اللهم لا حسد

صديقي عبدالله، يعرف أنه من حديثي النعمة أو “النوفو ريش” كما يقول الفرنسيون، لكنه يصر على إغاظتي، ويسخر من “مكابراتي الجوفاء” قائلا: وما فائدة أن تفهم في كل أنواع الشراب، دون أن تمتلك ثمن الشراب؟
دعاني عبدالله، رفيق الدراسة، إلى بلدته الفقيرة النائية وزيارة بستانه في موسم قطف الزيتون.. بستانه الذي عمل على توسيعه عبر شراء الأراضي التي تمتد وتجاوره من أهالي بلدته الفقراء بثمن بخس، وضمها إلى ممتلكاته بعد أن راجت تجارته عند انخراطه في الحكومة منذ سنوات.
وبعد أن طاف بي أرجاء البستان لمعاينة عمليات قطف وعصر الزيتون الذي بدا لي زيته يتقاطر كحبات العرق على جباه أولئك العاملين البؤساء، دعاني في سيارته رباعية الدفع لزيارة المقبرة الغافية في أطراف البلدة ومن ثم قراءة الفاتحة عند قبر أبيه الذي مات فقيرا وعاش فقيرا يسترزق من حماره في خدمات الجر والتحميل.
قال لي عبدالله، وهو يقود سيارته الفخمة مزهوا بإنجازاته: انظر إلى هذه المقبرة بعلو حجارتها وأناقة بوابتها.. أنا الذي وسع من مساحتها وسيّجها بالغراس الأخضر. أعاد ترميم وطلاء قبورها حتى أصبحت “تشهّي الموت” كما يقال.
أطلق عبدالله ضحكة سمجة محاولا تبديد كدري وربما مفاخرا بطقم أسنانه الجديد، وأنا الذي عرفته بأسنان منخورة صفراء منذ سن مبكرة.
ترجلنا عند مدخل المقبرة متجهين نحو قبر أبيه الذي بدا برخامه المرمري وزينته وزخرفته المبالغ فيها كأحد مقامات الأولياء الصالحين المنتشرة في الطريق إلى بلدته النائية.
ترى، هل ستُعلي كل هذه الزخرفة من مقام والد عبدالله عند الله والعباد وهو الحمّال الفقير الذي كان محتقرا في بلدته؟ وهل ستعزز هذه “الوجاهة المصطنعة” من قيمة ابنه عبدالله وتبيّض صورته في نظر من يعرف حقيقته، وكيفية تكوينه لثروته؟
أما منزل عبدالله الريفي الذي تناولنا فيه الغداء، فقد كان عامرا مدججا بشتى عناوين الفخامة والثراء ولا تنقصه إلا أناقة وبساطة الريفي اللتين سرقتهما منه حالة التهافت نحو الكسب السريع والتقليد الساذج لحياة الميسورين من ذوي السطوة والجاه.
أهديت تنكة الزيت التي أهداني إياها عبدالله من مزرعته إلى أحد جيراني، رغم أن الهدية لا تُهدى كما يقال، واكتفيت بالذي اعتصرته من زيتونات تركها لي أبي بعد أن ورثها عن جده.. وأدركت معنى أن يكون الواحد “قديما” كزيتون جده ونقيا كزيت يضيء دون نار أو ظلم أو استغلال.
طبعا، لن أكون سعيدا وأنا أتفرج على عبدالله وهو يمتطي ظهر حماره بدل سيارة الدفع الرباعي. ولن أبتسم لضحكته ذات الأسنان المخلوعة الصفراء، لكن ما ضر عبدالله لو وازن كرمه مع الأموات كرما مع الأحياء، أضاف لزيته بعض الصفاء، لأسنانه بعض البياض البريء، ولثروته بعض الذوق والأناقة.