دار الإفتاء في مصر تعرقل مدنية الجمهورية الجديدة

كثافة الفتاوى تكلف الحكومة المصرية فاتورة سياسية باهظة.
الخميس 2024/02/08
سطوة دينية

الفتاوى لا تزال تأخذ حيزا كبيرا في حياة المصريين وتحدد سلوكهم وتوجهاتهم الاقتصادية والاجتماعية وهذا ما يتعارض مع مساعي مدنية الدولة. ويحذر مراقبون من أن كثافة الفتاوى قد تكلف الحكومة المصرية فاتورة سياسية باهظة.

القاهرة- أحدثت إحصائية لدار الإفتاء المصرية بشأن عدد الفتاوى التي طلبها مواطنون العام الماضي صدمة للكثيرين، لأنها تجاوزت المليون وستمئة ألف فتوى تفاعلت معها الدار، وأصدرت بشأنها أحكاما شرعية بما يجوز ولا يجوز، المحرم والمباح، ما عكس تأثير الفتاوى في حياة الناس، بشكل يعرقل مدنية الجمهورية الجديدة في مصر، ويجعل دار الإفتاء متهمة بالمشاركة في تغييب العقول.

وأبدت دوائر مصرية مخاوفها من استمرار دار الإفتاء على نفس الوتيرة في استسهال تقديم رؤى شرعية حول كل مناحي الحياة، ما يتعارض مع جهود السلطة في تكريس مدنية دولة تقوم على الانفتاح والتحرر من سلطة الفقيه وتسعى لإعمال العقل والمنطق بلا تقديس من جانب المواطنين لخطاب يكرس داخلهم السمع والطاعة.

وأقر مفتي مصر شوقي علام أن الدار استقبلت العام الماضي مليون و607 آلاف و246 سؤالا، أصدرت بشأنهم فتاوى بين شفهية وهاتفية ومكتوبة وإلكترونية وعبر تطبيق الدار والبث المباشر وصفحات التواصل الاجتماعي.

وضاعف استحداث تطبيق “نبض الشارع” لرصد ما يشغل المجتمع من قضايا ومسائل تحتاج بيان الرأي الشرعي عدد الفتاوى، أي أن الدار تذهب للناس ولا تنتظرهم أن يأتوا إليها.

سعيد صادق: كلما ارتفع الطلب على الفتوى ارتفع منسوب التشدد في المجتمع
سعيد صادق: كلما ارتفع الطلب على الفتوى ارتفع منسوب التشدد في المجتمع

وطرحت الإحصائية تساؤلات حول المبررات التي يمكن أن تدفع هذا العدد الغفير من الناس لطلب فتاوى خلال عام واحد، هل لأن هناك مشكلة مرتبطة بارتفاع الأمية والتدين أم أن جهة الفتوى تصر على فرض الهيمنة، وما دوافعها في ذلك، وكيف يمكن بناء دولة معاصرة يصبح فيها الدين مفردة رئيسية في حياة المواطنين؟

وتحمل الطريقة التي جرى بها تسويق مليونية الفتاوى جزءا من تفسير المشكلة، لأن دار الإفتاء تباهت بحجم الإقبال عليها، لإثبات شعبيتها ومصداقيتها عند الجمهور المستفتي، على أمل محو نتيجة استطلاع صادمة منذ عامين، قالت إن 70 في المئة من طالبي الفتوى يحصلون عليها من منابر ومنصات أخرى.

ويحمل الترويج لتحقيق انتصار ديني من خلال زيادة إقبال الناس على طلب الفتوى انتكاسة لجهود الدولة التي تنشد الخلاص من تركة الإخوان والسلفيين والتحرر من هيمنة الرؤى الفقهية على عقول الناس، فاستمرار التهافت على الفتوى يقدم خدمة مجانية للمتطرفين تسمح بوصولهم إلى الناس من ثغرة تلامس احتياجهم لرجل الدين.

وقال الكاتب خالد منتصر لـ”العرب” إن دخول رجل الدين كمرجعية في كل تفاصيل حياة الناس إعلان صريح عن إفلاس العقل، ويمهد لجعل هموم المجتمع وتحدياته رهينة فتوى، والمشكلة أن رجال الدين ينظرون إلى آراء الفقهاء القدامى الذين رحلوا وهم الآن في قبورهم، ويعيدون التسويق لفتاواهم ورؤاهم الدينية.

ويعبر عدم تدخل الحكومة بوضع حد لهيمنة سلطة الفتوى عن قبول طالما يحصل الناس على ما يحتاجون إليه من رؤى دينية عبر مؤسسة رسمية تسعى لإيجاد حلول لمشكلات تلامس الدين، ما يجنب النظام الدخول في خصومة مع أيّ تيار أو مؤسسة أو فصيل يملك رؤى متشددة.

ولا يسمح الظرف السياسي برؤى موازية في المجالات المرتبطة بالمجتمع أو وجود اجتهادات متطرفة، وبالتالي فإنتاج المزيد من الفتاوى الرسمية المتوازنة ينقذ السلطة من تهمة معاداة الدين التي يحاول خصومها من الإخوان وبعض شيوخ السلفيين الترويج لها، بهدف استقطاب الناس إليهم بعيدا عن اللجوء إلى مؤسسة تابعة للدولة، مثل دار الإفتاء، للحصول على ردود شرعية لمشكلاتهم الحياتية.

وتظل أزمة أيّ مؤسسة دينية رسمية في مصر أنها لا تكل من التجاوب مع طالبي الفتوى مهما كانت طبيعة استفساراتهم، أسرية واقتصادية وطبية وربما سياسية، ودائما ما يكون الرد جاهزا، وأصبح لكل مشكلة شخصية أو عامة حل ديني. وإذا كانت هناك صعوبة في السؤال الذي يبحث صاحبه عن فتوى ولا يوجد له نص يبيحه أو يحرمه، يبادر رجال الدين باختراع نصوص خشية أن يتم وصمهم بالجهل، وباتت جهة الفتوى أقرب إلى الإدمان عند البعض، ويعتبرونها ملاذا آمنا.

خالد منتصر: اتخاذ رجل الدين مرجعية إعلان صريح عن إفلاس العقل
خالد منتصر: اتخاذ رجل الدين مرجعية إعلان صريح عن إفلاس العقل

وتتحمل المؤسسات الدينية في مصر مسؤولية زراعة جانب من التطرف في عقول الناس، فاللجوء إليها هو السبيل لنمط حياة بعيد عن الدخول في دوامة الشك والتحريم، وهذه أزمة تقع على عاتق الحكومة التي أخفقت في رفع الوعي المجتمعي وتركت المواطنين أسرى لجهات الفتوى، وتقوم كل مؤسسة باستغلالهم لترميم شعبيتها واستعراض نفوذها ولو أدى ذلك إلى تديين المجتمع وتعطيل محاولات عصرنته.

وأضاف منتصر لـ”العرب” أن الرقم المليوني للفتوى لا يدعو للفخر، فهو ببساطة يعني أن المصريين يعيشون بأجسادهم في العصر الحديث وعقولهم في القرون السابقة، والمجتمع وحده يتحمل صبغ هذه القدسية على رجال الفتوى، وما يحدث دليل على الشلل العقلي وفقدان الناس لثقتهم بأنفسهم، ولذلك يتهافتون على طلب الرأي الفقهي في كل ما يخص شؤون حياتهم.

ويؤسس هذا النهج لمواجهة فكرية واستقطاب ثقافي حاد بين الراغبين في الانفتاح والتحرر بعيدا عن القيود الشرعية، وبين فئة تقدس الالتزام بالرؤى الدينية، في حين لا تعبأ المؤسسة الدينية بهذا الأمر، كونها تستهدف فقط تعويض خسارتها في ملفات حيوية مثل تجديد الخطاب الديني، والإخفاق في مواجهة التشدد الفكري في المجتمع، دون اكتراث بتبعات تقديس الفتوى وانعكاسها على سلوك الناس.

وأكد سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة لـ”العرب” أنه كلما ارتفع الطلب على الفتوى ارتفع منسوب التشدد في المجتمع، وهذا يحمل خطورة سياسية تتعلق بتغييب العقل، ويصعب التحجج بأن الفتوى يجب أن تكون الفيصل عندما يعيش الناس في حيرة أو أن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، لأن ذلك مرتبط فقط بالقوانين التي تلامس الدين وليس حياة البشر.

وقد يكون سعي جهات الفتوى لاستسهال تقديم رؤى دينية حول كل شيء وأي شيء هو محاولة للالتفاف على ملف تجديد الخطاب الديني بدعوى أنها تقوم بذلك من خلال توعية الناس بالدين عبر تصحيح مفاهيم الفتاوى وموروثاتها، وهذه كارثة، لأن أغلب الآراء الدينية مأخوذة من التراث المتهم بتجميد الخطاب.

ويقود ارتفاع الجرعة الدينية في المجتمع المصري إلى مخاطر أمنية تتعلق بأن المتشددين سيجدون المنفذ الذي يصلون منه إلى الناس، فقد اعتادوا بناء شعبيتهم من خلال الفتاوى، ولأن جهة الفتوى الرسمية تتكالب لاستقطاب الناس بنفس الأسلوب، فالمتطرفون سوف يبارزونها بالسلاح نفسه، على الرغم من أن الدولة دفعت فاتورة سياسية وأمنية باهظة لتطهر البلاد من التيارات المتشددة.

7