الحكومة المصرية تتجنب الصدام مع المزارعين وترفع سعر توريد القمح

القاهرة - تسعى الحكومة المصرية إلى تأمين احتياجاتها المحلية من القمح بعد أن واجهت صعوبات في الحصول عليه من المزارعين بسبب انخفاض قيمة رسوم التوريد، في وقت عانت فيه مصر من أزمة شح في العملات الصعبة أدت إلى اتجاه شركات القطاع الخاص لشراء القمح بأسعار مرتفعة، وخسرت الحكومة المنافسة واضطرت إلى استيراد كميات كبيرة من القمح.
وسلكت الحكومة هذا العام طريقا مختلفا ولجأت إلى زيادة أسعار توريد القمح بنسبة 25 في المئة ليصل إلى 2000 جنيه (41 دولارا) للأردب (150 كيلوغراما) قبل بدء موسم الحصاد الذي سينطلق في أبريل المقبل ويستمر حتى أغسطس، لتعويض انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار وتقليص فاتورة الاستيراد، وتجنب الدخول في صدام مع المزارعين، أسوة بما حدث مع توريد قصب السكر في الموسم الحالي.
ويتضمّن لجوء الحكومة إلى هذا الطريق أبعادا سياسية، حيث تدرك أن العلاقة الهادئة مع المزارعين من أوجه الأمن والاستقرار الداخلي، والدخول في صدام معهم قد يؤدي إلى أزمات في الأسواق ويحدث شحا في بعض السلع الرئيسية، وهو ما من شأنه أن يضاعف تململ المواطنين في ظل موجات تضخم تؤثر على القدرة الشرائية.
وتسعى الحكومة إلى تأمين الاحتياجات من القمح لكي لا تترك مصيرها بيد تقلبات أسواق القمح العالمية التي تواجه تذبذبا دائما في أسعاره جراء الأوضاع غير المستقرة مع استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية.
وتمثل ترضية المزارعين وسيلة تخلص الحكومة من ظهور تجارة موازية للسلع، في وقت تريد فيه القضاء على السوق الموازية وعدم تكرار اختفاء السكر والأرز. وتدرك جهات حكومية أن استخدام سياسات خشنة مع المزارعين لن يأتي بنتائج جيدة، وهو ما دفع العام الماضي إلى جعل توريد القمح اختيارياً، لكن الحكومة وجدت أن ذلك غير كاف.
وتشير أرقام رسمية إلى أن الحكومة لم تتمكن من استلام سوى 35 في المئة من إجمالي محصول قصب السكر هذا العام، فقد تحصلت فقط على 4.7 مليون طن في حين أنها كانت تستهدف 7 ملايين طن من قصب السكر، مقابل 7.35 مليون طن في العام الماضي.
وقال مستشار وزير التموين المصري سابقا نادر نورالدين إن زيادة أسعار توريد القمح تتماشى مع تراجع قيمة الجنيه، ما يعني أن كلفة إنتاج الأردب تزيد مقابل 50 في المئة، والحكومة عملت على أن يكون سعر توريده بنفس كلفة الاستيراد، إذ يصل سعر الطن إلى 280 دولارا، وهو يمثل نفس تكاليف سعر طن القمح الروسي والشحن والتفريغ في الموانئ والنقل إلى المحافظات المختلفة، ويوفر العملة الصعبة.
وأضاف نورالدين في تصريحات لـ”العرب” أن “قرار الحكومة يلقى ترحيبًا لدى المزارعين، وإن كان الحكم النهائي على ذلك يتوقف على مدى قدرتها على توفير العملة الصعبة اللازمة للقطاع الخاص لاستيراد القمح، فمصانع المعكرونة وغيرها من الأغذية التي يدخل فيها القمح قد تذهب باتجاه زيادة سعر الشراء من المزارعين، وفي هذه الحالة سوف تجد الحكومة نفسها في ورطة إذا لم تقم بزيادة السعر مرة أخرى”.
وأوضح نورالدين أن الحكومة خسرت المنافسة مع القطاع الخاص في العام الماضي وترتب على ذلك تراجع حصة محصول القمح، رغم زيادة المساحة المزروعة والتوسع في المناطق الزراعية الجديدة، بسبب شح الدولار وتوفره في السوق الموازية بسعر مضاعف، لافتًا إلى أن شركات القطاع الخاص ستكون وجهتها الأولى نحو القمح المحلي والمصنف على أنه درجة أولى، فيما القمح المستورد من روسيا درجة ثانية.
ولدى المزارعين قناعة بأن تحسن العلاقة مع الحكومة يتطلب تقديم المزيد من الدعم على مدخلات الزراعة، وأبرزها الأسمدة والآلات الزراعية، ما يضمن تحقيق ربح يرضي المزارعين الذين يعانون من التضخم ولا يجدون التشجيع على الاستمرار في زراعة محاصيل إستراتيجية مقارنة بالخضروات والفواكه التي يتم تصديرها.
وتترك عملية زيادة سعر أردب القمح عدة تساؤلات حول مستقبل دعم رغيف الخبز الذي مازال ثابتا عند سعره المحدد منذ عقود (5 قروش للرغيف) بعد تصريحات أدلى بها وزير المالية محمد معيط وتحدث فيها عن أن سعر كلفة رغيف الخبز المدعم يصل إلى 115 قرشا، ما يضاعف فاتورة الدعم التي يريد صندوق النقد تقليصها.
وشدد نادر نورالدين في حديثه لـ”العرب” على أن “الحكومة لها حسابات مختلفة بشأن زيادة أسعار الخبز المدعم، وهناك مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى غضب فقراء يتحصنون بسعره للحصول على قوت يومهم، ويبقى القرار سياسيا من اختصاص رئيس الدولة الوحيد الذي له القدرة على اتخاذه، والنقاشات الأخيرة بشأن زيادة أسعاره في الصيف الماضي مع احتدام أزمة القمح لم تفض إلى نتيجة، ما يدعم استمرار سعره الحالي”.
زيادة أسعار توريد القمح تتماشى مع تراجع قيمة الجنيه، ما يعني أن كلفة إنتاج الأردب تزيد مقابل 50 في المئة
وسجل الاستهلاك الفعلي للقمح في مصر خلال العام الماضي نحو 20.1 مليون طن، بتراجع تبلغ نسبته 1.95 في المئة عن العام السابق له بسبب زيادة أسعار الطحين ومنتجات المخبوزات على المواطنين، والتي أدت إلى خفض الاستهلاك المحلي.
وأشار خبير الاقتصاد السياسي كريم العمدة إلى أن الحكومة تأخرت في اتخاذ قرار زيادة أسعار أردب القمح، وكان عليها أن تواجه أزمات القمح العالمية منذ نشوبها إثر اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، ما يجعل قراراتها الحالية محل شك من قبل مزارعين يرون أن تكاليف الزراعة سوف تتضاعف نتيجة تراجع قيمة الجنيه.
وذكر العمدة في تصريح لـ”العرب” أن “البطء الحكومي سمة سائدة في التعامل مع الملفات ذات الأهمية الإستراتيجية، وغياب عوامل تحفيز المزارعين يمثل هاجسا لاستمرار اضطراب الأمن الغذائي، وقد تكون هناك أزمة أكبر حال استجابت الحكومة لمطالب علاج تشوهات الدعم الحكومي، في حين أنها لم تنجح في توفير كميات من القمح، وتترتب على ذلك زيادة أسعار الخبز السياحي، وقد يطال الأمر الخبز المدعم”.
وتعد مصر من أكبر مستوردي القمح في العالم، وتسعى إلى زيادة مشترياتها من القمح المحلي لخفض فاتورة الواردات، وينتج المزارعون نحو 9 ملايين طن من مساحة 3.5 مليون فدان، وتستورد الحكومة قرابة 11 مليون طن من الخارج.