على الصحف استعادة دورها الثقافي في زمن "الترند"

كانت الصحف والمنابر الإعلامية وسائل تثقيف هامة، وإن مازالت تلعب هذا الدور جزئيا فإنها تخلت عن وظيفتها الثقافية بشكل كبير لصالح الإثارة وحصد المتابعين وبعضها اتخذ نشر الإشاعات والأخبار الساذجة أو المكررة، وهو ما أبعد الصحافة عن دور هام من أدوارها النقدية والثقافية.
الرباط - يظن بعض الناس، ممن يمتهنون الصحافة على عواهنها، أن تلقي الثقافة يأتي من صدارة الخبر، أي الترند والضجة المعمولة حول موضوع معين، إذ يتوهمون أن المنبر الصحفي الجاد هو الذي يركز على كل ما هو حصري، حتى لو كان طلاق فلان أو علان، أو تكبير وتصغير أحد أرداف المشاهير، أو مرور عشرينية جميلة لأول مرة أمام الكاميرا، أو صور لإيلون ماسك ظهرت على سطح القمر، أو حتى تلك السيدة التي أقامت جنازة على قطها المتوفى. هذه أمثلة من الأخبار التي يقتات عليها بعضهم، دون اكتراث كبير بالمعنى والوظيفة الأساسية للنشر والقراءة منذ نشأتها.
يمكن تسمية هذا الأسلوب بـ"عبد المأمور"، وهو بعيد عن تاريخ النثر الصحفي الذي ولد من رحم الأدب في القرن التاسع عشر، ولكن ما يحدث من باب الانقلاب على المفاهيم الأساسية للعمل الصحفي، وليت النقاد والمحللين يناقشون ثقافة الصحافة بين الخبر الجاهز الذي يعتمد عليه الصحفي كعبد مأمور، وبين الخبر المبدع ذي الجودة العالية، الذي يتميز بأسلوبه وشكله ومضمونه.
ينبغي أن يكون شكل المادة المقدمة وليد عقل مفكر، بعد البحث والتنقيب، فالشكل يُشير إلى شيء ويدل على شيء ويعبر عن شيء أساسي، وهذا وحده يُمكن من إثارة الانفعال، بينما يُشوش ويُربك الشكل الآخر الناتج عن الجاهز الذي يثير متلازمة عن أبي هريرة قال.
الخبر المبدع
يُعتبر الخبر الصحفي الجاهز قادرا على حمل الحقائق بقدر استيعابه، ويمكنه نقل المعلومات من وكالات الأنباء وغيرها من المنابر بحرية. ومع ذلك، يجب أن يكون جوهر الثقافة الذي يستقيه الفرد من الصحف مرتبطا بشكل وثيق بالخبر المبدع، إذ لا يتنافس الخبر الجاهز معه في مجاله، بينما يبرز أسلوب التفكير الإبداعي في السعي لاكتشاف التميز والاختلاف من أجل تقديم مادة ثقافية غنية ومميزة تتميز عن غيرها من المواد.
حتى لو حاول خريج معهد الصحافة تقديم مضمون مميز، فإنه قد يفشل في ذلك إذا كان التركيز فقط على الشكل دون الأخذ بعين الاعتبار تميز وجودة المحتوى، ويأتي ذلك لأن الشكل يأتي على حساب المضمون، ولا يعتمد فقط على تقنيات الكتابة الصحفية الشائعة المُدرَسة في ورش العمل بالمعاهد.
لماذا؟ لأن الحالات الذهنية للخبر المبدع خيرة كغاية في ذاتها، ولكي نبرر أي نشاط صحفي تبريرا أخلاقيا، يجب أن نتساءل: هل هذا العمل الصحفي وسيلةٌ إلى حال ذهنية خيرة في توجهاتها؟ في حالة الخبر المبدع، سيكون جوابنا فوريا وقائما على خبرة وجدانية حقيقية، وهذا النوع من الأخبار يكون من أقوى الوسائل التي في حوزة الكاتب الصحفي المبدع، أو الذي يدير المؤسسة الإعلامية وينشد هذا الإبداع تلقائيا بسبب تجربته في الحياة.
لا شيء أسرع من الخبر المبدع في خلق الثأثير والانفعال والفضول، إذ أن مقالا واحدا فيه جزء من سيرة ذاتية على لسان صاحبها يعادل عشرة مقالات خبرية جاهزة، الأول أكثرها قوة لأنه لا توجد حالة أكثر امتيازا وشدة من حالة البحث والتنقيب عن موضوع دسم وثقيل، فأنت حينما تعد خبرا صحفيا جاهزا تقيم حكما أخلاقيا خطيرا، مفاده وضعيتك المهنية في نقل ما يروج لك وما يصلك وما هو منتشر، وبهذا لم يعد وسيلة مباشرة وفعالة في الغاية القصوى التي جاء بها تاريخ النشر والقراءة، فهذه الأخيرة جوهرها الخبر المبدع الذي يثري ويغني القارئ بمضمونه الغني وشكله المُغوي بانفراد تام.
الخبر المبدع هو ذلك الخبر الذي يبذل فيه الصحفي جهدا لإخراجه بصورة جيدة، إذ يغير من تجربتنا في مختلف المجالات الفنية والإعلامية، ويجعلنا أكثر حكمة وسموا، ويعمق رؤيتنا لذواتنا وذوات الآخرين، إن للخبر المبدع المستقل عن وكالات الأنباء والترند وجها موضوعيا أساسيا، يدخل في صميم ماهيته، فالمبدع والمتلقي متضايفان يأخذ كل منهما من الآخر حقيقته ومعناه.
الوظيفة الثقافية
إن الإبداع في الثقافة الصحفية يطلعنا على دينامياتنا النفسية وديناميات الآخرين، ويعتنقنا من مركزية الذات ويخلصنا من ضيق أفق وكالات الأنباء، ويؤهلنا لإبراز الوجود الموجود في الإطار المرجعي للآخرين بسهولة ويسر، ومشاركتهم وجدانهم مشاركة حقيقية مبرأة من انحيازاتنا الخاصة، التي يكون مفادها “نقل مصدر كذا.. عن كذا.. وقال فلان.. وأفاد فلان.. وذكر منبر إعلامي كذا".
الخبر الإبداعي هو أحد صنوف الأخبار الأكثر تميزا في التعبير عن التواصل بين الأفراد وبين الأجيال وبين الأمم، لأن المقال الإبداعي لا يقتصر على زمان معين ولا تحده الحدود الجغرافية، إنه تجسيد للتحرر من جميع أشكال التحيز والتحزب والتعصب، أما الخبر الجاهز فهو مجرد دعوة للتأقلم وتبني روح المشاركة والرضا بما هو موجود وسائد في عالم الإعلام الذي يعتمد على أخبار الوكالات.
لا يُفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن التماس أي منفعة من الخبر الصحفي عن طريق آخر غير طريق الخبر المبدع المنفرد المستقل القائم على البحث والتنقيب، هو إبطالٌ لتلقي الثقافة من الصحف ونفيٌ لماهيتها الأدبية في الأساس، فالخبر الدعائي والتزييني والإرشادي ليس ثقافة غنية تساهم في نشر الوعي، شأنه شأن تاريخ صلاحية علبة الحليب.
الإصرار على توظيف الصحافة لخدمة أغراض ما تجنيه الوكالات هو خسران لوظيفة الصحفي الحقيقية التي لا يقدر على الاضطلاع بها أي ناشط آخر، وتحميله في الوقت نفسه دورا يستطيع مرافقٌ آخر القيام به، كوسائل التواصل الاجتماعي فهي تروج للترند مثل آخر صيحات الموضة وعمليات التجميل أو خيانة زوجية في عالم المشاهير.
وهذا السؤال الذي لم يطرح بعد: ما فائدة عمل طاحوني يبدأ من حيث ينتهي؟ وما فائدة لقمة لا يزال يجادلها الجوع؟ ولا فائدة في العمل واللقمة والسلامة، ما لم تنته بنا سلاسلها إلى نهايات من معدن آخر، نهايات تقوم في ذاتها قيمة جوهرية يخلدها الزمن؟