خيارات الجزائر واندفاعة العقداء

لا تزال اندفاعة العقداء الحاكمين في مالي تثير علامات استفهام على المستوى المحلي والإقليمي، قياسا بالجرأة التي أبرزوها في التعاطي مع أكبر جار لبلادهم، والأمر على ما يبدو ليس مجرد توتر عابر، بل خارطة جديدة تخط معالمها في المنطقة، خاصة في ظل دخول فاعلين آخرين على الخط، مما يحتم على الجزائر توظيف جميع أوراقها وخياراتها، قبل أن تفقد دورها التاريخي المستند إلى حتمية الجغرافيا والامتداد الاجتماعي.
تدفع النخب العسكرية الحاكمة في عواصم الساحل الأفريقي، مدعومة بفاعلين إقليميين ودوليين إلى فك الارتباط مع الأدوار التقليدية للقوى المحلية، وعلى رأسها الجزائر التي وجدت نفسها في ظرف قصير جارا غير مرغوب فيه، يُحشد الشارع الساحلي ضدها بإيعاز من السلطات الجديدة في المنطقة.
وأكد تمسك القيادة العسكرية الحاكمة في مالي، بموقفها تجاه روابطها مع الجزائر، بالتشديد على دفن اتفاق السلم والمصالحة في مالي الذي رعته لنحو عقد من الزمن إلى الأبد، والاستمرار في اتهامها برعاية الإرهاب والتدخل في شؤونها الداخلية، أن العقداء هم القاطرة التي تقود عملية رسم الخارطة الجديدة في المنطقة وعموم القارة السمراء.
لو كان التوتر عابرا، لتم الحديث عن خلافات يمكن احتواؤها بحوار أو وساطة، لكن مؤشرات الأزمة العميقة تجعل منه علامة فارقة تؤرخ لصراع جديد يستعمل فيه كل طرف الوسائل والإمكانيات المتاحة لديه. والجزائر التي تربطها حدود برية تقدر بـ2400 كلم مع أكبر بلدين في المنطقة، مطالبة باستخراج كل أوراقها من أجل تثبيت دورها وحماية مصالحها حتى ولو كانت التكلفة غالية، قبل أن تصبح هدفا مستباحا.
مواطن الخلل في صناعة القرار الجزائري إلى وقت قريب، أفرزت وضع كل البيض في سلال معينة، لذلك صانع القرار مجبر على تعديل إستراتجيته بمراجعة جميع الأوراق مع حلفاء وشركاء لم يراعوا مصالحه
التطورات المتسارعة في محيط البلاد، أبانت عن اختلالات واضحة في استشراف أو حتى صناعة التحولات، فليس من المعقول لبلد بهذا الحجم والثقل أن تغيب عنه موجة الانقلابات العسكرية التي حدثت في دول الجوار، وهي التي كانت في ثمانينات القرن الماضي تتحسس تحرك أي شيء، وكان مدير مكتب وكالة الأنباء الرسمية فيها، على اطلاع بالتغيير الذي قاده الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، ضد سلفه الحبيب بورقيبة، قبل وقوعه عام 1987، أما الأجهزة والمصالح الأخرى فحدث ولا حرج.
ويبدو أن الجزائر فوجئت بالتغيرات المستجدة في دول الجوار الجنوبي، ولذلك لم يجر الاستعداد اللازم للتداعيات المنتظرة، رغم أن المؤشرات كانت واضحة مسبقا، وعلى رأس تلك المؤشرات نقل الروس لمعركتهم مع الغرب في أوكرانيا إلى القرب منهم في الساحل الصحراوي، وما رافق ذلك من حملة رسمية وشعبية في دول المنطقة ضد الوجود الفرنسي.
الجزائر بجغرافيتها وموقعها قدر وحتمية أزلية في القارة الأفريقية، ولذلك فإن السلطات المتعاقبة على البلاد محكومة بالتماهي مع هذه التداعيات أو تسليم المشعل لغيرها، لأن الأمن والسيادة لا يقبلان الغفلة أو الارتخاء، ولو أن أوراق المناورة لا تزال بيدها حتى وإن كانت المفاجأة قوية.
الوضع في مالي والساحل عموما مرشح للمزيد من التعقيد، بدخول أطراف علنية وأخرى خفية على خط الصراع، فالروس يريدون تصفية حسابهم مع الغرب في المنطقة، ولم تعر روسيا للمصالح الجزائرية أهمية، رغم ما يربطها معها من علاقات أعطت الانطباع بأن الطرفين حليفان ولا يمكن لأحدهما أن يفرط في الآخر، أو يدير له ظهره.
والصين هي الأخرى لا تمانع في أن يحكم العسكر دولة مالي أو المنطقة أو أن تفرض انتخابات تفرز سلطة مدنية، بقدر ما يهمها مصالحها وتوسعها، حتى وإن ارتبطت هي الأخرى بعلاقات مميزة مع الجزائر.
ونفس الشيء بالنسبة للأتراك، فالحركية الاقتصادية والتجارية والتعاون الثنائي الذي يقيمونه مع الجزائر، لم يمنع أنقرة من إبرام صفقات تسليح مع الجيش المالي، وتزويده بأسلحة ومعدات، بما فيها طائرات مسيرة، تستعمل فيما يسميه الماليون “حربا على المتمردين والإرهابيين”، بينما ترى الجزائر فيهم جزءا من المكون المالي الخاضع لبنود اتفاق السلم والمصالحة الوطنية.
العقداء الذين يحكمون في مالي، ومعهم رفاقهم في النيجر وبوركينا فاسو، يحملون رؤية مناوئة للأدوار التقليدية لدول الجوار، وللوجود الغربي في المنطقة، وما كان لهم أن يتصرفوا بكل تلك الاندفاعة وحتى التهور، لولا استقواؤهم بقوى علنية وخفية، تريد خلط الأوراق ورسم خارطة جديدة تتجاوز المصالح والأدوار الطبيعية الجزائرية في عمقها الأفريقي.
يبدو أن الجزائر فوجئت بالتغيرات المستجدة في دول الجوار الجنوبي، ولذلك لم يجر الاستعداد اللازم للتداعيات المنتظرة، رغم أن المؤشرات كانت واضحة مسبقا
مواطن الخلل في صناعة القرار الجزائري إلى وقت قريب، أفرزت وضع كل البيض في سلال معينة، لذلك صانع القرار مجبر على تعديل إستراتجيته بمراجعة جميع الأوراق مع حلفاء وشركاء لم يراعوا مصالحه، وعلى رأسهم الروس والأتراك، ورد الفعل الخفي على من يختار الدعم الخفي للعقداء.
مجموعة بريكس بتشكيلتها الموسعة، والتي بذلت الجزائر كل شيء للانضمام إليها قبل أن تدير لها ظهرها، تندفع الآن إلى منطقة الساحل لكي تكون بديلا يقوم على أنقاض “إيكواس” المفككة بعد انسحاب ثلاثي المنطقة، وهذا تحول يؤشر على توسيع دائرة الصراع وتعقيد الوضع أكثر، حتى ولو كان أبرز المتضررين منه هو الجزائر التي تأمل في الانضمام إلى المجموعة.
ولحسن حظ الجزائر، أن أوراقا مهمة وإستراتيجية لا تزال في يدها، كخيار يتيح لها المناورة، بداية من موقعها الجغرافي البري والجوي الذي يمثل منفذا رئيسيا وملائما لدول المنطقة نحو مختلف الوجهات الشمالية، وهو ما تجلى في الحظر الذي مارسته على الطيران العسكري الفرنسي في وقت مضى، مما أثر حينها على دوره وأدائه في مالي والنيجر، وهو ما يمكن أن تمارسه بشكل أشمل وأوسع على مناوئيها باماكو ونيامي.
وتظل الفصائل الأزوادية ورقة في يد الجزائر، باعتبارها مكونا طبيعيا وشرعيا في مجتمعات الساحل، ولا يمكن الوصول إلى أي استقرار دون حضور هؤلاء، ويمكن أن تتحول مسألة الشرعية الدستورية والديمقراطية والسلط المدنية، إلى خاصرة هشة في جسد العقداء، مهما كانت درجة الدعم والتأييد التي يبذلها لهم الحلفاء.
هذا فضلا عن إمكانية استفادتها من مواقف مجموعة إيكواس الرافضة لتغيرات المنطقة، وانزعاج الأوروبيين والأميركان من تحالف العقداء مع قوى تنازعها النفوذ والمصالح في أفريقيا، وهو ما عبر عنه أنتوني بلينكن، خلال جولته الأخيرة إلى القارة، وبإمكانها إقناعهم بأن الأخطار التي تهددها جراء موقف العقداء، يمكن أن تصل ارتداداتها إليهم في شكل إرهاب وهجرة سرية وجريمة عابرة للحدود، وتهديد للمصالح الإستراتيجية.