المسرحي والناقد إبراهيم الحسيني لـ"العرب": النّص المسرحي إبداع ناقص

هناك العديد من الرؤى المغلوطة التي تلاحق الفنّ المسرحي، منها تلك الادعاءات بأنه في أزمة كبرى، دون الأخذ بعين الاعتبار ما يقدّم فيه من أعمال جديدة ومجددة وما يواجهه المسرحيون من تحديات في هذا الفنّ. في هذا الصدد كان لـ"العرب" هذا الحوار مع المسرحي والناقد المصري إبراهيم الحسيني حول تجربته وأفكاره وآرائه حول قضايا المسرح الراهنة.
تحفل تجربة المسرحي والناقد إبراهيم الحسيني الإبداعية بتنوع ثري، إذ يجمع ما بين مسرح الكبار والأطفال وكتابة مجموعة من الأفلام القصيرة وأغاني المسرحيات والدراسة النقدية. وقدّم الحسيني أكثر من 500 مقال ودراسة عن المسرح، وذلك طوال ما يزيد عن 25 عاما، وأبدع 40 عملا مسرحيا للكبار، وثلاثة للأطفال معظمها تم نشرها وتنفيذها على خشبات المسارح المصرية والعربية والأجنبية، وشارك في إدارة ورش عمل مسرحية وحكم في العديد من المهرجانات العربية والمسرحية. لذا كانت تجربته متنوعة المشارب وهو ما نتعرف عليه في حوارنا معه.
بداية يعترف الحسيني في حديثه لـ”العرب” أنه لم يخطط ليكون كاتبا، ويقول “كان الخيال والتأمل هما الفضيلتان اللتان دفعتاني لممارسة الحرية في فعل أي شيء أريده، الألعاب البدائية وخاصة الفردية منها من مثل تشكيل الحيوانات بالطين ثم حرقها لتصير فخارا، أو الرسم، أو محاولات القراءة لمجلات الأطفال وخاصة مجلة “سمير” التي كنت أنتظرها بشغف كبير، كانت تفتح أمامي عالما من البراءة والمعرفة، وكثيرا ما تخيّلت أنني أعيش بين أبطالها في عالمهم وأنني أنتمي إليهم أكثر مما أنتمي لعالمي، ثم تحوّل الأمر تدريجيا لقراءات أخرى، فقرأت كل ما وقعت عيني عليه”.
ويضيف “في قريتنا الصغيرة ‘نبتيت’ بمحافظة الشرقية، والتي تبعد عن القاهرة حوالي 70 كيلومترا، كانت الكتب نادرة جدا والأنشطة الثقافية منعدمة، في حين أن الأنشطة الاجتماعية والدينية تعمل بقوة، الموالد وليالي المديح وحكايات العجائز في الليالي الشتوية والتي كانت بديلا رائعا وموحيا ومثيرا للخيال، لعلّ ذلك الخيال الذي اكتسبته من الحواديت الشعبية الشفاهية التي كانت متناقلة في قريتنا عن مقامات الأولياء ومردة الليل وتاريخ بعض العائلات، كانت تشبه تلك الحواديت التي تتوالد من بعضها كما في ألف ليلة وليلة”.
الكتابة والمهرجانات
ويتابع “كل ذلك فتح أمامي نوافذ معرفية دفعتني أكثر للنهل منها بالقراءة، وكنت مولعا في هذه الفترة بأشعار نزار قباني وروايات وقصص إحسان عبدالقدوس، ومع اليوم الأول بالجامعة بدأت القناعات تتغير والرؤى تصبح أكثر اتساعا ووضوحا فتغيرت طبيعة القراءات لأشكال أخرى من الأدب، وفيها تعرفت على المسرح والسينما بشكل أكثر التصاقا عن ذي قبل.
يقول الحسيني لـ"العرب" "أول ما كتبت كتبت الشعر وبالفصحى، وعندما فازت إحدى قصائدي على مستوى جامعة الزقازيق، وكنت وقتها بنهاية منتصف العام الأول لي بكلية التربية قسم الرياضيات، وحازت القصيدة المركز الأول، كانت المكافأة شهادة استثمار بمبلغ 60 جنيها ورحلة لقضاء أسبوع بالقاهرة ضمن أسبوع شباب الجامعات، وهناك تحت قبة جامعة القاهرة رأيت المسرح بعيون أخرى، كانت حماسة صنّاعه ومتفرجيه كافية لجذبي لهذا العالم الذي لم أخرج منه حتى الآن”.
ويضيف “تقدمت بعد الجامعة لأكاديمية الفنون وأنهيت دراستي بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 98، وكتبت أول مسرحياتي ‘لغواية’ وأنا في الصف الثالث بالمعهد وحازت جائزة محمد تيمور للإبداع العربي ونشرت بالهيئة العامة للكتاب بمقدمة للراحل محسن مصيلحي، وكلمة غلاف أخير للراحل رفيق الصبان، ثم بدأت الرحلة لتصل الآن لكتاب ‘مختارات مسرحية’ وهو رقم 27 في مسيرتي الإبداعية والذي صدر أخيرا عن المجلس الأعلى للثقافة. والآن أكتب للمسرح وأكتب المقال والدراسة النقدية وأكتب الشعر، لكن مشروعي الأهم هو الكتابة للمسرح”.
ويقول الحسيني “لا أكتب إلا عندما تستفزّني إشكالية أو تلحّ علي قضية ما وتفرض نفسها، حينذاك أبدأ بتأمل كل شيء من جديد وكأنني أراه لأول مرة، أتأمل مجريات الواقع، شكل الكتابة، ماهو الجديد الذي سيمكنني قوله عبر معالجة هذه القضية، هل أكرر نفسي، هل أعيد كتابات لآخرين. أسئلة كثيرة أبدأ في حلّها واحدا بعد الآخر، ثم تبدأ رحلة بحث مجهدة حول الكتابات التي تناولت هذا الموضوع قبلا والأخبار والتحقيقات الصحفية وصولا لاكتمال الصورة في ذهني”.
ويواصل “عندما أجد لدي ما أقوله على المستوى الفني والفكري أبدأ في الكتابة. والمتأمل لمجموعة مسرحياتي التي تجاوزت 70 مسرحية يلحظ عدم تكرار الشكل أو المضمون بقدر الإمكان، لكنه من الممكن أن يلحظ سيطرة بعض القضايا عليّ ومنها: العدالة الاجتماعية، تحرير الذات الفردية من مكبلاتها، الحرية، التسامح، الاحتجاج، مقاومة استغلال العقيدة أيا كانت للوصول لأهداف سياسية. وأحيانا أخرى لا يهمني معالجة قضية معينة بقدر ما يهمني البحث عن تفسير لتحولات الإنسان في علاقته المستمرة بالواقع والحياة إجمالا، وفي كل الأحوال لا يمكن لأي كتابة إبداعية حقيقية الانفصال عن واقعها الذي أنتجها حتّى لو ادعت غير ذلك”.
ويؤكد أن للمهرجانات المسرحية العربية تأثير حقيقي على المشهد المسرحي العربي تختلف درجته من بلد لآخر ومن فرقة مسرحية لأخرى، ومن مسرحي لآخر، فالإمارات تقوم بدور مؤثر عبر مهرجاناتها وأنشطة الهيئة العربية للمسرح، التجريبي والشبابي في مصر، قرطاج في تونس، وكذك مهرجانات بغداد، الكويت، الجزائر والمغرب، فالمسرح يتناقل سريعا كالعدوى ويطبع سياساته على صنّاعه سريعا والأفكار الجديدة لها قدرة على السفر سريعا وبثّ تأثيرها، يمكننا فقط داخل هذه المهرجانات فتح النوافذ أكثر كي تصل المعرفة للجميع منعا لاحتكار البعض للفائدة ومنعها عن مستحقين آخرين.
ويشير الحسيني إلى أنه ليس ضد أي شكل مسرحي، سواء كان مسرحة للرواية أو حتّى لديوان شعر أو لوحة تشكيلية، فالمسرح هو الفنّ الوحيد القادر على احتواء كل الفنون فوق خشبته بعكس بعض الفنون الأخرى، ما يهم وجود نص مسرحي درامي وليس نص مسرحي أدبي غير قابل للتنفيذ على خشبات المسارح، والرواية وغيرها من كافة الحقول المعرفية والإبداعية الأخرى مفيدة جدا للمسرح ودافعة له على التطوير، والكاتب المسرحي الذي يكتفي في قراءاته بالمسرح ينقصه الكثير.
◙ للمهرجانات المسرحية العربية تأثير حقيقي على المشهد المسرحي العربي تختلف درجته من بلد إلى آخر ومن فرقة إلى أخرى
ويضيف “إجمالا، أرى أن النّص المسرحي هو إبداع ناقص لا يكتمل إلا بصعوده على خشبة المسرح. وأعمل الآن على كتابة مسرحية جديدة وضعت لها عنوانا أوليا هو ‘مدن لا تسكنها الملائكة’ أحاول أن أصهر داخلها أكثر من فن كتابي، كالسرد والوصف وتقنيات الفوتومونتاج السينمائية وبعض تحليلات علم النفس التي تخص المتلازمات النفسية، وفي نفس الوقت يتم الآن تجهيز عرض مسرحي جديد من كتابتي وأشعاري هو عرض ‘حكايات الشتاء’ من إنتاج مسرحي ومن إخراج محمد عشري، وهو عن حالة إنسانية شديدة الخصوصية رغم انتشارها الواسع في الواقع الذي نعيشه”.
يرى الحسيني أن موضوع أزمة المسرح أصبح ظاهرة تلوكها الألسنة والندوات منذ خمسين عاما، ورغم أنه يعتقد بوجود تلك الأزمة إلا أنه يراها ذات طبيعة مختلفة، فعن أي أزمة نتحدث؟ عن النّص المسرحي أم العرض أم الإنتاج. ويتابع “بداية لدينا أزمة في الجودة الفنية في كل مفردات العرض إلا القليل، وأزمة أخرى في المقابل المادي لصنّاع المسرح، وأزمة رابعة تخص الإدارة في كل جهة إنتاجية، فمثلا لدينا في مقابل كل فنان مسرح ما يزيد عن عشرة موظفين قد لا يكون فنّ المسرح نفسه من اهتماماتهم بل ويكرهونه، لذا فصانع المسرح يستهلك ثلثي جهده في التخليصات الإدارية ولا يبقى للفنّ إلا من رحمه ربي، وفي اعتقادي أن الاهتمام بالكيف وبالمقابل المادي وبتنشيط الحركة النقدية سيزيد من وهج المسرح المصري والعربي”.
ويضيف “لا يعقل أن يتقاضى ناقد مسرحي نظير مقال نقدي يكتبه 200 جنيه مصري، فهذا سيجعله يهرب لكتابات أخرى لها مقابل مادي يعينه على متاعب الحياة، أو يتقاضي مؤلف نص مسرحي مبلغا زهيدا مقابل شراء نصه لمدة خمس سنوات، يجب العمل من المسؤولين على جهات الإنتاج على حلّ هذه الأسئلة وسيزدهر المسرح من تلقاء نفسه، زيادة الأجور، جذب جمهور غير متخصص بالتسويق الجيّد، تسهيل الإجراءات الروتينية، عمل جداول ومواسم معروفة ومخطط لها بدقة والبحث طوال الوقت عن صنّاع المسرح المتميزين”.
الأزمة والتلقي
وحول تأثير ما أطلق عليه مسرح مصر وتياترو وغيرها على المسرح المصري، يلفت إلى أنه لا توجد تأثيرات قوية أو يمكننا ذكرها لدى صنّاع المسرح المصري الحقيقيين لأن لديهم ثقافتهم ووعيهم الذي يحميهم من تقليد تجارب مسرح مصر وما على شاكلته، فهم برغم كل ذلك مازالوا على عهدهم في تقديم المسرح الجيّد.
لكن التأثير الحقيقي في رأيه وقع على الجمهور العادي الذي لم يذهب يوما للمسرح وكل معارفه عنه من خلال التليفزيون، لذا فقد عودته هذه العروض الخفيفة على نمط استهلاكي في مشاهداته المسرحية وبالتالي سيصاب بصدمة إذا ما ذهب إلى المسرح العادي ورأى عروضه الجادة وربما لن يتقبلها، هذا بالرغم من أن هناك عروضا مسرحية من إنتاج قطاع المسرح بوزارة الثقافة تجمع ما بين الجدية وما بين الترفيه، فالجدية لا تتناقض مع الكوميديا، لكنها كوميدية راقية تخاطب عقل ووجدان المتفرج ولا تكتفي بدغدغة حواسه.
ويقول الحسيني إن "معظم التجارب المسرحية في مصر والوطن العربي منفصلة عن سياقاتها السياسية والاجتماعية الحقيقية، الكثير من القضايا الشائكة مسكوت عنها، ربما كان هذا السكوت مقصودا وهذا ما لا أعتقده وربما كان تجنبا لثورة اجتماعية رافضة من المتفرجين أو من جهات الإنتاج، والبعض القليل من التجارب المسرحية تضرب في صميم مشكلات المجتمع المصري، والجمهور في اعتقادي الشخصي يجب أن نستحثه للذهاب إلى المسرح واقتلاعه من على أريكته المنزلية أمام مواد المنصات والقنوات الإعلامية المختلفة كي يذهب إلى المسرح ليعرف ماذا يقال عنه وعن مشاكله”.
يتابع “إذا يجب أن يعرف المتفرج أن المسرح فنّ حي وموجود كي يرى فيه همومه الذاتية والعامة، وأيضا لكي يعرف أكثر في العموم، وكي يتنوّر ويخرج من العرض المسرحي ممتلئا بالمعرفة والخيال ومحبة الحياة، يخرج إنسانا مختلفا تغير فيه شيء وتبدلت قناعة وتحرر جزءا من ذاته، ذلك هو المسرح الذي أحبه”. ويشدد على أنه لا يوجد دعم مادي بالقدر الكافي للمسرح، وبالتالي فكرة الاستثمار في المسرح لم تعد موجودة كما كان الأمر في الثمانينيات والتسعينيات، ففي تلك الفترة كان مسرح القطاع الخاص مزدهرا في مصر، وفي توقيت واحد كانت هناك عدة فرق مسرحية خاصة تعمل وتقدم عروضها داخل موسم واحد.
ويذكر فرق مثل فرق سمير غانم، الفنانين المتحدين، محمد صبحي، محمد نجم، سهير البابلي.. أما الآن فلم يعد هذا الزخم موجودا، وبالنسبة إليه معظم مسرحياته التي كتبها تم تنفيذها وإنتاجها على خشبات المسارح العامة من مثل فرق البيت الفني للمسرح، وفرق مسارح الأقاليم والجامعات، وبالتالي الفرق المستقلة للهواة وهؤلاء ليس لديهم أي موارد إنتاجية لذا فهم يجمعون من مصروفهم الشحصي بعض الجنيهات القليلة كي يقدموا عرضا مسرحيا، ويدفعون مرة أخرى للمسارح كي يقوموا بحجز ليلة أو إثنين حتّى يستطيعوا تقديم عروضهم، إذ لا يوجد كيان مسرحي جامع لهذه الفرق يرعى مصالحهم وشؤون الإنتاج لديهم.
وحول رؤيته لتجربته وسط جيله من الكتاب يقول “أنا أسوأ شخص يمكنه الحكم على إبداعه لأنني إن فعلت أجد ما أكتبه سيئا، فمازلت رغم كل هذا العدد من الكتب والجوائز المصرية والعربية وترجمة بعض مسرحياتي وعرضها في مسارح برودواي بنيويورك بالولايات المتحدة، أرى نفسي مازلت على السلمة الأولى للإبداع والكتابة، أبذل جهدا كبيرا مع كل تجربة وكأنّها تجربتي الأولى، أكتب وأعود لمسودات الكتابة عدة مرّات وفي كلّ مرّة أرى تقصيرا ما، لذا لا أحب قراءة مسرحياتي بعد نشرها حتى لا ألوم نفسي على التقصير، طوال الوقت أبحث عن نص مكتمل يحقق طموحي لكنني لا أجده وما زلت أبحث، ولذلك أعتقد أن فكرة الاكتمال في الإبداع غير واردة، في الإبداع بكل أشكاله، الإبداع فعل ناقص لا يكتمل إلا في ذهن القارئ أو المتفرج. لكل ذلك لا أهتم بتقييم نفسي وسط جيلي لأن لكل واحد منا إسهام يعتز به”.
ويختم الحسيني “في اللحظة التي أتحاور معك فيها الآن هناك سبعة نصوص مسرحية لي يتمّ العمل عليها إخراجيا في جهات إنتاجية مختلفة، وتجربتي الأحدث والأهم هذا العام تمثلت في عرض إحدى مسرحياتي ‘باب عشق’ والتي حازت قبل عامين على جائزة ساويرس، كان بمبادرة من المخرج عادل حسان مدير المسرح لإنتاج النص في مسرحه، فهو من طلب وأنتج العمل بالفعل ومازال عرضه مستمرا بنجاح على هيئة مواسم حتى الآن. إجمالا، كل ما يشغلني فعليا هو البحث عن فكرة جديدة تصلح للمعالجة الأدبية وشكل فنّي جديد نصبّ داخله هذه الفكرة، ففعل الكتابة الإبداعية علاج فعّال للكاتب من كل همومه النفسية والاجتماعية، بالكتابة أعيد التوازن المفتقد إلى نفسي، وبعد الانتهاء من عمل ما أعود لدائرة مرعبة من القلق والملل حتّى إذا ما بدأت في عمل جديد فإنني أستمر لعدة شهور، وطوال فترة الكتابة وأنا في أفضل حالاتي التي تجعلني قابل للتعامل مع الحياة بكل إرباكاتها”.