ليس كل البشر قادرين على تعلم القراءة

عالمة النفس البريطانية مارجريت جيه سنولينغ تحلل حالات عُسر القراءة.
الاثنين 2024/04/15
قد تتعطل مهارات القراءة والكتابة

القراءة وسيلة لبناء المعرفة وبالتالي هي ركن بديهي في تنشئة الإنسان، وهناك من يعتبر أن كل البشر بإمكانهم القراءة بعد التدريب والتعليم، ولكن ذلك ليس صحيحا، فهناك من الناس من يعانون حالة عسر تنتفي معها القدرة على القراءة، وبالتالي تمثل خطرا كبيرا على تحصيل المعرفة. فما هو علاجها؟

تحظى القراءة والكتابة بقيمة كبيرة في كل المجتمعات تقريبا. وحتى مع زيادة استخدام التكنولوجيا من أجل التواصل، ستبقى هذه الحقيقة قائمة: سيظل ضعف القراءة تحديا، ولن يوجد ما يغني عن مهارات القراءة والكتابة في الحياة اليومية. تُعد مهارات القراءة والكتابة جوهرية للتعليم النظامي، الذي تكون فيه النصوص المطبوعة مصدرا للكثير من الأشياء التي نتعلمها. وهي أيضا جزء من أدوات النجاة التي نحتاج إليها لإدارة شؤون حياتنا، عندما نوقع عقد إيجار ـ مثلا ـ أو نفتح حسابا بنكيا، أو نستخدم ماكينة الصراف الآلي، أو نقرأ ملاحظة أرسِلت من المدرسة إلى البيت.

انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب عالمة النفس البريطانية مارغريت جيه سنولينغ “عُسر القراءة: ‏مقدمة قصيرة جدا‏” الذي ترجمته نهى صلاح وراجعته الزهراء سامي وصدر عن مؤسسة هنداوي مؤكدة إن صعوبات القراءة والكتابة لها آثار واسعة النطاق، تتجاوز الإنجاز الأكاديمي، لتشمل فرص العمل والسلامة الشخصية، وحتى الصحة النفسية إلى حد ما. وهذه الصعوبات لا تمثل مشكلة لمن يعانونها فقط، بل مشكلة للمجتمع أيضا.

حالة عسر القراءة

مارجريت جيه سنولين: هناك الكثير من الأطفال الذين يجدون صعوبة بالغة في تعلم القراءة والكتابة، ويتطلبون دعما تعليميا رغم صعوبة الحالة
مارجريت جيه سنولين: هناك الكثير من الأطفال الذين يجدون صعوبة بالغة في تعلم القراءة والكتابة، ويتطلبون دعما تعليميا رغم صعوبة الحالة

تقول سنولينغ “تُعرف صعوبات القراءة، غير الناتجة عن قِلة التعليم باسم ‘عُسر القراءة‘. يمكن تعريف عسر القراءة على أنه مشكلة في التعلم تؤثر بشكل أساسي في تطور دقة القراءة والطلاقة ومهارات التهجي. غالبا ما يكون عسر القراءة مصحوبا بصعوبات أخرى، كالمشكلات المتعلقة بالانتباه والتنظيم والمهارات الحركية (الحركة)، لكن هذه المشكلات في حد ذاتها ليست مؤشرات تدل على عسر القراءة. ورد أول وصف للصعوبة التي نعرفها الآن باسم عسر القراءة في العالم الناطق بالإنجليزية عام 1896 على يد وليام برينغل مورغان، وهو طبيب عام يكتب في دورية ‘بريتيش ميديكال جورنال‘. كتب مورغان عن مريض يبلغ من العمر 14 عاما يُدعى بيرسي (كان الصبي يتهجى اسمه: بريسي)، وهو صبي ذكي وماهر، وسريع في الألعاب، ولا يقل عمن في سنه في أي شيء. تمثلت الصعوبة الكبيرة التي واجهته ـ ولا تزال تواجهه ـ في عدم قدرته على تعلم القراءة”.

وتضيف “بعد فحص بيرسي، الذي لم يكن يعاني من عيوب في العين أو في الرؤية، وتلقى تعليما جيدا حتى ذلك الوقت، استنتج برينغل مورغان أن ما يعاني منه بيرسي هو حالة من ‘عمى الكلمات الخلقي‘، ويتمثل حرفيا في عدم القدرة على تخزين الصور البصرية للكلمات في الذاكرة. افترض أن ذلك يرجع حتما إلى خلل في نمو منطقة في الدماغ، تُسمى التلفيف الزاوي الأيسر. ما كان مثيرا للاهتمام هو أن الصبي كان قادرا على قراءة الأرقام بطريقة طبيعية، وكان يستمتع بإجراء العمليات الحسابية؛ لذا اتضح أن مشكلاته ترتبط بمهارات القراءة والكتابة على وجه التحديد. عندما نفكر في الأمر الآن، من المثير أن نلاحظ مدى توافق هذا الوصف مع ما كان يمر به بيرسي. ومثلما سنرى، أصبح من المعروف الآن ـ على نطاقٍ واسعٍ ـ أن عسر القراءة اضطراب تعلم محدد. على الرغم من ذلك، لا يزال الجدال مستمرا فيما يتعلق بحدود الاضطراب وصفاته المحددة، وحتى اسمه”.

وتشير إلى أن الدراسة التي أجريت على مجموعة جزيرة وايت بالريادة كان لنتائجها دراسة تأثير كبير في توضيح حقيقة أن المشكلة التي تمثلها صعوبات قراءة محددة مشكلة حقيقية. في بريطانيا، ظهر مصطلح “صعوبات التعلم المحددة” في الوقت الذي كان فيه مصطلح “صعوبات التعلم” مستخدما في الولايات المتحدة الأميركية. لكن ماذا حدث لمفهوم عسر القراءة؟

يُسفر البحث عن مصطلح “عسر القراءة” على غوغل عن 11 مليون نتيجة، في حين يُسفر مصطلح “صعوبات التعلم المحددة” على نصف النتائج. الحق أن تعريف عسر القراءة يظل موضع نقاش، على الرغم من أننا لم نزل نستخدم المصطلح بشكلٍ عام. حتى يومنا هذا، ثمة توترٌ بين النموذج الطبي “لعسر القراءة” وفهم “صعوبات التعلم المحددة” في الأوساط التعليمية.

على الرغم من وجود كم هائل من الأبحاث والدراسات حول عسر القراءة، مازلنا لا نعلم سبل علاجه المثلى

ويتمثل جوهر مشكلة مفهوم عسر القراءة في أنه ليس اضطرابا له مجموعة محددة وواضحة من السمات التشخيصية، على عكس الحصبة أو جدري الماء. وإنما تكون مهارات القراءة موزعة توزيعا احتماليا طبيعيا بين المجموعة (مصطلح إحصائي يعني أن القراءة، كالوزن أو الطول، تتفاوت باستمرارٍ بين الأشخاص، وتقع الغالبية العظمى من الأشخاص في النطاق المتوسط)، ولا توجد حدود بين “عسر القراءة” و”القراءة الطبيعية”. على الرغم من ذلك، إذا كان الأطفال يجدون صعوبة في فك ترميز النص المكتوب فسيشكل ذلك عقبة أمام القراءة بفهمٍ، وهو ما يشكل بدوره عائقا أمام الإنجاز التعليمي.

وتتساءل سنولينغ: لماذا استمر مفهوم عسر القراءة؟ وتقول “أحد الأسباب يتمثل في وجود الكثير من الأطفال الذين يجدون صعوبة بالغة في تعلم القراءة والكتابة، ويتطلبون دعما تعليميا. ويوجد العديد من التقارير التي تفيد بأنه من غير هذا الدعم يتعرض هؤلاء الأطفال لانخفاضٍ مستمر في مستوى الإنجاز والثقة بالنفس، وربما يؤدي ذلك أيضا إلى المشكلات المتعلقة بالتكيف العاطفي والسلوكي، التي لاحظناها في الحالات الثلاث التي تناولناها سابقا. وبهذا يصبح الهدف من تصنيف هؤلاء الأطفال هو توصيل احتياجاتهم التعليمية والتدخل اللازم، أي الإشارة إلى ضرورة التدخل لدعم مهارات القراءة والكتابة. علاوة على ذلك، فنظرا إلى أن اضطرابات التعلم تلازم الشخص طوال فترة حياته، فإن تصنيف الشخص باعتباره ممن يعانون من عسر القراءة من شأنه أن يشير إلى ضرورة القيام بترتيباتٍ مناسبة، لا في المدرسة فحسب بل في مكان العمل أيضا. فمن المهم بالفعل التأكد من أن المتطلبات المتعلقة بمهارات القراءة والكتابة لن تحول بين شخص مثل هاري وبين الوظيفة التي تناسبه”.

طرق العلاج

حح

تشبه سنولينغ عُسر القراءة بضغط الدم المرتفع؛ وتضيف “لا يوجد حد فاصل بين ضغط الدم المرتفع وضغط الدم الطبيعي، لكن إذا ظل ضغط الدم المرتفع دون علاج، فسيزداد خطر حدوث مضاعفات. ومن ثم، فإن هناك ما يبرر وجود تشخيص ارتفاع ضغط الدم، مما يؤدي ـ بدوره ـ إلى توصيات بالأدوية (وربما تدخلات أخرى). لا ينطبق المنهج نفسه عند التفكير في عسر القراءة؛ إذ لا توجد معايير نهائية متفق عليها، كما أن هناك عددا قليلا من العلاجات القائمة على الأدلة. لكن هذا الكتاب سيوضح أن هناك اتفاقا ملحوظا بين الباحثين بشأن عوامل الخطورة المرتبطة بضعف القراءة، بالإضافة إلى عددٍ متزايدٍ من التدخلات القائمة على الأدلة: عسر القراءة موجود بالفعل، ويمكننا فعل الكثير لتخفيف آثاره”.

وتتابع إلى أن الارتباط بين الجينات والبيئة (rGE) يشير إلى ظهور تأثير الجينات من خلال التفاعل مع البيئة. في حالة عسر القراءة، لا يقتصر الأمر على مشاركة كل من الوالدين في المتوسط بنحو 50 بالمئة من جيناتهم مع أطفالهم، لكنهم أيضا يضطلعون بمهمة تربية الطفل في بيئة مرتبطة بنمطهم الوراثي (التي قد تكون بيئة سيئة لتعلم القراءة والكتابة). وهذا مثال على العلاقة السلبية بين الجينات والبيئة. أما النوع الثاني من الارتباط بين البيئة والجينات فهو الارتباط المحفز، بمعنى أن السمات الموروثة تستحث الفرد على تفاعلات معينة مع الآخرين. ومن الأمثلة على ذلك أن الطفل المعرض لاحتمالية الإصابة بعسر القراءة نتيجة عوامل وراثية قد يرغب في حضور جلسات قراءة أقل مما يرغب فيها الطفل الذي لا يمتلك هذا الاستعداد الوراثي للإصابة.

وأخيرا، يشير الارتباط النشط أو الإيجابي إلى حالات يختار فيها الطفل المصاب بعسر القراءة لنفسه بيئات حيث التعرض لخبرات القراءة طفيف (وربما يفضلون الأنشطة الحركية النشطة). وعليه، فإن ما يُعرف “بالعامل البيئي”، مثل مقدار ما يقرؤه الطفل قد يكون راجعا إلى عامل وراثي (ويوجد دليل حديث يؤكد ذلك بالفعل). وحتى الآن لم تتمكن أي دراسة من فصل التأثيرات الجينية عن الارتباطات بين الجينات والعوامل البيئية في حالة عسر القراءة، وهناك ندرة في الأبحاث التي تدرس التأثيرات القوية المحتملة لجينات الطفل في انخراطه بالتفاعلات المرتبطة بمعرفة القراءة والكتابة واستمتاعه بها.

دراسة تحليلية لحالات عسر القراءة
دراسة تحليلية لحالات عسر القراءة

وترى سنولينغ أنه على الرغم من وجود كم هائل من الأبحاث والدراسات حول عسر القراءة، مازلنا لا نعلم سوى القليل جدا عن أفضل السبل لعلاجه. ثمة نظرة متشائمة تفيد بأنه غير قابل للعلاج. هذا صحيح إلى حد ما، فهي حالة تستمر مدى الحياة. ولكن من المؤكد أن هناك طرقا للتعامل معها، وهي تبدأ بتحديد مخاطر المشكلة، وتوفير وسائل التدخل المبكر. ما زلنا لا نعرف السن المناسبة للتدخل.

وتضيف “أنا لا أؤيد تعليم القراءة بشكلٍ نظامي قبل دخول المدرسة، لكن اللغة المنطوقة مهمة بالتأكيد. ربما تتمثل إحدى أفضل الطرق لإثراء تطور اللغة في قضاء وقت منتظم في قراءة الكتب المناسبة للعمر (ويتضمن ذلك الكتب المخصصة للأطفال الصغار جدا في مرحلة ما قبل تعلم القراءة بشكلٍ نظامي) ومناقشة القصص مع الأطفال”.

وترى أنه كذلك يمكن للألعاب التي تتضمن التلاعب بالأصوات، كما في حالة استخدام الكلمات المقفاة والجناس الاستهلالي ولعبة التخمين “آي سباي (أنا أتجسس)”، أن تساعد الأطفال على أن يكونوا أكثر إدراكا ووعيا بأصوات الكلام، وهو أمر ضروري لتطوير الوعي الصوتي. ومن المفيد أيضا تعليم الطفل الحروف قبل الذهاب إلى المدرسة، وثمة أدلة على أنه يمكن للآباء تعزيز الاستعداد للقراءة إذا حصلوا على الدعم المناسب.

بالنسبة إلى الطفل في المدرسة، فإن المراقبة والتقييم والتدخل كلها عمليات ترتبط معا بشكلٍ معقد. عندما تعجز التدخلات المقدمة عن إحداث فرق، لابد من التفكير في استراتيجيات تعويضية. توجد وفرة من الوسائل التكنولوجية التعليمية التي من شأنها أن تساعد الطفل الذي يعاني من عسر القراءة، ولكن من المهم أن نتذكر أنه في حاجة إلى معرفة كيفية استخدام هذه الأجهزة استخداما فعالا.

وينطبق الشيء نفسه على الحلول المعتادة بدرجة أكبر ـمثلا، يستفيد التلاميذ الذين يعانون من عسر القراءة من تخصيص وقت إضافي لهم ـ ولكن كيف يستفيدون من ذلك؟

يمكن للطلاب تحسين جودة عملهم إذا وضعوا خطة لكتابة مقال. لكن بالنسبة إلى الطلاب الذين يعانون من عسر القراءة، ولم يحصلوا على خبرة كبيرة في الكتابة المطولة حتى الآن، فقد لا تتطور هذه المهارة لديهم بسهولة. كانت معلمة عسر القراءة العظيمة، مارغريت بيرد روسون، تؤمن بشدة بأنه “إذا لم يتمكن الطفل من التعلم، فأنت لا تعلمه بشكل صحيح!” بالنسبة إليها، يقع عبء النجاح على عاتق المعلم، وليس الطفل.

13