث ويتساءل وتتمحور محطات بحثه على عدة منعطفات. والحال هذه، أحاول جاهدة وبكل ملكاتي الإدراكية أن أهزم السأم وأملأ الفراغ، لذا فقد شغلتني الأسئلة الوجودية الكبرى المنسلة في المنحى الميتافيزيقي، ورأيت أن خير من يجسد هذا المآل الموسيقى والفلسفة، ذلك أن الهشاشة الوجودية لم تشغلني يوما. وكنت أخاف من ردح الانتظار غير أنني استنرت، بالرغم من أنه سيف ذو حدين، إن في جانب منه تقبع اليقظة أو لفتة التأمل والبحث عن هوية الذات (ipséité). هذا الانتظار الذي يمنح المعنى، للوقت المعطى لنا، وللحياة أيضا من خلال الوقت الذي هو وعي، والذي يشغل أيضا التعاقبات أو الفواصل الزمنية الحياتية (Les intervalles du temps) المندرجة داخل الوقت. ومن اليقظة أو الانتباه الذي يشغله الوعي، والديمومة التي يشغلها الانتظار يبدأ بناء الذات.
غرفت من التمدد الريزوماتيكي أو الجذموري (Rhizome) هذا الأفهوم الدولوزي الذي يمثل الوصل والتباين وحال التشابك (enchevêtrement) والتعقد والتقاطع والمجموعات المركبة، لأنني اعتبر أن هذه الكيانات الأيكولوجية أو البيولوجية ومراياها البلورية المترابطة تتمثل بقدرات الإنسان المكثفة أو قدرات الوعي المرتبطة بعلائق وحركات داخلية وديناميكية مع ما يحيط بها. ومن المفيد القول إنني لا ولم أعتبر أن الفلسفة هي اختصاص بل منحى وجودي، وهي غائرة ومتأصلة في صلب الكيان الإنساني، حيث الصيغ التكاثرية والتعددية التي تعتبر أولوية أنطولوجية وضرورة وجودية للإنسان.
العرب: اخترت فلسفة فلاديمر جانكلفيتش موضوعا لأطروحة الدكتوراة هل أردت بذلك البحث عن شكل جديد للتناول الفلسفي؟
مارلين يونس: إن جانكلفيتش هو فيلسوف غزير الإنتاج (prolifique) طرح أهم المسائل الفلسفية “الميتافيزيقا والإطيقا والموسيقى”. ونظرا إلى تشابه مواضيعنا المعرفية التي نحب الاشتغال عليها ونحب طرحها، والإلمام بها اخترته لأطروحة الدكتوراة، والغريب في عنوان الموضوع أنني جعلت الإستطيقا قاعدة الإطيقا وليس العكس. وهذا من المواضيع الجديدة، وكشفت عن الممهدات المنهجية واصطلاح المفاهيم في كتابي. وعن هذا التفاؤل الديمومي المتجدد بالرغم من انهمام الانسان، وفعل الإمكان الدائم الحصول في أي وقت، والمغامرة ومحطاتها، والانتظار كمشروع مفتوح، وقطبية الحاضر المستقبلية. وهذا اللاشيء والأشياء الصغيرة التي تصبح أحداثا كبيرة، والآفاق المستقبلية المتحققة دائما.
العرب: مادور الاهتمامات والتجارب الشخصية والحياتية في تحديد في المواضيع التي يتم الاشتغال عليها؟
مارلين يونس: من الطبيعي أن تندرج مسارات التفكير في سياق الاشتغال الفلسفي والفني، ذلك أن لبنات الإنسان هي هياكل تتشكل بالتجارب، من خلال عيش اختباراتها وطرح تساؤلاتها، والتجارب الشخصية تتجلى في كيفية فهم العلاقة القائمة بين الإنسان والواقع، ومن الطبيعي أن نتأثر بها فهي حركة ارتدادية للفكر. وأن تتحدث عن الموسيقى في الفلسفة وعن الفلسفة في الموسيقى فهذا أمر دقيق وصعب للذي لا يتمتع بموهبة التأليف أو الغناء أو بالحس النقدي التساؤلي والتفكير العميق في الأشياء.
والحال هذه، فمن الطبيعي عندما نتحدث عن الموسيقى كظاهرة مولدة لمشكلات ميتافيزيقية، أنني أعيش هذا الأمر وأفهم المقصود منه المترتب من سحر النغم، وأتحسس دوافعه في الفلسفة لأن مهمتها توسيع الأفكار. من هنا يمكنني القول إنني لا أستطيع التحدث عن موضوع الإستطيقا إذا كنت لا أتمتع بالموهبة الفنية، كما لا يمكنني التحدث عن الأخلاق بمعزل عن تطبيقها على أرض الواقع.
الوعي الجمالي والسخرية
الفن برأي مارلين يونس مؤشر لأطوار الحضارة إذا ساد فهذا يعني أن المناخ المجتمعي مناسب للنهوض الفكري والثقافي
العرب: الفن والبعد الجمالي من المحاور الرئيسة في فلسفة فلاديمر جانكلفيتش، أين يتقاطع الوعي الجمالي مع الوعي الفلسفي؟
مارلين يونس: مما لا شك فيه أن الفلسفة تحرص على ضبط النزعة الشطحية وتتمسك بالميل الانعتاقي الذي يدفع الإنسان إلى الانفلات من حدود المكان والزمان، ويتقاطع في المشغل الفلسفي المرقب الميتافيزيقي الذي يحوي الجماليات وبخاصة الموسيقى والمظهر الفينومينولوجي الذي تتبلور فيه تجليات أو مرايا الإبداعات، وهذا يمثل إعلان الماهية في الظواهر، وكل ذلك يتم في انبساط (déploiement) الاختلاف. ثمة أسئلة لا إجابة عليها سوى بالصمت تلك الأسئلة الكامنة في نقطة تقاطع هذه المحطات الفلسفية: حدود الوعي بالجمال وحدود التناهي بكشف اللامتناهي وحدود الاكتفاء باللاإشباع وحدود الاكتمال باللا اكتمال. وهذا الأمر يلقى صدى عند نيتشه “يا للرغبة المتعطشة إلى الرغبة في شيء، ويا للجوع الحارق في الشبع الذي يتطلب التحلي بالصفاء الكافي للاستمتاع به”.
نحن نعلم أن فكرة المعرفة الجمالية منسلة في كل المتون الفلسفية، هذا الرقص الحر بين المخيلة والذهن يبحث من خلاله الوعي الجمالي عن القيمة الجمالية في الفلسفة، وهنا يحضر دور اللغة وبراعتها فتستعير أحيانا من أدواتها اليوتوبية لترجمة القيمة الجمالية وبراعتها وأحيانا تغرق في الصمت الذي يجعل منا مفكرين ولو لفترة وجيزة، وأحيانا أخرى تضيع بين الاستيهام الرنان والمطنب للسحر الرمزي والاستلهام للثوابت، وبين الاستنهاض الخيالي الماضوي بالفن والفلسفة العاكسة لتكويننا من خلال الاستئثار بنعمة العقل الفلسفي. لكن عندما أرى عجز الفكر عن السؤال أو عجز الحس عن الشعور باللذة أقول ربما نحتاج إلى بنية تفكرية جديدة أو بشكل آخر أحيانا يجعل منا الصمت مفكرين أمام الأشياء الجميلة ولو لفترة قصيرة.
العرب: اعتبر جانكلفيتش السخرية تقنية يعتمد عليها الفيلسوف إلى أي مدى يجد هذا الرأي مستندا له في تاريخ الفلسفة؟
مارلين يونس: يمكن أن نحمل السخرية ألعابا لغوية قائمة ضمن دائرة اللغز والإرباك والتورية والإلماح والمكيدة التهكمية المنسلة في قالب إطيقي وسياسي واجتماعي وديني. إن السخرية حاضرة دائما في سياق الاشتغال الفلسفي، ومحايثة أيضا في كل الأحاديث الفلسفية وفي المحاورات واستلال المفاهيم، هي سلوك إنساني يتضمن الأسلوب المراوغ للغة.
عند سقراط نراها تأخذ شكل التظاهر بالجهل أو الجاهل العارف (dubitation) وذلك من أجل البحث الدائم عن الحقيقة، أو من أجل استنطاق المعرفة. من البين أن كل فلسفة أصيلة تتضمن إثارة للأسئلة وحث للفكر النقدي، وهذا النوع يدخل في الإطيقا وفن الحوار. وقد اعتبرها شلينغ مفارقة كما اعتبر الفلسفة الوطن المقدس للسخرية. وهي تنطلق من البراعة والحذق والمران كمقومات استنارية للكشف والفضح. كما اعتبرها كيركيغور أنها لا تكشف عن نفسها بل تغير الأقنعة باستمرار. ورآها هيغل صورة ذاتية للجدل وتجسيدا لحرية القول في الفعل وتحرير لفعل القول وأداة للتعالي على ما هو محدود.
السخرية هي مرآة للذات تتكسر وتتكاثر على مائدة العلم بهدف تكثيف القول للدخول إلى المفارقة وهذه لعبة الفلسفة والفيلسوف التي تكمن في صياغة المفارقات، على غرار جانكلفيتش الذي اعتبرها تقنية وبراعة يتنقل فيها الفيلسوف بين الأضداد والمفارقات التي تتدثر بلباس الكوميديا الإنسانية المترنحة بين الجدي والهزلي. كما أنها الاستبطان أو البطانة الداخلية لوعي الوعي، وهي الوعي الفرح (conscience joyeuse)، والمنفذ للخلاص. حيث تترك كل شيء معلقا بسؤال، وبتساؤلاتها الخفية تهدم كل ما هو مبني على أحكام سابقة.
هي مزعجة ومربكة لكل ادعاء وتحذلق ولكل هاو لشروط الاكتفاء. عند جانكلفيتش هي جدية أكثر من الجد وهزلية أكثر من الهزل بغض النظر عن كل ما تظهره، وهي دقة الفكر (l’esprit de finesse , la pointe délicate qui nous fait atteindre l’irréversible).. تترك أبواب الأسئلة مشرعة لتحرير الفكر، هي صرخة الحرية كما يقول برودون. أتقنها جانكلفيتش بأسلوبه الأدبي البارع والمرتجل.
الأفكار الفلسفية
السخرية حاضرة دائما في الاشتغال الفلسفي، ومحايثة في كل الأحاديث الفلسفية وفي المحاورات واستلال المفاهيم
العرب: أشار الفيلسوف الفرنسي إدغار موران إلى ظاهرة التمييز العلمي أي أن فئة معينة من البشرية تستفيد من القفزات والفتوحات العلمية فعليا والبقية في موقع الشهود ليس أكثر. هل تنسحب هذه الحالة على الاشتغال الفلسفي والفني؟
مارلين يونس: علينا أن نعلم بادئ ذي بدء قبل الدخول في الموضوع أن الذوات تتساوق وتمضي إلى تمثلاتها الممكنة في الوجود كل واحدة بحسب وزناتها المعطاة لها. ومن المعلوم أن الفلسفة هي قضية وجودية لا نستطيع فصل حقبات الثورات العلمية عنها، ولا نستطيع التنكر أن منبع العلم هو الفلسفة والميدان الذي تتأسس عليه الفلسفة هو الدهشة والدهشة عامة وشاملة تطال حقول العلم والأدب والفن وهي أوديسة المعرفة والتنقل من البراءة الأولى إلى البراءة المكتسبة كما يقول جانكلفيتش.
أود أن أشير إلى أن جورج طرابيشي قد نادى بضرورة الثورة العلمية في العالم العربي حتى تنشأ لنا فلسفة عربية، وهذا يؤكد على عدوى العلوم وعدوى المشاركة فيها وبها. وهذا يعني أننا مشاركون في تأملنا وحتى في صمتنا بكل الثورات وذلك في غمرة الوقت الذي يحمل الانطباعات السيكولوجية والبيولوجية والاجتماعية. وقد اشتغل إدغار موران على وضع الإنسان في قلب رواية العالم على عكس ستروس الذي قال بأن هدف علوم الإنسان ليس الكشف عن الإنسان بل تفكيكه.
والإنسان كما يقول إدغار موران في كتابه “الفكر المعقد” غير مفصول عن قصة الحياة، ومن شروط آليات التفكير العلمي والفلسفي والفني دقة الاستقلال الفكري والدهشة الفلسفية المتفلتة من المسلمات والتأمل. ومن المفيد القول إنه بالرغم من أن الاشتغال الفني والفلسفي يستند إلى موهبة وحس ثاقب، غير أن لحظة الإمتاع والمؤانسة في الفن والفلسفة تشترك فيها كل الآليات المعرفية عند كل الكائنات الحسية وغير الحسية حتى في حالات التأمل والإصغاء.
هذا الإشراك والاشتراك هو محايث لا يتطلب دراية معرفية به. وأنا أراه من جانب إطيقي، إن كل شيء مدين للآخر في هذا الوجود، وهذا ما أسميه بكرامة أو شرف المشاركة الجمالية (dignité esthétique et philosophique) على اعتبار أننا والموجودات كلها مرضى جماليين (patients esthétiques) هدفنا الارتواء من لحظات الإمتاع الوجودي المجاني، وهذا ما نسميه الاستكانة في المتحقق، وخاصة بعد أن نوقف بلاهة الاشتراك الهامشي في معرفة الأشياء المعروفة والمعدة سلفا.
العرب: تتعاقب المدارس والأفكار الفلسفية وتعلن كل فلسفة جديدة مشروعها بنقد ماسبقها من المحاولات والصياغات الفكرية. والسؤال الذي لابد منه ماذا تريد الفلسفة من العالم وأي عالم تنشده؟
مارلين يونس: الفلسفة هي مآل الطموح الميتافيزيقي والفيزيائي تريد أن تفتش عن الحقيقة، وهي المدخل العام إلى العالم المليء بالأزمات والإشكاليات. ومن مهامها مواجهة الخواء واللامعنى، والبحث عن المعنى والكشف عن العلل الفكرية في المرض الوجودي المسيطر بوصفها عللا تقوم على أدلجة تغييب الذات عن ذاتها. وهذا العالم هو مسألة فلسفية غير أنه مهدد بكل أنواع المعارك. وسؤال الفلسفة هو عن الكيف في اللماذا أو عن هذه اللماذا في الكيف. والتناقضات التي يتركها الفكر تحترب مع بعضها من أجل التكامل والتصارع كما يقول هيرقليطس “يتعين علينا أن نحيا موتا وأن نموت حياة”.
الأزمات عندنا هي نمط وجودي اعتدنا عليه ومنعا لحالة الاحتضار وإلغاء التفاؤل الأداتي الصنمي تأبى الفلسفة التسليم أو الانقياد الأعمى لما هو مجهز ومقولب سلفا. ومهمة الفيلسوف السكن في إعراب الكلمات لأن الفلسفة هي لغة السؤال عن الكينونة الهاوية المحطمة من جراء تدمير المعنى في المختلف الثقافي، كما أن من مهامها كسر الطوباوية الأيديولوجية والأنويويات المتعالية والتعصبية.
وتترتب على الفيلسوف مهمة تحرير العقل من كل أنواع العبودية، وعقلنة الكاوسية من الوقائع الافتراضية المنمطة بالعنف الرمزي، واختبار القدرات العقلية الخارجة من العالم والإجابة على الدهشة المتولدة من المواضيع الوجودية، كما أن من شروط الفيلسوف الجرأة على التفكير والانتقاد وعدم الاهتمام بالنجومية الإعلامية (starisation médiatique) وأن يكون طبعا متبصرا وحكيما ويتمتع بالرؤية التنبؤية لعلاج سؤال المهزوم والإرهاصات الكلامية وأوهام الاستئثار بالهزائم النفسية.