بيت الفلسفة الإماراتي يناقش ترجمة النصوص الفلسفية

الترجمة فعل ضروري في الفلسفة وواجب كل فيلسوف.
الاثنين 2024/03/11
الترجمة جوهر الفعل الفلسفي

ارتبطت الحضارة العربية الإسلامية بالترجمة ارتباطا وثيقا، حيث مثلت ترجمة الفلسفة الإغريقية وسيلة هامة لتحقيق الحركية الفكرية وفتح آفاق للمفكرين والأدباء العرب لفهم الآخر والتفاعل معه وبالتالي تحقيق فهم أفضل للذات، إلى أن وقعت الفلسفة ضحية الفقهاء واختفت ترجمتها طيلة قرون لتعود اليوم، طارحة تحديات عديدة على فعل ترجمة الفلسفة.

ترجمة النصوص الفلسفية، وما يستتر داخلها من صعوبات ترتبط باللغة والفهم، والعلاقة بين المترجم والمترجَم، وتأثير المترجَم على المشهد المعرفي والفكري داخل هذه الثقافة أو تلك، هذه الإشكاليات كانت محور النقاش في جلستين أقيمتا في بيت الفلسفة بإمارة الفجيرة في الإمارات، وذلك بالتعاون مع مؤسسة سلطان العويس الثقافية في إطار احتفالات الأخيرة بالفائزين بجوائزها في الدورة الـ18 (2022 ـ 2023).

وقد شارك في الجلسة الأولى مؤسس بيت الفلسفة الأكاديمي أحمد برقاوي والأكاديمي عبدالسلام بنعبدالعالي الفائز بجائزة العويس فرع الدراسات الإنسانية والمستقبلية، وشارك في الجلسة الثانية المفكران المصريان الأكاديميان أنور مغيث وسعيد توفيق.

انطلقت الجلسة الأولى بمداخلة أحمد برقاوي الذي أكد أن الترجمة تمثل انتقالا من الوعي الذّاتي إلى الوعي بالآخر، وأنها تتيح لنا أن نخرج من قوقعتنا الذاتيّة وأن نتعرّف إلى الآخر من خلال التعرّف إلى أفكاره ومفاهيمه، ومن ثمّ العودة إلى الوعي الذاتي لمناقشة الأفكار المترجمة واتّخاذ موقف نقديّ منها.

الفيلسوف مترجما

◙ الترجمة وعي مزدوج: وعي بتقدم الآخر، ووعي بحاجتنا إلى أن نتعرف على تجربة الآخر المتقدم
◙ الترجمة وعي مزدوج: وعي بتقدم الآخر، ووعي بحاجتنا إلى أن نتعرف على تجربة الآخر المتقدم

ورأى أن الفيلسوف مترجم، مضيفا “نحن ليس بيننا من يترجم وهو من خارج الفلسفة، الفيلسوف نفسه هو المترجم، وهذه ظاهرة تنم عن العلاقة التي تقوم بين الفيلسوف العربي وبين الفيلسوف الآخر، إن اختيار الفيلسوف مترجما هو خيار فلسفي قح، سواء كان المترجم موافقا أم غير موافق على ما يترجم، هذه القضية تصبح مرتبطة مع الآخر ومعرفته، والحق لو قرأنا ما قرأه حسين فوزي النجار في حديثه عن لطفي السيد، يقول ‘كانت الترجمة جزءا من رسالة الأستاذ لأمته وتلاميذه، ودعما لأفكاره التي نادى بها من قبل، وهو واجب على كل قادر عليها في عصر اليقظة والنهضة'”.

وتابع “يضاف إلى هذا النص الطويل نص مؤكد وهو تعليق لطفي السيد على ترجمات أحمد فتحي زغلول حيث رأى أنه ‘منذ عام 1882 كان يرى الأمة تتقلب في أحوال متناقضة مبهمة، فكانت تسؤوه هذه الأحوال ويود لو أن الشعور الوطني الذي كان وقتئذ في حذو مستمر أن يولي وجهه شطر الآخر’. إذن الترجمة في الأصل كانت في وعيهم، الفلاسفة المحدثين الأوائل، سبيلا للتقدم. حتى إن فتحي زغلول عندما ترجم ‘سر تقدم الإنجليز السكسونيين” أراد أن يكشف عن سر تقدم الإنجليزيين والفرنسيين اعتقادا منه أن الأمة قادرة على أن تحذو حذوهم في تأسس سبل التقدم”.

ورأى برقاوي أن الترجمة وعي مزدوج: وعي بتقدم الآخر، ووعي بحاجتنا إلى أن نتعرف على تجربة الآخر المتقدم، اعتقادا من المترجم بأنه يمكن للمترجَم أن يترك أثرا محمودا في وعينا بثقافتنا ويدلنا على ما ينقصنا. إن الترجمة هنا تعويض عما ينقص الثقافة التي ننتمي إليها أو إغناء لهذه الثقافة، لأن الثقافة تمدنا بجملة من المفاهيم التي قدها الآخر، والمفهوم أداة معرفية يتحرر من حقله الذي نشأ فيه، ليغدو أداة معرفية كلية.

ويتابع “لقد كان فرح أنطون أول من ترجم ‘هكذا تكلم زاردشت’، ثم مع نشأة تطور الوعي الفلسفي بنشأة جامعة القاهرة بدأت الترجمة تأخذ طابع الانحياز من قبل الفلاسفة المترجمين، فالماركسيون مثلا راحوا يترجمون ماركس وأنجلز ولينين ليحضروا في عالمنا بوصفهم منتمين إلى ثقافتنا.. لماذا؟ لأن الوعي الأيديولوجي آنذاك كان يعتقد ومازال يعتقد بأنه ينتمي إلى هذا الحقل من الفكر، إلى هذه المفاهيم المتنوعة للماركسية. وأيضا راح الوجوديون يترجمون الوجودية، عبدالرحمن بدوي ترجم ‘الوجود والعدم’ لسارتر، لتصبح الوجودية حاضرة مترجمة من جهة وحاضرة تأثيرا من جهة أخرى، هنا بدأت العلاقة بين المترجَم ووعي المترجِم علاقة داخلية حميمة وليست علاقة خارجية”.

وأشار برقاوي إلى أنه في تطور آخر أصبحت هناك مؤسسات للترجمة، وبالتالي صارت الترجمة جزءا لا يتجزأ من وعينا ليس بالآخر فقط بل بوعينا بذواتنا، صرنا نحمل جملة من المفاهيم الجديدة التي تسمح لنا بالتفكير بعالمنا، وسائلا: ألم تكن هذه العلاقة علاقة غالب بمغلوب؟ مسألة على جانب كبير من الأهمية، ومثلما قال جدنا ابن خلدون سابقا “والمغلوب مولع بتقليد الغالب”. دعكم من الشعر والرواية، الترجمة الفلسفية تنطوي على نوع من هذا الوعي، يعني كانت وضعية زكي نجيب محمود تسمح له بأن يترجم عن الوضعية، كانت وضعيته تسمح له بأن يفكر وضعيا بعالمنا، فصارت الترجمة تمد المترجم الفليسوف بمنهج في التفكير. لكن مرحلة الوعي بالمترجَم بوصفه غالبا بدأت تتقلص شيئا فشيئا، ولذلك نشاهد حتى المترجمين الذين كانوا ينتمون إلى مدارس فلسفية غربية عادوا مرة أخرى إلى عملية أسميها “النكوس الفلسفي”، وهو شأنه شأن أي نكوس آخر، لأن الانتقال من الفلسفة إلى ما دونها هو نكوس بالمعنى الفرويدي للكلمة.

وتساءل برقاوي: هل يكون وعينا بهذا المعنى مغتربا عن عالمنا؟ هل الأثر الذي تركته الفلسفة الغربية جعلنا نوعا من “التقميشيين” الذين يأخذون من هنا وهناك؟ بالمناسبة عندما أقرأ أو نقرأ في مقال من ألف أو ألفي كلمة عشر إحالات أو أكثر من ذلك إلى مراجع غربية، هذا يعني أن النص ليس سوى “تقميش”، وهنا لا أعيب على إحالة تحاور الرؤية أو الفكر لدى الفيلسوف المأخوذ عنه تلك الإحالة. والحق أن الكتابة الفلسفية إذا لم تقتل المترجَم تظل في حالة تبعية ميكانيكية للنص. طبعا هؤلاء الفلاسفة الكبار لهم أثر كبير في حياتنا نحن العاملين في الحفل الفلسفي، لكن السؤال هل يعوق ذلك دون أن نتحرر منه لنكتب نصنا الخاص أم لا؟ هذه قضية أيضا مهمة. إن هناك أهمية كبيرة في موضع الوعي الذاتي بالمترجَم، حيث يعني كيف نفهم علاقتنا بالآخر المترجَم في إطار الفلسفة ولاسيما أن الفلسفة بالنهاية إبداع، إبداع أدوات معرفية كامنة، إن الفلسفة سؤال، والسؤال استفهام،

◙ ترجمة النصوص الفلسفية وإعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفية وفعل الترجمة جزء من ممارسة التفلسف

والاستفهام عتبة للفهم.

وقال المفكر والمترجم عبدالسلام بنعبدالعالي “إذا كان معظم الفلاسفة مترجمين، فليس سعيا منهم إلى توفير نصوص، وإنما وعيا منهم بأن ترجمة النصوص الفلسفية وإعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفية، وأن فعل الترجمة جزء من ممارسة التفلسف، وأن تجربتهم في الترجمة هي ذاتها تجربتهم في التدريس والدراسة، لا أعني بذلك فحسب أن هايدجر وفوكو وألتوسير ولاكان ودريدا وبوفري وريكور، لا أعني فحسب أن كل واحد من هؤلاء يرتبط اسمه بمصنف نقله إلى لغته، وإنما أن كلا منهم لم يفتأ يعدل ترجمات النصوص التي كان يستثمرها، تلك التعديلات التي يشار إليها عادة في الكتابات الفلسفية باستعمال عبارة ‘التعديل من عندنا'”.

معنى ذلك أن هؤلاء الفلاسفة لا يعتبرون الترجمة مرحلة يعرفها النص ثم يتخطاها كي ينتقل إلى مرحلة الفهم والتفسير، كما لا يعتبرون أن مهمة الترجمة تكمن في إعداد النصوص، ونقل كتب واقتراح مصطلحات، وإنما في أعمال فكر، وإعادة تأويل، فإعادة ترجمة، ولا تخفي الأهمية الكبرى التي اتخذتها إعادات الترجمة هاته، والهزات الفكرية التي أحدثتها، بدءا من الترجمة الألمانية للكتاب المقدس، إلى إعادة ترجمة ماركس وفرويد والقائمة طويلة.

وأضاف أن ترجمة النصوص الفلسفية لا يمكن أن تتلبس الممارسة الفلسفية ذاتها، ولن تعود الترجمة مجرد فعل في تلك النصوص، وإنما تغدو تفاعلا معها، لن تعود تفكيرا في تلك النصوص، وإنما هي تفكير بها. ولعل هذا ما يفسر كون الترجمة الفلسفية تظل عملية لا متناهية حتى داخل اللغة الواحدة. فما دام النص الفلسفي موضع فكر، فهو يترجم وتعاد ترجمته.

دقة الترجمة

أنور مغيث:  لا إمكان لإبداع فلسفي خارج التفاعل مع سلالة من المفكرين
أنور مغيث: في ثقافتنا العربية الإسلامية أدان الفقهاء الفلسفة والفلاسفة منذ البداية ورغم ذلك استمرت الفلسفة لبعض قرون إلى أن تبنى الأمراء أحكام الفقهاء، فانقطعت الفلسفة واختفت من مجالنا الفكري

رأى أنور مغيث في مداخلته التي عنونها “الفلسفة والترجمة عن ‘في علم الكتابة’ لجاك دريدا”، أنه لا إمكان لإبداع فلسفي خارج التفاعل مع سلالة من المفكرين تمتد من طاليس وهرقليطس إلى سارتر وهابرماس مرورا بالفارابي وتوما الإكويني. وقد دفعت هذه السمة المشتركة للنصوص الفلسفية الصادرة بكل اللغات المختلفة بالفيلسوف الأميركى إلى أن يصفها بأنها روايات عائلية يتحدث فيها الأبناء عن أبائهم وأجدادهم.

مضيفا أنه لو تصورنا أن المتخصصين في الفلسفة داخل ثقافة معينة كانوا مؤهلين التأهيل الجيد الذي يمكنهم من قراءة النصوص الفلسفية في لغاتها الأصلية ثم يكتبون بعد ذلك نصوصهم الفلسفية بلغتهم الأم لما عد هذا كافيا، لأن هناك ركنا أساسيا في الفلسفة وهو أن نختبر ما قاله أفلاطون.. هل له معنى في اللغة العربية، وما قاله ابن رشد هل له معنى في اللغة اللاتينية، وكذلك ما قاله ماركس هل له معنى في اللغة الصينية؟ ولهذا كان من الطبيعى أن نجد ميلا من جانب أساتذة الفلسفة إلى جانب كتاباتهم الفلسفية لأن يترجموا نصوصا للفلاسفة من اللغات الأخرى. ولدينا على سبيل المثال في ثقافتنا العربية المعاصرة عبدالرحمن بدوى وفؤاد ذكريا وعبدالغفار مكاوي من جيل الرواد، والزملاء الحاضرون وغير الحاضرين من بعدهم.

ولفت مغيث إلى أن في ثقافتنا العربية الإسلامية أدان الفقهاء الفلسفة والفلاسفة منذ البداية ورغم ذلك استمرت الفلسفة لبعض قرون إلى أن تبنى الأمراء أحكام الفقهاء، فانقطعت الفلسفة واختفت من مجالنا الفكري، وبالتبعية اختفت ترجمة النصوص الفلسفية. المحاولة الأولى للعودة إلى ترجمة نص عن الفلسفة هي التي قام بها الطهطاوي في ترجمته لكتاب قلائد الفلاسفة عن اللغة الفرنسية. ثم جاء الجهد الضخم والاستثنائي الذي قام به أحمد لطفي السيد لترجمة أعمال أرسطو نقلا عن اللغة الفرنسية وكان دأبه وحرصه على بذل هذا الجهد رغم مشاغله السياسية راجعا إلى اعتقاده بأن هذه الأعمال هي التي تمثل البنية التحتية اللازمة لعودة الفلسفة مرة ثانية إلى ثقافتنا المعاصرة.

وهذا في حد ذاته يمثل إشارة إلى أهمية اللغة الفرنسية في ترجمة النصوص الفلسفية إلى اللغة العربية في ثقافتنا الحديثة. يهدف حديثي هذا إلى الإعلاء من شأن الترجمة بالنسبة للدراسات الفلسفية وبيان تهافت مزاعم أنصار الخصوصية الثقافية في ضرورة الاكتفاء بتراثنا الفكري وبلورة فلسفة عربية خاصة بثقافتنا. وينظرون بالتالي إلى الترجمة على أنها نوع من التبعية الفكرية.

◙ فلسفة التفكيك ليست سوى الأيديولوجيا المعبرة عن فكر العولمة التي تهدف إلى تفكيك الدولة القومية

وأوضح مغيث الصعوبات التي واجهته في ترجمة دريدا حيث قال “بدأت بترجمة بيار بورديو وألان تورين وهما عالمان ينتميان إلى تخصص السوسيولوجيا. ولكن بمعاشرتي للسجالات الفكرية الدائرة في مصر وأيضا في البلاد العربية لاحظت الاستخدام المفرط لمصطلح التفكيك، كما وجدته شائعا في النقد الأدبي وفي الخطاب الإعلامي. ولاحظت أيضا نوعا من الترهل وعدم الانضباط في استخدام المصطلح وأدركت أن ذلك ربما يرجع إلى غياب ترجمة كتب جاك دريدا وخصوصا كتابه الضخم الذي يعد التأسيس المعرفي للتفكيك وهو كتابه De la grammatologie  ‘في علم الكتابة’. كنت أستمع إلى نقد تقليدي لا بأس به لرواية أو ديوان شعر لكن الناقد يحرص على أن يطلق على نقده هذا تفكيكا. وآخر يسخر من نص ينقده ويعتبر أنه قام بتفكيك النص مختزلا التفكيك إلى مجرد السخرية. في حين أن جاك دريدا يرى أن التفكيك لا يصلح إلا لنصوص ذات عمق فلسفي ومع نصوص الكتاب الذين نحبهم ونقدرهم”.

وبين كيف ترافقت موضة التفكيك مع ضجة العولمة، واعتبر بعض المفكرين أن فلسفة التفكيك ليست سوى الأيديولوجيا المعبرة عن فكر العولمة التي تهدف إلى تفكيك الدولة القومية، وشاع هذا التفسير في التحليلات السياسية رغم أنه كان من المعروف أن التفكيك، على حد زعم دريدا، يهدف إلى القضاء على المركزية الأوروبية في حين أن العولمة تهدف إلى تعميمها ولو بالقوة. ومن هنا شعرت أن ترجمة في علم الكتابة سوف تساهم في إزالة التشوش الجاري في الثقافة العربية بشأن التفكيك. بالنسبة لي لم يكن الإقدام على ترجمة دريدا سببه الانتماء الأيديولوجي أو التقارب الفكري مع النص الأصلي ولكن كان السبب هو الشعور بضرورة تنوير وترشيد السجالات الفكرية الدائرة في ثقافتنا.

وفي مداخلته التي حملت عنوان “إشكالية الدقة والدلالة الجمالية في ترجمة النص، شوبنهاور نموذجا” بيّن سعيد توفيق إشكالية العلاقة بين الأمانة والدقة في الترجمة، وضرورة المحافظة على الدلالة الجمالية سواء لجهة اللغة المنقول منها أو لجهة المنقول إليها، مستشهدا بتجربته الشخصية مع شوبنهاور الذي يعد فيلسوفا متميزا بدقة المصطلحات التي يستخدمها وجمالية الأسلوب الذي يكتب، وكيف سعى إلى الحفاظ على دقة اصطلاحاته وعلى جمالية أسلوبه لكن بالعربية.

12