الهجرة في تونس تتحول من حلم إلى هوس

“ما أصعب أن تكون هنا وما أصعب أن تكون هناك”: هذه المقولة ذات البعد التراجيدي، تلخص علاقة التونسي بالأرض التي يعيش عليها والبلاد التي ينوي الهجرة إليها.
هي “أزمة قلق وجودي” إذن، وتتجاوز، في أحيان كثيرة، تلك الدوافع والأسباب الاقتصادية والاجتماعية في منظورها التقليدي المعتاد لتمتد إلى الجذور التاريخية لشعب يسكن قلب المتوسط، يطل على ثلاث قارات، وعلى أرضه مرت واستوطنت حضارات.
كل شيء “يُغري” بالهجرة من تونس ابتداء من غريزة حب الاستكشاف التي توقظها الأضواء المتلألئة في سواحل الجزر الإيطالية، والتي قد تبدو بالعين المجردة في بعض المناطق التونسية، وصولا إلى واقعية الأسباب والدوافع المتمثلة في الفقر والخصاصة والرغبة في تحسين الظروف المعيشية، أسوة بالذين يسكنون الضفة المقابلة.
وقبل أن يخوض المرء في أسباب هوس التونسيين بالهجرة، عليه أن يستلهم من الموقع الجغرافي الأخاذ، والذي يتيح للواحد مجرد الرغبة في التنقل وحب الاستطلاع.. هكذا، وبالفطرة والسليقة.
يجب أن تعترف تونس بأنها تستنزف على جميع المستويات، ومهددة في مستقبلها الإنمائي، حيث وصل الأمر إلى هجرة وهروب الكفاءات، والتي تتمتع بالحد المقبول من الحياة الكريمة في بلادها
أما توق التونسيين ومغامرتهم في سبيل الوصول إلى السواحل الجنوبية لأوروبا فقد فاق كل خيال، وأصبغ على هذه المغامرة بعدا ملحميا تُنسج عليه القصص وتُصور لأجله الأفلام، ناهيك عن المؤتمرات والندوات والأبحاث واللقاءات اليومية.. ولم ينته أو يحل هذا المشكل العضال.
الحقيقة أنه ليس مشكلا، بقدر ما هو حل تسبب في مشكل أو مشاكل تطول وتقصر بحسب الحلول المقترحة وأساليب المعالجة والتصدي من الطرفين المتضررين والمنتفعين في ذات الوقت.
يجب أن تقتنع أوروبا بأن أفريقيا القادمة إليها ولو سباحة، إنما تأتي ليس طلبا للثأر أو الانتقام من عقود الاستعمار والإفقار، بل لأخذ حصتها من العيش الكريم وفق لوائح كل حقوق الإنسان، وكذلك للتنمية والتعمير بيد عاملة رخيصة ومهانة في أغلب الأحيان.. هذا ناهيك عن الكوادر التي صرفت عليها حكوماتها في التدريس وتخلت عنها ـ أو قصرت ـ في التشغيل.
وبالعودة إلى تونس التي يهاجر إليها الأفارقة في سبيل الهجرة نحو أوروبا، فإن أبناءها ـ ولتشدد خفر السواحل التونسية في المدة الأخيرة ـ قد ضاقت بهم سبل الهجرة التقليدية المتمثلة في امتطاء المراكب المتهالكة، فصاروا يعمدون إلى طرق جديدة عبر مسالك برية مثل تركيا وصربيا، وصولا إلى تهريب أشخاص في الشاحنات والموانئ عبر البضائع والأمتعة، مما تسبب في حالات وفاة مأساوية.
ولا يقتصر الأمر على الشبان الذكور الذين يتمتعون بالحد الأدنى من الكفاءة البدنية بل تعدى ذلك إلى نساء وأطفال ومسنين، مما يعيد إثارة السؤال المحير والمكرر: ما سبب كل هذا الهوس؟
لنتخيل حجم المأساة.. إنها ليست مجرد أرقام أن يفيد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بأنه تم رصد “فقدان أكثر من 1300 ضحية تونسية” إثر عمليات الهجرة غير النظامية خلال عام 2023.
قبل أن يخوض المرء في أسباب هوس التونسيين بالهجرة، عليه أن يستلهم من الموقع الجغرافي الأخاذ، والذي يتيح للواحد مجرد الرغبة في التنقل وحب الاستطلاع.. هكذا، وبالفطرة والسليقة
المقاربات الأمنية وحتى الاجتماعية والإجرائية غير مجدية أمام معضلة نظنها نفسية أيضا، وتتمثل في ضرورة التصدي لهذه الحالة السايكولوجية المستعصية عبر دراسات وأبحاث جدية لا تهتم للشأن الاقتصادي وحده.
يجب أن تعترف تونس بأنها تستنزف على جميع المستويات، ومهددة في مستقبلها الإنمائي، حيث وصل الأمر إلى هجرة وهروب الكفاءات، والتي تتمتع بالحد المقبول من الحياة الكريمة في بلادها، فلماذا اللوم على الفئات الأخرى من العاطلين عن العمل أو ذوي الدخل المحدود من الذين ضاقت بهم السبل.
وفي هذا الصدد، أوضح المرصد الوطني التونسي للهجرة أن التوقعات بمزيد ارتفاع هجرة الكفاءات تتعلق خاصة باختصاصات الهندسة الرقمية والطب، مشيرا إلى أن عديد العوامل التي تدفع هذه الفئات إلى مغادرة البلاد أبرزها الجانب الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى نقص مجالات التكوين و البحوث والظروف المهنية التي أصبحت لا تتلاءم مع طموحاتهم.
ولفت إلى أن البلدان المستقطبة لهذه الفئات على غرار ألمانيا و فرنسا تعمل على تطوير التشريعات وتسهيل الحياة المهنية لهذه الفئات فضلا عن تقديم أجور مرتفعة و توفير ظروف عمل لائقة، في المقابل يجد الطبيب أو المهندس في تونس نفسه أمام قوة دفع كبرى لمغادرة البلاد.
هكذا تتلقى أوروبا هدية “ع البارد المستريح” كما يقال في المثل العامي، بالإضافة إلى خسائر أخرى تتكبدها تونس على المنظور القريب والبعيد، فكيف الوصول إلى وقف هذا النزيف.
هي وقفة جد ومسؤولية من مختلف الأطراف الحكومية والاجتماعية قبل أن يبلغ السيل الزبى، وكذلك حوار سياسي متكافئ مع الجانب الأوروبي دون إملاءات ولا شروط مجحفة يلخصها المثل الشعبي التونسي البليغ “شرط العازب ع الهجالة” أي على الأرملة.