رحمن خضير عباس لـ"العرب": سعيت إلى استشعار النبض الحيوي للإنسان المغربي

"المغرب بعيون عراقية" يقدم نظرة بانورامية لثقافات المغرب المتعددة.
الجمعة 2024/03/15
كاتب اهتم بأبرز معالم المغرب

بعد تجربة العيش لسنوات في المغرب وزيارة مدنه والاطلاع على ثقافات سكان هذه المدن وتاريخها، اختار الكاتب العراقي رحمن خضير عباس أن يروي تجربته في كتاب يقدم فيه صورة “المغرب بعيون عراقية”.

الرباط - تكتسب كتابة المذكرات الروائية والكتب التي تؤرخ للمدن العالمية بعيون أجنبية أهمية كبيرة في فهم وتوثيق تجارب الحياة والتطورات التاريخية والثقافية التي شهدتها المدن عبر الزمن، فهذه الأعمال الأدبية تعكس رؤى متنوعة ومتعددة تسلط الضوء على جوانب مختلفة من حياة المدن ومجتمعاتها، وتساهم في إغناء الثقافة العامة وتعزيز التفاهم بين الثقافات.

وهذه الأعمال الأدبية غالبا ما تكون غنية بالتفاصيل والصور اللغوية التي تأخذ القارئ في رحلة إلى عوالم مختلفة، حيث يعكس الكتاب غالبا وجهات نظر ثقافية وتاريخية مختلفة، ويمكن أن تكون لكل كاتب رؤية خاصة وفريدة للمدينة التي يكتب عنها.

ومن هذه الأعمال كتاب بعنوان “المغرب بعيون عراقية” للكاتب العراقي رحمن خضير عباس، وفيه يتناول خصوصيات الثقافات في المغرب محاولا  إثراء الفهم العام للبلد وتاريخه وتراثه، انطلاقا من نظرته الفريدة والعميقة للثقافة والمجتمع والتطورات السياسية والاقتصادية التي تميزت بها المملكة.

الكتاب محاولة لتلمس النبض الحيوي للإنسان المغربي في بعض جوانب حياته، كما هو النظر إلى المدن المغربية
الكتاب محاولة لتلمس النبض الحيوي للإنسان المغربي في بعض جوانب حياته، كما هو النظر إلى المدن المغربية

في حديثه مع “العرب” يقول الكاتب العراقي “كتابي كان نتاجًا للتجربة التي عشتُها في أواخر السبعينات، حيث أقمنا في المغرب كمجموعة غير متجانسة من العراقيين، الصدفة وحدها هي التي جمعتنا، فلم نكن قد خططنا لذلك مسبقًا، سوى أن أكثرنا كان هاربًا من قفص حديدي كبير يُدعى الوطن، كنا متوجسين من حقيقة وجودنا في المغرب، وتنتابنا مشاعر متضاربة بأننا نمر بمرحلة طارئة، حتى أننا ترددنا كثيرًا في شراء مستلزمات السكن والعيش مثل الأثاث، واكتفينا بالضروري فقط، كأننا في حالة من السياحة والسفر، متلهفين إلى سماع أخبار الوطن الذي غادرناه، ولكنه لم يغادرنا”.

ويستدرك “لكن الحياة المغربية ببساطتها وهدوئها قد سمرتنا على أبوابها، فاقتنعنا بأنها ليست مجرد محطة انتظار، وإنما هي ملاذ بديل سرعان ما تحول إلى عنصر حياتي، تناسينا به همومنا وإمكانية العودة إلى الوطن الأول. شيئا فشيئا، تناغم أكثرنا مع الواقع المغربي الذي انتشينا بعطره، وتسللنا إلى عمق الحياة فيه، وتشبعنا بعاداته وتقاليده، إذ كان المغاربة أقرب إلينا من دول تجاورنا، كأنها عملية جذب بين قطبين متباعدين، لأن العراق في أقصى الشرق والمغرب في أقصى الغرب، ومع ذلك، لمسنا أشكالا من التعاطف والاحترام من قبل أغلب شرائح المجتمع”.

ويضيف عن نظرة المغاربة إلى العراق “فور ذكر العراق أمام المغاربة، تنهمر الذاكرة الجمعية لديهم، فيبدأون بالحديث عن أصالة العراق، وعن شعره وأدبه، وعن عصوره الذهبية، ويتحدثون عن التمر والنهر والحضارة وأمور أخرى تُشبع فينا الألفة التي نفتقدها في بلدان أخرى، وأحيانًا نحاول أن نُوضح لهم التراجع الكبير الذي شهده العراق، ولكن مخيلتهم الجماعية ترفض ذلك، وتبقى متشبثة بالعراق المتألق الذي سيتجاوز المحنة”.

ويتابع “المغاربة يعرفون عن بلادنا أكثر منا، يحدثوننا عن مرقد الإمام عبدالقادر الجيلاني في بغداد، كما يتحدثون عن الجواهري والسياب ومظفر النواب، يذكرون لنا المجلات الأدبية التي تأتي من العراق، رخيصة في ثمنها وغنية في محتواها، ويحفظون أغاني ناظم الغزالي، فكان للمغرب الفضل في تهدئة قلقنا، وذلك بإسعافنا بالمحبة والمودة، وجعلنا أكثر قابلية للاستقرار”.

ويصف رحمن المدن المغربية أثناء زياراته المتعددة قائلا “في المغرب وجدت ما افتقدته في العراق، وهو الحرية في تحقيق الذات، فالمغاربة لم يتدخلوا في قناعاتنا الفكرية وسلوكنا، ولكنهم يرفضون أن نتدخل في شؤونهم أيضًا، ومن خلال هذه المعادلة المنصفة ارتأيت أن أصنع لنفسي سقفًا للحياة يحميني من عواصفها، وتحدثت في الكتاب عن المدن المغربية التي مررت بها بشكل عابر، والمدن التي أسست لي سقفًا فيها. وبدأت بمدينة وجدة التي جعلتني أنجذب إلى المغرب. وتطرقت إلى روح التآلف عبر الحدود، وأصل التسمية للمدينة حيث أدرك جند إدريس قاتل ملكهم سليمان الشماخ الذي اغتال الملك إدريس وهرب باتجاه الشرق، وحينما وجدوه صاحوا ‘وجدوه’ فسميت بهذا الاسم”.

لقاء القمة

ويشير إلى أنه تناول في الكتاب “رقصة الركادة المشهورة عند الوجديين وكيف ظهرت وانتشرت، كما وصفت مدينة تارودانت التي عشت فيها لعامين، حيث الأزقة القديمة والأسوار وطبيعة الحياة والزراعة والمواسم الدينية والصناعات التقليدية، وتوقفت عند ساحة أسراك، ودار زوجة شاه إيران فرح بهلوي التي فتنت بالمدينة واشترت دارًا هناك. وتناولت عشق الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك لهذه المدينة التي كان يرتادها بين الفينة والأخرى، كما وصفت متحف الفنان الشيلي كلاديو برافو الذي عشق المدينة ومات فيها”.

في الباب المخصص لأكادير يقول خضير عباس “تناولت أوفلا حيث الموت والانبعاث في آن واحد، إذ ماتت المدينة بفعل زلزال ستينات القرن الماضي، ولكنها أنجبت مدنًا أخرى وسواحل وشوارع فارهة ونمط حياة مختلفا، تحدثت عن البطوار ووصفته بأنه وجه المدينة الهزيل والشاحب والمتخم من نواح أخرى، وسوق الأحد الذي يمثل ظاهرة اجتماعية وتجارية وبصمة في المنتوج الذي يعكس وجه المنطقة”.

ويضيف أنه “في مراكش وصفت ساحة جامع الفنا كأبرز علامة للمدينة حيث تتجسد الوجوه المراكشية التي تطفح بالبِشْر والفرح وسرعة البديهة وجمال الدعابة وخفة الدم، فالمراكشيون يواجهون قسوة ما يحيط بهم بطرافة النكتة وعمق المثل الدارج، والاستعداد الطبيعي لكسر الحواجز مع الغرباء، والمراكشي مستعد للرقص والغناء في إيقاعات أفريقية جميلة، تجعل للجسد لغة ذات مضامين إنسانية، فتلك الساحة التي تمتد بامتداد النظر، تبدأ بصومعة الكتبية التي اقتبست اسمها من حي الكتبيين والوراقين الذين كانوا يمارسون عملهم في هذا المكان، ساحة جامع الفنا هي روح مراكش التي تتدفق بالحياة، فما إن يبدأ المساء حتى تشع بالأضواء والأبخرة والأصوات، وباندفاع الناس في جميع الاتجاهات، وكأنهم يطوفون في فضاء يتّسع لخطواتهم، وفضولهم وبحثهم عن الجديد والممتع، حتى تتحول الساحة إلى ما يُشبه الثقب الأسود، الذي يبتلع الزِّحام، ويقذفه إلى المنافذ والشوارع المحيطة”.

ويحكي “وصفت قصر البديع الذي بُني في القرن السادس عشر، وكيف نُهبت أحجاره لبناء قصور في مدن أخرى. كما تأملت الجمال العمراني في قصر الباهية، ولم أنس حدائق ماجوريل التي أصبحت قبلة للسياحة. أما طنجة فقد رأيتها من خلال سور المعكازين الذي يُطل على المحيط، ثم الأسطورة التي نُسجت عنها وكذلك عن مغارة هرقل، والأدباء الذين عاشوا فيها، ومنهم بول بولز وجان جينيه ومحمد شكري، لكن طنجة التي تُشرف على البوغاز تنظر بقلق إلى قوارب الموت للأفارقة الحالمين بفردوس أوروبا الوهمي، تحدثت أيضًا عن بعض المظاهر القديمة التي مازالت شاخصة ومنها المستودعات الأمازيغية التي تسمى إيكودار، وسأقتبس ما كتبت عنها: باب قديم من خشب الأركان، فاحت رائحة متوحشة موغلة في أعماق اللحظة التاريخية المشحونة بالترقب، الدهليز واطئ السقف، قادنا إلى باحة مستطيلة تتوسطها الأعشاب البرية التي نفذت عبر مسامات الصخور، أشعة الشمس تتغلغل في الجدار العالي؛ لتعكس عتمة شفافة في الجدار المقابل”.

في مراكش وصفت ساحة جامع الفنا كأبرز علامة  للمدينة حيث تتجسد  الوجوه المراكشية التي  تطفح بالبشر
في مراكش وصفت ساحة جامع الفنا كأبرز علامة للمدينة حيث تتجسد الوجوه المراكشية التي تطفح بالبشر

ويقول الكاتب العراقي لـ”العرب”: “نقف مبهورين إزاء ما فعله المغاربة القدماء، حيث أسسوا أول بناء بفكرة الادخار البنكي، مخزن إيكنكا الذي لم يبق من ملامحه سوى الحجر والصخر والذي ماثل التنوع الجيولوجي للأرض التي يقف عليها، وكأنه المركز لما يحيط به، وعلة وجود الحياة التي تدنو منه”.

وتفاعل رحمن عباس خضير مع الثقافة المغربية وتأثر بها خلال فترة إقامته في المغرب، حيث عبر عن هذا بالقول “تحدثتُ في الكتاب عن الأدباء والفنانين الذين مروا على المغرب واستقروا فيه، ومنهم بول بولز الأديب الأميركي الذي قدّم محمد شكري إلى العالم عبر ترجمة أعماله إلى الإنجليزية، كما تحدثتُ عن الشاعر الفرنسي الراحل والمدفون في مدينة العرائش جان جينيه وعن حياته في المغرب وعلاقته بالمهمشين وإصراره على أن يُدفن بعد موته في المغرب، وذكرتُ مواقفه من القضايا العربية، فهو من أوائل الأدباء الذين دخلوا مخيم صبرا وشاتيلا بعد المجزرة”.

ويوضح “لم أكتف بوصف المدن والشخوص، بل تجاوزتُ ذلك في الحديث عن بعض المظاهر التي يتفرد بها المغاربة دون غيرهم، ومنها وفرة المقاهي وأناقتها، حتى أن شارعًا واحدًا في أغادير فيه من وفرة المقاهي أكثر من عواصم عربية في الشرق الأوسط، وكانت فرصة لي أن أتحدث عن تاريخ المقاهي في العالم بسبب اكتشاف البن، وكيف عرف الأوروبيون هذا الشراب الذي كانوا يسمونه ‘نبيذ العرب’ وكيف تطور المقهى ليصبح مجالًا للراحة والتأمل واللقاء، كما تناولتُ الصالونات الأدبية في المغرب والتي أصبحت رافدًا مهمًّا للثقافة، وذلك بسعيها لدعوة الكثير من الأدباء والفنانين والمفكرين والمطربين والشعراء إلى تسليط الأضواء على منجزاتهم الأدبية والفنية، وتناول الكتاب أيضا المائدة المغربية وطبيعة الطبخ والتقديم والعادات التي ترافق ذلك، واحتفاء المغاربة بالضيف وأنواع الأكلات التي ترافق المناسبات الدينية والاجتماعية، وطريقة تقديمها وكذلك الأزياء المغربية المتميزة”.

ويختم رحمن الحوار بقوله “يمكنني القول إن كتاب ‘المغرب بعيون عراقية’ محاولة لتلمس النبض الحيوي للإنسان المغربي في بعض جوانب حياته، كما هو النظر إلى المدن المغربية بتنوعها وجمالياتها، إضافة إلى نصاعة الريف والسلوك والجبال والأنهر المغربية. لقد جاء الوصف عفويًا عاطفيًا، بعيدًا عن الرؤية السياحية التي ترى من الأشياء بريقها، حيث حاولتُ أن أبحث عن جوهر المدن وزواياها الخلفية، من أجل تقريب ذلك إلى القارئ بشكل عام والقارئ العراقي بشكل خاص، إذ أن هذا الكتاب هو مجرد تحية مودة إلى المغرب الذي ترفّق بِنَا ومنحنا سقفًا هادئًا”.

14