لعن الله من أيقظ الحزن

ماذا سينفع طفل يتيم ومشرد في خيمة أو عار تحت سماء رفح وطولكرم، من أغنية أو قصيدة تدعي الالتزام بالقضايا العادلة؟
الثلاثاء 2024/01/09
المتاجرة بآلام الإنسان

“السعادة هي الألم في حالة استراحة وإغفاءة قصيرة.. أرجوكم لا توقظوه” هذه العبارة كانت لأشهر مغني فرنسا والعالم ليو فيري 1916 ـ 1993، والذي غالبا ما تسيل دموعه رقراقة شفافة على وجهه القمحي ذي الملامح الطيبة القاسية عند كل أغنية حزينة.

يبكي الجمهور مع هذا الفنان الذي غنى للثورة الجزائرية وناصر كل أصوات الحرية في العالم، ومشى في جنازته المشهورون والمغمورون لأنه غنى لعذابات الإنسان في كل بقاع الأرض كأروع ما يكون مفهوم الالتزام.

لست أدري لماذا تذكرت ليو فيري، وبادرت لسماع صوته وكأنه مازال يحيا بيننا.. آه تذكرت.. “الالتزام”.

يعيد بعضهم هذه الأيام، إحياء كلمة “التزام” ويحاول عبثا، النفخ فيها تفاعلا مع الأحداث، وظنا منه أن هذا المفهوم يغيب ويحضر متى تستدعيه الوقائع والمستجدات ثم إنه يتعلق بقضايا وشعوب دون غيرها.

الحقيقة أن الإنسان لا يلتزم لون عينيه ولا ملامحه وأنفاسه بل يقولها طيلة مسيرته المبنية على مكافحة النسيان والصراع مع الوجع الذي ما ينفك يستيقظ بعد كل إغفاءة أو قيلولة قصيرة من هذا العمر القائظ القانط.

ولأن ليو فيري، تفطن إلى أن السعادة بمثابة السرقات الصغيرة من حقل كرم يحرسه ناطور في حالة نوم، فإنه بكى وحدته ووحشة مصيره فكان الالتزام الذي يعرفه المفكر الوجودي التونسي محمود المسعدي، بأنه “مأساة أو لا يكون”.

الآن، يتهافت بعضهم على مفهوم الالتزام كسوق للربح والشهرة باسم المسايرة، وكذلك المتاجرة بآلام الإنسان.

ماذا سينفع طفل يتيم ومشرد في خيمة أو عار تحت سماء رفح وطولكرم، من أغنية أو قصيدة تدعي الالتزام بالقضايا العادلة؟

المشكلة لا تكمن هنا بل بهذا الكم الهائل من التسطيح والاستغباء وادعاء الالتزام والولاء للقضايا العادلة.

الطفل الفلسطيني ليس في حاجة إلى ملصق تافه أو أغنية يؤديها مغن أجش الصوت بكلمات ركيكة وألحان ساذجة.. فاقعد في بيتك أيها “الفنان الملتزم” وكفى المؤمنين شر القتال.

ماذا يعني أن أرسم علامة النصر بألوان العلم الفلسطيني أو ألحن فقرة من رأس مال ماركس، وأدعو ذلك التزاما؟

القضية أعمق من هذا بكثير يا أعزائي الثورجيون والملتزمون الجدد، وتتجاوز حتى الهويات والعقائد والأوطان بل تتعلق بغربة الإنسان في مواجهة أسئلة وجودية حارقة يمتد لهيبها ليلامس الأصابع التي تكتب وتعزف وترسم، والحناجر التي تغني والأقدام التي ترقص وتحاول ملامسة الأرض فلا تقدر كما في رقصة الهندي الأحمر.

“ما أصعب وأمر أن تكون إنسانا” كما يقول كاليغولا.. هذا الإنسان الذي “يعذب الإنسان لمجرد أنه يحبه” كما يقول دوستويفسكي.

لنغني للفرح فالحزن نائم ولعن الله من أيقظه.

18