دار الأوبرا المصرية أمام مأزق تأجيل حفلاتها بسبب تدني أجور العاملين

القاهرة - لم يكن من المعتاد أن تلجأ دار الأوبرا المصرية إلى إرجاء حفلاتها لأسباب تتعلق برواتب العاملين فيها، مثل ما حدث مع عروض أوبرا “كارمن” أخيرا، وبدا ذلك مؤشرا على إمكانية تراجع المكانة الفنية للأوبرا.
والخميس أكد المايسترو نادر عباسي إرجاء عروض أوبرا “كارمن” التي أعلنت دار الأوبرا تنظيمها تحت قيادته على المسرح الكبير وكان من المقرر عرضها أيام الخميس والجمعة والأحد، ولم يحدد بعد موعدا جديدا، ما يعني استمرار الأزمة.
ونظم عدد من عازفي أوركسترا أوبرا القاهرة وأوركسترا القاهرة السيمفوني وقفات احتجاجية في الأسبوع الماضي، طالبوا من خلالها بزيادة أجورهم بما يتناسب مع الحد الأدنى للأجور الذي أقرته الحكومة أخيرا وهو ستة آلاف جنيه (120 دولارا)، وامتنعوا عن أداء بروفات الحفلات التي كان من المقرر أن تُعرض في نهاية الأسبوع الماضي، واحتدت الأزمة بعد أن أحالت الأوبرا من شاركوا في الاحتجاجات إلى التحقيق.
وتقدم عرض “كارمن” فرقة أوبرا القاهرة بمصاحبة أوركسترا أوبرا القاهرة، تحت قيادة المايسترو نادر عباسي، وإخراج حازم طايل، وتدور أحداثها في مدينة إشبيلية عام 1830 حول الفتاة الغجرية المتعالية كارمن التي تسعى لإيقاع الرجال في حبها، وتتودد إلى العريف خوسيه نافارو الذي عشقها، فتحول من شرطي بسيط مطيع إلى مجرم خارج على القانون بعد أن ضمته إلى مهربين، وقاده حبه الجارف إلى ساحة الإعدام.
التقت وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني ورئيسة دار الأوبرا لمياء زايد بأعضاء الأوركسترا وأعضاء الفرق الموسيقية الأخرى للتعرف على مطالبهم ووعدت بتلبيتها في الأيام المقبلة، وسط مخاوف من أن تُلقي الأزمة بظلالها على انتظام حفلات دار الأوبرا التي تشهد نشاطًا مكثفًا بالتزامن مع بدء فصل الصيف.
وقال مصدر في دار الأوبرا المصرية، تحدث لـ”العرب” شريطة عدم الإفصاح عن اسمه، إن “أجور غالبية مطربي دار الأوبرا لا تتجاوز ثلاثة آلاف جنيه (60 دولارا)، وهؤلاء يشعرون بالظلم لأن دار الأوبرا تدفع للمطربين الكبار من مصر والعالم العربي الذين تتعاقد معهم على إقامة الحفلات الكبيرة مبالغ طائلة، بينما هناك مواهب جيدة لا تحصل على التقدير المناسب على المستويين المادي والمعنوي”.
وأضاف المصدر لـ”العرب” أن “فكرة تعامل دار الأوبرا مع الفنانين والمطربين كموظفين يحصلون على رواتب شهرية مثل من يعملون في المصالح الحكومية ستكون سببًا في تراجع مكانتها مستقبلاً، وهؤلاء باتوا أسرى دولاب العمل الحكومي بأزماته، ما سيدفع بعضهم إلى الهروب، وقد تخسر الأوبرا مواهب أسهمت في تطويرها”.
وتعد واقعة تأجيل حفلات أوبرا “كارمن” بسبب أزمة الرواتب هي الأولى من نوعها في تاريخ دار الأوبرا، وهي مؤشر على حجم التراجع الذي أصابها، ويحتاج إلى تدخل سريع، مع وضع لائحة أجور تتماشى مع قيمة الفنانين والمطربين في السوق.
ويشكو الكثير من المطربين والفنانين من أزمة تدني الأجور داخل دار الأوبرا منذ فترة، ولم يجدوا آذانًا صاغية، وكان اللجوء إلى عدم الذهاب إلي بروفات الإعداد للحفلات التي جرى تأجيلها أداة احتجاج قد تأتي بنتائج إيجابية من وجهة نظر الفنانين.
وفنانو الأوبرا المصرية مقتنعون بأن الحكومة لديها إمكانيات تستطيع بها تحسين أوضاعهم، وأن بناء أوبرا جديدة في العاصمة الإدارية (شرق القاهرة)، وهي الأضخم في الشرق الأوسط، وتشييد مدينة للثقافة والفنون في المنطقة ذاتها يبرهنان على أن العامل البشري بحاجة إلى اهتمام أكبر، خاصة أن هؤلاء تتزايد أمامهم فرص العمل خارج إطار الأوبرا بعد أن حققت الحفلات الأوبرالية التي قدمها نجوم مصريون في موسم الرياض وبعض الدول العربية نجاحات مؤخرا.
وإذا لم تواكب دار الأوبرا التطورات على مستوى الاهتمام بالفنون العربية فسوف تكون أمام مصير قد يجرها إلى المزيد من التراجع بعد أن كانت منارة للفنون في مصر والمنطقة، ما يجعل مطالب الأوركستراليين والمطربين تحظى بتأييد واسع من المثقفين.
ولم تشهد الأوبرا المصرية احتجاجات منذ اعتصام المثقفين في نهاية مايو عام 2013 حينما طالبوا بإقالة وزير الثقافة المعين من جانب الإخوان (علاء عبدالعزيز)، وفي ذلك الحين أقال الوزير رئيسة دار الأوبرا إيناس عبدالدايم التي عادت بعد ذلك وزيرة للثقافة، وصعد المايسترو ناير ناجي في موعد رفع الستار لبدء عرض “أوبرا عايدة” معلنا إلغاء العرض في حدث غير مسبوق في تاريخ دار الأوبرا منذ بدء عروضها قبل أكثر من 140 عاما، وتوقفت أنشطة دار الأوبرا مدة ثلاثة أيام.
وتختلف أزمة دار الأوبرا هذه المرة، إذ يطغى عليها الطابع الفئوي في ظل مشكلات اقتصادية ألقت بظلالها على قطاعات حكومية مختلفة في مصر، لكنها تؤكد أن الفنون تأثرت أيضَا بما يعانيه الاقتصاد. وتراجُعُ الدعم المقدم إلى القوى الناعمة التي تصل إلى وجدان وعقول الناس خسائره فادحة، لأن ذلك يمس صورة إحدى أعرق الهيئات الثقافية في مصر، ما يشي بوجود مشكلة في الدعم الذي يذهب إلى قطاعات فنية أقل قيمة من الأوبرا.
وقال الناقد الموسيقي عمرو صحصاح لـ”العرب” إن “أعضاء جميع الفرق الفنية في دار الأوبرا المصرية يصابون بإحباط شديد نتيجة عدم وجود مردود مادي أو معنوي يحفزهم على الاستمرار في الإبداع، وما حدث من احتجاج جرس إنذار يدفع إلى إعادة النظر في أوضاع مطربي الفرق الغنائية والاستعراضية، والذين يعتمدون على الأوبرا كمصدر دخل وحيد بالنسبة إليهم ولا يعملون في فرق أخرى لزحام الحفلات والقوانين المقيدة”.
وأوضح أن “دار الأوبرا استطاعت تقديم مئات الفنانين المبدعين في فنون مختلفة خلال السنوات الماضية، وأغلب هؤلاء لا يلقون الشهرة التي يستحقونها، لأن حفلاتها نخبوية، بجانب عدم القدرة على التسويق الجيد لأنشطتها، وعندما تشدو الأصوات بالغناء خارج الدار يتعرف الجمهور عليها وتحقق شعبية”.
ويمكن النظر إلى المطربة مي فاروق كمثال؛ فرغم أنها كانت من أهم عوامل نجاح مسلسل “الليل وآخره”، بطولة يحيى الفخراني ونيرمين الفقي، من خلال أداء تتر المسلسل لم تتسع قاعدتها الجماهيرية إلا إثر تواجدها في حفلات موسم الرياض.
وشدد عمرو صحصاح في حديثه لـ”العرب” على أن “دار الأوبرا مطالبة بتقديم الدعم اللازم لمطربيها والحفاظ عليهم بما يسهم في الارتقاء بالفنون التي تقدمها. وعلى وزارة الثقافة أن تلعب دورا حاسما في توفير الدعم المادي اللازم، وعلى الحكومة أن تضع في الحسبان مضاعفة ميزانية الثقافة كي لا تجد نفسها أمام جيل صاعد يتجه إلى ترك العمل في الأوبرا، وسوف تكون هناك أزمة في تقديم كوادر مبدعة تستطيع أن تحافظ على رقي الأداء الفني الذي تتسم به حفلاتها”.
وشكت فرقة الموسيقى العربية للتراث بدار الأوبرا المصرية من أزمة عدم إبرام عقود لأعضائها الفنانين الذين يعملون منذ سنوات بمكافآت شهرية، وهي الفرقة الوحيدة في الأوبرا التي لا تتضمن عقد كورال لمطرب واحد من بين أعضائها، وتطالب وزارة الثقافة فنانيها بتأجيل حسم مطالبهم لعدم وجود سيولة مالية تساعدها على إبرام عقود لهم في الوقت الراهن.