هل ولدت "روبنسون كروزو" جنسا أدبيا من العدم

إيان واط يحاول تمييز العالم الغربي كحضارة من خلال اكتشاف الرواية.
الجمعة 2024/01/19
إيان واط حاول إثبات أن الرواية اختراع أوروبي

يعيد الكثير من النقاد والباحثين نشأة الرواية إلى أوروبا، ويتسابقون في إثبات استقلال هذا الجنس وولادته مع كتاب أوروبيين في معزل عما سبقه من سرد أدبي، وفي هذا التمشي تتكرس القطيعة مع ما سبق من تقاليد سردية ترسخت على امتداد قرون مضت. ومن هؤلاء إيان واط الذي نسائل نظريته في هذا المقال.

يعد المنظر الإنجليزي إيان واط Ian watt (1917-1999) من أوائل المنظرين الذين حرصوا على التدليل على أصول الرواية وبوجهة نظر كولونيالية تنتصر للعرق الإنجليزي في كتابه “نشوء الرواية” الذي لاقى ولا يزال يلقى صدى كبيرا عند الكثير من دارسي رواية القرن الثامن عشر، وفيه أكد أن “روبنسون كروزو” أول رواية، وأن واضعي أصول هذا الفن ثلاثة كتاب إنجليز هم: دانيال ديفو (1660 – 1731) وصاموئيل ريشاردسون (1689 – 1761) وهنري فلدنغ (1707 – 1754).

والأصول التي أرادها واط مرتكزا للتقاليد هي الواقعية الأدبية وسماها حينا آخر بالواقعية الشكلية، وتنظيره لها بدا أقرب إلى المسببات منه إلى القواعد، من قبيل حديثه عن صعود الطبقة الوسطى والتجديد الفلسفي في القرن السابع عشر وبروز جمهور القراء من النساء.

ولا خلاف في أن وجود المسببات أو الحوافز، لا بد أن يسفر عن نشأة شيء معين، وهذه النشأة تحتاج إلى النمو والتطور والنضج كي تظهر صورة الشيء الناشئ وتتضح معالمه وتثبت من ثم خصائصه. وعند ذاك يمكن الحديث عن رسوخ قواعده.

الرواية والواقعية

كتابة  قابلة للتطور وقادرة على التوليد
كتابة  قابلة للتطور وقادرة على التوليد

لا يمكن للمرء أن يتصور أن كتابة أدبية يمكنها أن تكون مولِّدة لنوع جديد من دون أن تكون للكتابة نفسها محددات معينة وسمات فنية سابقة ومميزة، يمكن أن تكون قابلة للتطور وقادرة على التوليد، بيد أن إيان واط افترض أن الرواية نشأت ومعها تقاليدها دفعة واحدة، وأنها ترسخت بمجرد أن كتب ريشاردسون “باميلا” عام 1741 وبعث بها إلى صديق وقال “على أمل أن تدخل نوعا جديدا من الكتابة”. علما أن ريشاردسون، مثل غيره من كتاب زمانه، لم يسم قصته “رواية” (novel) إذ لم تكن مفردة novel وتعني الجدة أو الشيء الجديد، متداولة حتى نهاية القرن الثامن عشر.

ولأن في القص القديم هذا النضج الذي يمكن معه الكلام عن التطوير الذي به تبطل مزاعم الولادة من فراغ، تغاضى إيان واط عن التطرق إليه، وإذا اضطر إلى ذكره، فإنه يستعمل عبارة مبهمة عامة بلا تحديد جغرافي أو تاريخي وهي “القص السابق” التي بها يدلل على القطيعة ما بين القص القديم والجديد كقوله “لكن الرواية تميزت أيضا عن معظم القص السابق” أو “إنتاج معان تشكل معيارا صادقا لتجارب الأفراد العملية وينطوي هذا الهدف على الكثير من الافتراقات الأخرى عن تقاليد القص السابق” أو “لم يكن التقليد السابق في القص معنيا أصلا بالتوافق بين الكلمات والأشياء”.

وافترض أن الرواية ولّدت الواقعية كميزة محددة بها “تفرق أعمال روائيي القرن التاسع عشر عن القص السابق.. الذي صور الحياة الوضيعة.. وكذلك الحكاية الخرافية أو البيكارسكية.. فديفو وريشاردسون هما أول كاتبين عظيمين في أدبنا لم يستمدا حبكاتهما من الميثولوجيا أو التاريخ أو الأسطورة أو الأدب السابق”.

وتساءل واط “هل الرواية شكل أدبي جديد؟”، وجوابه هو نعم كاختراع أوروبي، تؤكده أعمال الروائيين الإنجليز الثلاثة أعلاه، ومن بعدهم استمرت الرواية تعقد الصلات بين خصائصها الأدبية وخصائص المجتمع الذي انبثقت فيه وازدهر شأنها، من دون أدنى غرابة في أن يكون هؤلاء الكتّاب الثلاثة من جيل واحد وبعبقرية واحدة هي في حالة قطيعة مع ما سبق من مرويات قصصية، بل الأمر برأي واط مجرد مصادفة محضة لأن شروط عصرهم كانت مؤاتية كي يؤسسوا لنوع من الكتابة يقوم على قطيعة مع الرومانسيات. إذ لم يكن مهما عند واط إثبات كيف نشأت الرواية وإنما المهم تأكيد نشأتها التي بها تميزت عن كل الأشكال الأدبية السابقة، وبها ثبتت كفاءة مبتدعيها الذين حددوا لها ملامحها.

ولا شك في أن الملامح ليست هي التقاليد، لأن التقاليد لا تكون إلا بالنظام العام الذي في داخله ملامح وأساليب وتقانات، قد تتنوع بحسب خصوصية كل أديب في توظيف النظام. بيد أن ما عناه واط من التقاليد هي القضايا الموضوعية كقضية الواقع الذي تحاكيه الرواية وقضية توافق الشكل الأدبي معه وقضية تحديد عناصر العمل الروائي ومكوناته كالشخصية والزمان والمكان والهوية الفردية وغيرها.

وإذا كانت اللاواقعية هي المرتكز الذي قامت عليه التقاليد السردية القديمة، فإن ما يبحث عنه واط هو “الواقعية” كمرتكز عليه قامت الأعراف الشكلية للكتابة الروائية. أما كيف يؤصل هذا المرتكز فمن خلال تشابهها مع المعنى الفلسفي للواقعية عند هوبز وجون لوك ورينولد وديكارت في كتابيه “مقالة في المنهج” و”تأملات”، هذا أولا، وثانيا من خلال ربطها بـ”مدرسة الواقعيين الفرنسيين” وقد شهد عام 1835 أول استخدام للمصطلح realism كتوصيف جمالي. ثم تكرس فيما بعد كمصطلح أدبي على وجه الخصوص بتأسيس صحيفة realism سنة 1856 والتي حررها ديورانتي.

 لسوء الحظ سرعان ما فقدت هذه الكلمة كثيرا من جدواها في السجالات الحادة بشأن الشخصيات الوضعية والنزعات الأخلاقية المزعومة لدى فلوبير وأتباعه، وبالنتيجة أصبحت الواقعية تستخدم في المقام الأول نقيض المثالية.

الربط القسري بين الرواية وما كان في القرن الثامن عشر من فلسفة واقعية ودراسات تاريخية لا يفسر نشأتها

وليست محاولة واط هي الأولى في ربط الرواية بالفلسفة، بل سبقتها محاولات تصب في باب تمييز العالم الغربي كحضارة قوية رأسمالية واستعمارية وأن الرواية هي المعبرة عن روح هذا العالم الجديد.

ومن المفاهيم الفلسفية التي استعملها واط في سبيل تأصيل واقعية الشكل الروائي هو “الفردية” وأن بها عبّر الروائي في القرن الثامن عشر (عن انطباع الإخلاص للتجربة الإنسانية من دون الالتفات إلى أي أعراف قبلية فذلك هو ما يعرض نجاحه للخطر).

إن هذا الخطر هو ما جعل واط يبني نشأة الرواية على الفراغ أو على اللاشيء، فكأن الرواية نشأت من تلقاء نفسها فجأة، وفجأة أيضا تمثّل كاتبها النزعة الفردية، وجعل حبكته غير الحبكات التقليدية في الملاحم الكلاسيكية. ورأى واط ذلك كله في ديفو أو ريشاردسون أو هما معا.

واحتج واط للنشأة بأن مفردة “أصيل”، التي تعني الأزلي وغير المشتق، عُرفت أول مرة في عام 1759 بكتاب “تكهنات حول الإنشاء الأصيل” لماكس سكولر، وأنها أطلقت على الرواية لعدم وجود سابق لها متخذة “الواقعية” قاعدة وعليها بنيت أعراف السرد الروائي.

 ونرى هذا الاحتجاج واهيا، لأن الواقعية لم تنشأ لوحدها وإنما هي عبارة عن حلقات من التطوير استندت إلى قاعدة اللاواقعية مع سلسلة من التحولات أسفرت عن الانتقال من النزعة المطلقة أو الجماعية في السرد إلى النزعة الفردية كأمر حتّمه التعبير عن واقعية الحياة المعاصرة.

بتر الذاكرة السردية

وإذ اعتبر واط الواقعية هي المرتكز الذي قامت عليه التقاليد الروائية، فإن تحديده لهذه التقاليد جاء معاكسا لما أراده من تأصيل وتأسيس، لاحتوائه – بشكل غير مقصود – على تحديدات تشي بوجود تحولات فنية كانت قد طرأت على تقاليد السرد القديمة التي ترسخت في القصة العربية وانتقلت منها إلى السرد الأوروبي فساهمت في تطويره، ومن ثم كانت النتيجة ظهور هذا الجنس الجديد.

 وفي ما يأتي تحديدات أرادها واط مؤسسة أو مؤصلة للرواية لكنها كشفت عن غير ذلك. أولا في قوله: إن الرواية “نشأت في العصر الحديث الذي انفصل توجهه الذهني العام بصورة حاسمة عن موروثه الكلاسيكي والقروسطي من خلال رفضه للكليات”، ونرد بأن لا قول بالانفصال والرفض من دون تواصل مستمر بتقاليد سابقة ثم تطويرها لتتناسب مع ما يراد تحقيقه.

 ثانيا قوله “إن اهتمام الرواية بالجزئيات جاء عن تأثر بقول بركلي عام 1713 ‘إن كل موجود محدد’، ونرد بأن النظر إلى تفاصيل الأشياء لا يكون من دون نظر في الكليات التي بها كان القص القديم مرتكنا إلى اللاواقعية وينظر بخيالية مطلقة إلى العالم المادي”. وثالثا إشارته إلى أن تسمية الشخصيات صارت تتم بأسماء علم محددة، فيها اعتراف بوجود تقاليد سابقة تم العمل على تطويرها بما يتلاءم ومتطلبات العصر الحديث.

عمل مؤرخو الرواية ومنظروها على تغييب التحولات فبتروا الذاكرة السردية تاريخيا وإبداعيا مؤكدين القطيعة مع التقاليد السردية

رابعا إن الحبكة وهوية الشخصية والوعي بالوجود واتحاد الزمان والمكان والتركيز على الشخصية هي ميزات بها تفردت الرواية عن السرد القديم فكانت لها تقاليد الشكل الأدبي الجديد. ومثاله رواية “تيار الوعي” التي تهدف إلى تقديم شاهد مباشر على ما يحدث في عقل الفرد تحت تأثير جريان الزمن. وهذا القول مردود بأمرين: الأول ما للزمان في السرد القديم من دور مهم بوصفه عنصرا سرديا، حدده أرسطو بدورة شمس واحدة، والآخر أن توظيف تيار الوعي لم يكن معروفا خلال القرن الثامن عشر، بل عرف بعد أكثر من قرن من نشأة الرواية وتحديدا في ثلاثينات القرن العشرين على خلفية ما جنته الواقعية على الرواية من انغلاق في الخيال بسبب الخضوع القسري للواقع.

خامسا قوله إن ظهور دراسات في التاريخ قام بها نيوتن ولوك في أواخر القرن السابع عشر جعلت ديفو يخلخل الزمان فاهتدى إلى “جنس أدبي خاص به في تاريخ الأدب كما يليق بمبدع شخصية روبنسون كروزو”، ونرد بالقول

إن التقليد قوة اجتماعية وطقس جماعي وهو لا يظهر فجأة على يد كاتب واحد، بل يكون خلاصة تجارب واستقراءات وتحولات وتطورات تنتهي باستقرار التقليد. إجمالا فإن هذا الربط القسري بين الرواية وما كان في القرن الثامن عشر من فلسفة واقعية ودراسات تاريخية، لا يكفي لتفسير نشأة الرواية جنسا جديدا

وُلد من العدم، بل فيه إنكار لأي تقاليد سردية سابقة ونفي لوجود أي تواصل مع القص الذي كان سائدا وكانت له تقاليده التي رسخها طول العمل بها. وكان لظروف العصر الحديث أن طورت بعض تلك التقاليد وتمخضت عن ذلك كله تحولات فنية وموضوعية في السرد القصصي الأوروبي، كانت خلاصتها هذا الجنس الجديد الذي هو الرواية.

ولقد عمل مؤرخو الرواية ومنظروها على تغييب هذه التحولات فبتروا الذاكرة السردية تاريخيا وإبداعيا وعملوا على توكيد القطيعة مع التقاليد السردية السائدة، فلم يقولوا بحقيقة ما جرى من تجريب على كتابة القصة الطويلة. وهو ما وقع فيه إيان واط ففصل في أغلب مناقشاته وتحليلاته بين الشكل والمحتوى وتكلم عن واقعية الشكل الروائي وزيادة جمهور القراء من النساء ونشوء الصحافة والرأسمالية وانتشار البروتستانتية في إنجلترا والتمدن والفردانية. وقد عد ذلك كله بمثابة تقاليد روائية في حين هي في حقيقتها مجرد ملامح وسمات تختص بما كانت عليه الرواية في نشأتها حتى زمن تأليف واط لكتابه “نشوء الرواية”.

12