فؤاد شردودي يجعل كل ما يحيط به مادة خاما للتشكيل البصري

يجمع الفنان المغربي فؤاد شردودي بين موهبة الفن التشكيلي وموهبة الشعر، ما جعله فنانا مميزا، يصنع فنا يشبهه، ويرى في كل ما يحيط به خامة قابلة لتطويعها بهدف خلق أعمال جديدة.
الرباط - من يمزجْ بين الشعر والتشكيل يكنْ فنانا يمتاز بتجسيد الفن التشكيلي من خلال الشعر، حيث يدمج بين الكلمات والصور ليخلق تجربة فنية شاملة تثير العواطف وتثري الخيال. ويعتبر الشاعر التشكيلي مبدعا متعدد المواهب، يجمع بين فنون الشعر والتشكيل معا لإنتاج قطع فنية فريدة ومبتكرة، ويقوم بتوظيف الصور والرموز التشكيلية في قصائده بطريقة تسمح للقارئ بالتفاعل مع النص بطرق متعددة وعميقة.
ويتنوع أسلوب هؤلاء الفنانين بين الاستخدام المباشر للصور البصرية، مثل وصف المشاهد الطبيعية أو الحضارية بطريقة تخلق صورا بيانية قوية، وبين استخدام الرموز والرمزية للتعبير عن الأفكار والمشاعر بشكل مجازي، إذ يعبر الشاعر التشكيلي عن رؤيته الفنية والفلسفية للعالم من خلال توظيف اللغة بطرق غير تقليدية، ما يعطي النص الشعري بعدا جديدا وعمقا إضافيا، ويخلق تجربة فنية متكاملة للقارئ.
وفي هذا السياق كان لصحيفة “العرب” حوار مع الشاعر والفنان التشكيلي المغربي فؤاد شردودي حول معرضه الحالي. يقول شردودي حول المصدر الرئيسي للإلهام في أعماله الفنية المعروضة “أعتقد أنني لا أستطيع تحديد مصادر الإلهام بشكل محدد، فأنا أعتبر كل ما يحيط بي مادة خاما متاحة للتشكيل البصري، فالكون بكل ما فيه ابتداءً من قطرة الماء وانتهاءً بصورة المجرة يمثل مصدر إلهام لا ينضب، إذ تتشكل اللوحة أثناء عملي عليها من خلال فكرة أو سياق بصري ووجداني معين، وربما كانت المغامرة هي العنصر الأبرز الذي تجلى في أعمالي خلال هذا المعرض، حيث انغمست في اللحظة الإبداعية دون التفكير في حدود معينة”.
ويضيف “يبدو التشكيل كلعبة فكرية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يبدو كفوضى تختزن وراءها نظامًا صارمًا قد يشغلني لفترة طويلة، وفي رأيي يجب على الفنان أن يكون منفتحًا على كل ما يدفع تجربته الفنية إلى الأمام، تصور مصادر الإلهام المحددة أصبح من الماضي بالنسبة إلي، فقد تكون اللوحة نتيجة حادث لا علاقة له بالتخطيط الأصلي، لكن المعالجة والتشكيل الفني يكشفان الكثير من الأسرار والأسئلة”.
ويشير إلى تطور نمطه الفني على مدى العشرين سنة الماضية قائلا “قدّمت أول معارضي في نهاية التسعينات، وكنت متأثرا حينها بالمدرسة الواقعية، كغيري من الشباب الذين تقودهم الموهبة والرغبة الجامحة في ملامسة سحر الرسم. ومع السنوات الأولى للألفية، اكتشفت أن الخطاب التجريدي هو الأفق، ذلك لأن رهاني الفني تجاوز الواقعي، وصرت أبحث عن أسلوب يتجاوب مع رؤيتي للوحة، كصانع للخطاب والمعنى وليس مجرد ناقل له، وأعتقد أن المغامرة هكذا بدأت، ومع الكثير من البحث المتواصل والرغبة المستمرة في التجاوز، صارت اللوحة تستجيب بقدر مهم لتطلعات ذاتي المبدعة”.
ويتابع “في كل معرض كنت أبحث عن تجاوز ما أنجزت في السابق، لذلك كانت المغامرة ممتعة بشكل كبير، ومما غذى ذلك زياراتي للمعارض والمتاحف الكبرى في العالم واستماعي لما ينجز كونيا، فلم أكن في يوم ما مطمئنًا لما أنتج، كان يسكنني قلق في كل لحظة، وفي كل لوحة، ولربما هذا القلق هو ما قادني إلى اكتشاف جغرافيات بصرية جديدة وأتاح لي فرصة التجريب المستمر، ولا أخفي عنك اعتقادي أن رحلتي مع التشكيل لن تقف عند حاجز معين، وسيظل التجريب والبحث مستمرين طالما هناك حياة”.
◙ شردودي يرى أن لكل فنان رؤيته الخاصة وأسلوبه الفني الذي يمثل ذاته وتجربته، وبالنسبة إليه فلا يهتم بالمقارنات ويحاول خلق خطاب بصري قوي بما يكفي لمعانقة المستقبل
وفي حديثه عن العناصر المختلفة التي تميز أعماله يقول فؤاد شردودي “لكل فنان رؤيته الخاصة وأسلوبه الفني الذي يمثل ذاته وتجربته، بالنسبة إلي أنا لا أهتم بالمقارنات، أحاول خلق خطاب بصري قوي بما يكفي لمعانقة المستقبل، وبما يتيح صياغة أفكاري وعقيدتي الفنية، إذ أن ما ينتج حاليا في الراهن التشكيلي بالمغرب يدعو إلى الكثير من التأمل، هناك تجارب مهمة تنحت حضورها المتميز مثلما فعلت ذلك أجيال سابقة، بمنطق التحاور والتجاوز، فلوحتي هي قدري أنا، هي كتابتي ونصي، وهي رؤيتي للعالم، كل تطلعاتها هي أن تخلق لحظة جمالية رفيعة”.
ويضيف “العمل التشكيلي هو تكامل عناصر عدة، وهو خلاصة تجربة تتداخل فيها مكونات كثيرة، منها الزمن وهو أحد شروطها الأساسية، ومنها أيضا الشكل والخطاب، بالإضافة إلى المرجعيات الإبداعية والثقافية، فكوني شاعرا جعلت من مطبخي الفني فضاء يتفاعل فيه البصري مع المتخيل بشكل مستمر، ولعل ما جعل عملي الفني محط تقدير هو هذا المنسوب الكبير فيه من الشعرية، من البحث الدائم عن الضوء، ومن التجدد المستمر”. وفي نقاشنا عن الشفافية وألوان الباستيل في الإبداعات الحديثة له، وما مدى أهميتها في معارضه، يجيب فؤاد شردودي “تعودت منذ البدايات الأولى ألا أحصر اشتغالي في مواد بعينها، بل كنت دائمًا أحاول أن أجرب إمكانيات مواد متنوعة، خصوصًا في تجارب سابقة، كنت قد اشتغلت فيها كثيرًا على المادة، وعلى فاعلية السمك على سطح السند، في التجربة الجديدة أعرض قراءة مختلفة عما سبق لفضاء اللوحة، تجربة تنصت للمساحة بشكل أكثر إمعانًا، لذلك شكلت الشفافية أفقًا خصبًا للمنجز، الشفافية بحضورها الشعري، وباحتمالاتها التأويلية، حيث القليل من الكلام في اللوحة، والكثير من الدلالة”.
وأثرت الرحلات والمعارض في الخارج على أعمال الفنان التشكيلي فؤاد شردودي، وقد عبر عن هذا بقوله “لا يمكن لأي تجربة فنية أن تتطور من داخلها دون أن تتفاعل مع محيطها، هذا التفاعل قد يأخذ أشكالًا وأبعادًا عدة، ولطالما آمنت بأن الاطلاع على التجارب الفنية الراسخة في الإبداع البصري عامل أساسي في جعل اللحظة الإبداعية أكثر غنى ومعرفة، حقيقة لقد أفادتني كثيرًا تلك المعارض واللقاءات الثقافية والفنية التي حضرتها أو شاركت فيها سابقًا، كل ذلك من شأنه أن يخدم التجربة الفنية ويجعلها واعية بموقعها الزمني وبرهاناتها الإبداعية، علاوة على ذلك ما تتيحه اللقاءات الفنية الدولية من فرص لتماهي التجارب الفنية وتحاورها وهو ما يخلق جوًا فنيا وثقافيًا حيًا وأكثر ديناميكية”.
ويضيف “أنا أؤمن كثيرًا بتداخل الفنون، وبانصهارها أحيانًا في أفق مشترك، لست أنا من اعتبر أعمالي شاعرية، لربما هذه قراءة من ضمن قراءات عدة لمنجزي التشكيلي، وأجد لها سندًا قويًا في تجربتي الشخصية، كوني شاعرًا في الآن ذاته، ثم لأن لوحتي دائمًا منفتحة على التأويل، إنها لا تقدم خطابًا يقينيًا، هي باعثة على التفكير والتخيل، ولعل هذا هو أفق الشعر أيضًا، وأعود إلى مسألة تداخل الفنون لأقول بأن السينما والمسرح والموسيقى كل ذلك اعتبره فضاء إبداعيًا وإنسانيًا مشتركًا أثر بشكل كبير في صياغة ذاتي وشخصيتي الفنية”.
وفي حديث عن تأثير وجود لوحاته في المتاحف والمؤسسات الثقافية الأوروبية والعربية على سمعته الدولية، يقول التشكيلي المغربي “ربما هو وضع اعتباري يسعى المبدع إلى أن يكتسبه عمله الفني، إذ أن حضور أعمالي في مؤسسات ثقافية دولية هو دافع إلى المضي قدمًا في هذه الرحلة، كل ما سعيت إليه في مرحلة ما بعد الإنجاز هو أن يجد عملي الشروط المناسبة للتداول والعرض، وأن يحظى بظروف التلقي المثالية، وصدقًا حين أدخل مرسمي لا أستحضر أي شيء من هذا القبيل، لا أبعاد مادية ولا حتى معنوية، صراعي الدائم والمستمر هو اللوحة ذاتها، هو تماسك وقوة العمل الفني. وكل ما يأتي بعد ذلك، غالبًا لم يكن مخططًا له في السابق”.
وقد نجح فؤاد شردودي في خلق أعمال تتجاوز الحدود اللغوية والثقافية، كما يظهر ذلك في ترجمة أعماله إلى عدة لغات، ويوضح هذا بقوله “الترجمة تقدم للعمل الشعري تأشيرة عبور إلى جغرافيات قرائية مختلفة، شرط أن يكون العمل الشعري مبنيًا بشكل رصين، الاشتغال على القصيدة لدي يشبه في الكثير من الأحيان اشتغالي على اللوحة، نفس الأسئلة تسكنني في اللحظتين، ولربما نفس الإيقاع أيضًا، لذلك فعل الترجمة هو نقل لنبض الذات، فيه الكثير من الشعرية أيضًا، والنص الجيد في الغالب يخلق ظروف عيشه في أي بيئة جديدة، إذ حاولت في تجربتي الشعرية أن يكون قارئي متنوعًا لذلك أصدرت أعمالًا في دول خارج المغرب، اعتقادًا مني بأن النص الشعري هو نص كوني يمتلك من المقومات ما يجعله عابرًا لكل الحدود”.