أساطير اليونانيين قصص مذهلة خلدها الشعراء

ستيفن فراي: الاعتقاد بأن الإغريق كانوا أرقى من غيرهم اعتقاد خاطئ.
الثلاثاء 2024/03/19
الأساطير اليونانية تتبعت نهضة الإنسان

شكلت الأساطير اليونانية ولا تزال مصدر إلهام وذخيرة ثرية لإبداعات فنية وشعرية وروائية ومسرحية وسينمائية وغيرها في الشرق والغرب، وذلك لتنوعها حيث تتتبّع حياة الآلهة والأبطال والمخلوقات الخرافية. وقد أثرت تأثيرا كبيرا على الحضارة الغربية وثقافتها وفنونها وآدابها، حتى أصبحت جزءا من تراثها. وهذا ما يكشفه كتاب “ميثوس.. الأساطير اليونانية تحكى من جديد”.

يعيد الممثل الكوميدي ومقدم البرامج والمخرج والروائي ستيفن فراي في كتابه “ميثوس.. الأساطير اليونانية تحكى من جديد”  تصوير الأساطير اليونانية حيث تلعب المؤامرات وألاعيب الحب والكراهية والبحث المحموم عن الحقيقة دورا محوريا، وذلك بلغة تتناسب مع وقتنا المعاصر مع الاحتفاظ بسحر  تلك الأساطير وبهائها.

يتحدث فراي في مطلع كتابه، الذي ترجمه محمد جمال وصدر عن دار التنوير، عن علاقته بالأساطير اليونانية “كنت محظوظا بما يكفي ليقع تحت يدي كتاب ‘حكايات من اليونان القديمة’ في طفولتي، ووقعت في حبه من أول نظرة. ومع أني استمتعت بعدها كثيرا بأساطير وحكايات ثقافات وشعوب أخرى، إلا أن ثمة أشياء في الأساطير الأغريقية لمست وترا في قلبي؛ الطاقة والفكاهة والشغف والتفرد والتفاصيل المحبوكة فتنتني منذ البدية. أتمنى أن تجد فيها ما وجدته”.

سرد الأساطير

“ميثوس.. الأساطير اليونانية تحكى من جديد”  كتاب يعيد تصوير الأساطير اليونانية حيث تلعب المؤامرات وألاعيب الحب والكراهية والبحث المحموم عن الحقيقة دورا محوريا
“ميثوس.. الأساطير اليونانية تحكى من جديد”  كتاب يعيد تصوير الأساطير اليونانية حيث تلعب المؤامرات وألاعيب الحب والكراهية والبحث المحموم عن الحقيقة دورا محوريا

يقول المؤلف “ربما أنت على دراية مسبقة ببعض الأساطير المذكورة في الكتاب، لكني أرحب على الأخص بمن لم يقابلوا من قبل شخصيات وحكايات الأساطير الإغريقية. أنت لست بحاجة إلى أي معرفة مسبقة لتقرأ هذا الكتاب، فهو يبدأ بكون خاو، لا حاجة بكل تأكيد إلى أي تعليم كلاسيكي، ولا إلى معرفة الفرق بين النكتار والنيمفات، ولا الساتير والسنتورات، ولا ربات القدر والفيوريات. ليست المثيولوجيا اليونانية أكاديمية أو نخبوية أبدا، بل هي يسيرة وسائغة يسهل إدمانها، وشديدة الإنسانية”.

ويستدرك فراي متسائلا من أين جاءت أساطير اليونان القديمة هذه أصلا؟ يقول “ربما بوسعنا شد طرف خيط يوناني واحد من ضفيرة التاريخ البشري وتتبعه حتى المصدر، ولكن اختيار حضارة بعينها وقصصها قد يؤدي لأن يظن بنا أننا نختار المصدر الأصلي للأسطورة الكونية على هوانا. تساءل البشر الأوائل في شتى أنحاء العالم عن مصادر القوى التي تغذي البراكين والعواصف الرعدية والمد والجزر والزلازل، واحتفوا بإيقاع تعاقب المواسم ومسيرة الأجرام السماوية ومعجزة شروق الشمس اليومية، وتساءلوا عن كيف بدأ ذلك كله”.

ويواصل “حكى اللاوعي الجمعي لحضارات متعددة قصصا كثيرة عن آلهة الغضب، وعن آلهة تموت وأخرى تتجدد، وعن ربات الخصوبة، وعن كيانات سماوية وشياطين وأرواح النار والأرض والماء. لكن لنحكي أي قصة، علينا أن نقص خيط السرد في مكان ما ليصبح نقطة بداية، ويسهل فعل ذلك مع المثيولوجيا اليونانية، فهي قد نجت بتفاصيل وثراء وحياة وألوان تميزها عن غيرها من الأساطير، واقتنصها الشعراء الأوائل وحفظوها، ووصلت إلينا عبر سلسلة لم تنقطع تقريبا منذ عرفت الكتابة وحتى يومنا الحاضر. رغم أن هناك الكثير من العوامل المشتركة بين الأساطير الإغريقية ونظيرتها الصينية والإيرانية والهندية والأفريقية والروسية والعبرية والنوردية وعند المايا والأميركان الأصليين، إلا أنها تتفرد عنها جميعا بأنها ‘من إبداع شعراء عظام’.  كان اليونانيون أول من وضع سرديات محكمة، بل وحتى أدبية، لآلهتهم ووحوشهم وأبطالهم”.

ويضيف “لقد تتبعت الأساطير اليونانية نهضة الإنسان، وصراعنا لتحرير أنفسنا من تدخلات الآلهة؛ من إساءاتهم وعبثهم وطغيانهم على الحياة البشرية والحضارة. لم يتذلل الإغريق أمام آلهتهم. كانوا مدركين لحاجتهم العبثة لأن يعبدوا ويبجلوا، لكنهم كانوا واعين أن لهم أندادا. أساطيرهم فهمت أن أيا كان من خلق ذلك العالم المحير بكل قسوته وعجائبه وتقلبه وجماله وجنونه وظلمه، لا بد أنه هو نفسه كان قاسيا عجيبا متقلبا جميلا مجنونا وظالما. خلق الإغريق آلهة على شاكلتهم: محاربين لكن مبدعين، حكماء لكن شرسين، محبين لكن غيورين، لينين لكن متوحشين، وحميميين لكن منتقمين”.

الأساطير، بكل تفاصيلها المزعجة، المفاجئة، الرومانسية، الكوميدية، التراجيدية، العنيفة، الساحرة، مذهلة بما يكفي لتقدم كقصص مستقلة

ويقول فراي “يبدأ ميثوس في البداية لكنه لا ينتهي عند النهاية. لو كنت ضمنت فيه أبطالا أمثال أوديبوس وبيرسيوس وثيسيوس وجيسون وهرقليطس، وتفاصيل حرب طروادة، كان الكتاب ليصبح أثقل من قدرة تيتان على حمله. علاوة على ذلك، لا يهمني إلا حكي الحكايات، لا تفسيرها، ولا تحري الحقائق الإنسانية والرؤى السيكولوجية التي قد تكمن وراءها. الأساطير، بكل تفاصيلها المزعجة، المفاجئة، الرومانسية، الكوميدية، التراجيدية، العنيفة، والساحرة، مذهلة بما يكفي لتقدم كقصص مستقلة بذاتها. لو وجدت نفسك، بينما تقرأ، أنك لا تقدر على منع نفسك من التساؤل عما ألهم اليونانيين اختراع عالم شديد الثراء والدقة في الشخصيات والأحداث، ووجدت نفسك تتفكر في الحقائق العميقة التي تجسدها الأساطير.. فهذا بلا شك جزء من المتعة، والمتعة هي الغاية والنتيجة من الإنغماس الكامل في عالم الأساطير الإغريقية”.

ويلفت إلى أن هدفه كان الحكي، يقول “قمت بالطبع باللعب في الخطوط الزمنية محاولا الوصول إلى سردية متماسكة. نسختي مثلا من ‘عصر الإنسان’ تختلف عن النسخة المعروفة للشاعر هيسود لكي أفصل بوضوح حقبة حكم كرونوس عن خلق البشر. كان انفجار القصص في اليونان قبل حوالي ثلاثة آلاف عام مفعما بالطاقة إلى حد أن أغلب القصص تقريبا بدت وكأنها تحدث بالضرورة في نفس الوقت. لو جاء أحدهم وقال لي إني أخطأت في هذه القصص، فأعتقد أن بوسعي الرد والتبرير أنها كلها في النهاية ليست إلا حكايات خيالية. عندما أعبث ببعض التفاصيل فأنا أفعل ما كان الناس يفعلونه بالأساطير على الدوام. بهذا المنطق أشعر أنني أقوم بدوري في الحفاظ عليهم على قيد الحياة”.

الأسطورة والدين

لنحكي أي قصة علينا أن نقص خيط السرد في مكان ما ليصبح نقطة بداية ويسهل فعل ذلك مع المثيولوجيا اليونانية
لنحكي أي قصة علينا أن نقص خيط السرد في مكان ما ليصبح نقطة بداية ويسهل فعل ذلك مع المثيولوجيا اليونانية

حول العلاقة بين الأسطورة الخرافية والواقعية والدين يقول “مثلما تتشكل اللؤلؤة حول ذرة رمل، من الأساطير ما يبني على ذرة حقيقية، مثل أسطورة روبن هود، مثلا التي يبدو أنها مشتقة من شخصية تاريخية حقيقية. المادة السردية التي يصنع تراكمها الحكايات تتوارث عبر الأجيال، وتتعرض للتحسين، والمبالغة على طول طريقها حتى تصبح لها في مرحلة ما صفات الأسطورة الواقعية، وعلى الأرجح تكون مكتوبة، فكلمة ‘Legend’ هي ‘أسطورة ذات أصل واقعي’ مشتقة من الأصل اللاتيني ‘legere’ أي ‘كي يقرأ’. أما الأساطير الخرافية فهي ذات بنية خيالية رمزية”.

ويضيف “لا أحد يصدق أن هيفايستوس كان موجودا فعلا ذات يوم، لكنه يرمز إلى أو يمثل فنون الحدادة والصناعة ومهارة الحرفيين. أما تصوير مثل هذه الشخصية بهيئة داكنة قبيحة عرجاء فتغرينا بمحاولة الشرح والتفسير؛ ربما لاحظنا أن الحدادين الحقيقيين كانوا غالبا رغم قوتهم داكنين كثيري الندوب وضخام العضلات وقصيري القامة إلى حد يجعل النظر إليهم يسبب الضيق، ربما كانت الثقافات من البداية تطلب من الأنسب قامة والأكثر طولا الانضمام إلى صفوف المحاربين، أما الأطفال الذكور الأقصر أو ذوو العرج أو العيوب فيرسلون من البداية إلى الورش والأفران، ثم أي رب للحدادة تتخيله الثقافة الجمعية سيعكس على الأرجح النموذج البشري المعروف بالفعل، هكذا تخلق الآلهة من هذا النوع على شاكلتنا لا العكس”.

ويرى أنه رغم الأصل الرمزي لا التاريخي للأساطير والشخصيات الخرافية، فقد مرت بالتحسين والتعزيز وإعادة التشكيل نفسه التي تمر بها الحكايات ذات الأصل الواقعي. الأساطير الخرافية أيضا كتبت، بالذات الإغريقية منها، بفضل هومر وهيسود ومن نحوا نحوهم، وأرخت وفصلت بطرق تمنحنا خطوطا زمنية وأشجار أنساب وتواريخ للشخصيات تسمح بسرد الحكايات بالطريقة التي اتبعتها في هذا الكتاب. إذا، ببساطة، الأساطير الخرافية هي تلك التي تتعامل مع الآلهة والوحوش التي لا يمكن رؤيتها أو الإشارة إليها. ربما آمن بالفعل عدد من أفراد المجتمع الإغريقي بالسنطورات وتنانين المياه وأرباب البحر وربات الحب، لكنهم كانوا سيعانون الأمرين لإثبات وجودهم حقا وإقناع الآخرين به. أعتقد أن أغلب من حكوا وأعادوا حكي الأساطير كانوا مدركين في مكان ما في وعيهم أنهم يحكون حكايات خيالية، ربما كانوا يحسبون أن العالم كان ذات مرة عامرا بالنيمفات والوحوش، لكنهم بلا شك كانوا متأكدين أن مثل تلك الكانئات لم يعد لها وجود.

الاعتقاد بأن الإغريق كانوا بشرا أرقى منحوا التنوير والعقلانية أكثر من غيرهم هو اعتقاد خاطئ

ويلفت إلى أن الصلوات والطقوس والتضحيات، تلك الضرائب المدفوعة لقوى طبيعة غير مرئية، كانت أمرا مختلفا. في مرحلة ما من التاريخ تتحول الأسطورة إلى عقيدة ثم إلى دين، تتحول من حكايات تسرد حول النار إلى أنظمة عقائدية تتطلب الطاعة. تشكلت الطوائف الكهنوتية التي تخبر الناس بالطريقة التي يجب أن يتصرفوا بها. طريقة تدوين الأساطير في كتب مقدسة وطقوس وعلوم لاهوتية هي مادة لكتاب آخر خارج نطاق قدراتي، لكن بوسعنا القول إن اليونانيين لم يكن عندهم كتب مقدسة سماوية مثل الإنجيل أو القرآن. كانت هناك طقوس وشعائر تهيئة متعددة الأشكال تتضمن حالات تأمل تشبه ربما الطقوس الشامانية التي نراها الآن في بعض نواحي العالم، وكان هناك أيضا العديد من المعابد والمزارات، بل إنه في الواقع أيضا، حتى في عصر المنطق والفلسفة الأثيني العظيم، كان من الممكن أن يحكم على رجل مثل سقراط بالإعدام لأسباب دينية.

ويؤكد فراي أن الاعتقاد بأن الإغريق كانوا بشرا أرقى منحوا التنوير والعقلانية أكثر من غيرهم هو اعتقاد خاطئ، يمكننا أن نجد بسهولة عند الكثير من اليونانيين القدامى ما هو غريب ومقيت بالنسبة إلينا. النساء مثلا لم يلعبن أي أدوار حقيقية في الشؤون التي تدور خارج البيت، والعبودية كانت شائعة، والعقاب كان قاسيا والحياة كانت وحشية. كان ديونايسيس وآريس آلهة لهم مثلما كان أبولو وأثينا، وكذلك كان بان وبرايابوس وبوسايدون أيضا. ولكن ما يجعل الإغريق مستساغين لنا إلى هذه الدرجة هو أنهم بدوا واعين عن بصيرة وحذاقة وحيوية بالأوجه المختلفة لطبيعتهم. كانت عبارة “اعرف نفسك” منحوتة عند مدخل معبد أبولو في دلفى، وكأن الناس فعلوا أقصى ما بوسعهم لتحقيق ذلك القول القديم. إذا فرغم أن الإغريق كانوا أبعد ما يكونون عن الكمال، إلا أنهم طوروا على ما يبدو فن رؤية الحياة والعالم وأنفسهم بصدق وشفافية أكثر من أغلب الحضارات بما فيها على الأرجح حضارتنا الغربية.

13