مصر تسلم مهمة وقف الانفجار السكاني لخطباء المساجد

الحكومة المصرية تحمّل الزيادة السكانية مسؤولية ضعف مردودات التنمية وهي تسعى جاهدة لضبط الانفجار السكاني عبر تنظيم الإنجاب والحد منه. وارتبطت كثرة الإنجاب في مصر بمعتقدات دينية تريد القاهرة ترشيدها عبر الاستعانة بالأئمة والفقهاء.
القاهرة - أدركت الحكومة المصرية أخيرا أن أي خطط من شأنها العمل على خفض معدلات الإنجاب في البلاد من دون الاعتماد على الخطاب الديني لن تنجح، ما يفسر الاتفاق الذي جرى بين وزارتي الصحة والأوقاف على توظيف أئمة المساجد في التصدي لاستسهال الإنجاب، حيث يكون الخطاب الدعوى أساس المواجهة.
وتعي الحكومة جيدا أن المساجد ما زالت من أهم الساحات التي يمكن من خلالها التأثير على أفكار المواطنين وتوجهاتهم الحياتية، وربما خططهم المستقبلية، وهي من أدوات تشكيل الرأي العام في المناطق الريفية والشعبية لارتباط الناس بالتعاليم الدينية التي يتم نشرها في المساجد، لكن المشكلة في إدارتها وتوظيفها لتعزيز الوعي.
واتفق وزيرا الصحة والأوقاف على وجود دور مضاعف للأئمة والدعاة في المساجد للتوعية بالمشكلات الصحية التي تضر بالأسرة والدولة بسبب الحمل غير المنظم، والإنجاب المتكرر بلا وعي، وانعكاسه على التنمية ومعدلات الفقر والجريمة، وحتمية إقناع الأبوين بأن كثرة الإنجاب لا علاقة لها بالدين، والإسلام لم يحث على ذلك.
وشمل الاتفاق بين الوزارتين تخصيص خطب من أيام الجمعة للتوعية بمخاطر الزيادة السكانية وسلبيات كثرة المواليد، وتشكيل فرق عمل مشتركة من الدعاة والوعاظ والأطباء لإلقاء محاضرات للمواطنين بدور العبادة في محفافظات مختلفة، وأماكن التجمعات والمدارس والجامعات المتعددة، لزيادة الوعي بأساليب الصحة الإنجابية ودحض الشائعات وكيفية التعامل مع المخاوف التي يتم تداولها بلا أساس ديني.
مغامرة مجهولة
تخشى دوائر رسمية من أن يكون إقحام المساجد والوعاظ والخطباء في جدل مرتبط بالحكومة، مثل قضية الزيادة السكانية وما يثار حولها من انقسام محتدم، مغامرة غير محسوبة العواقب، تجلب نتائج سلبية، لأن الشارع نفسه يرفض بشكل مطلق تكرار تصرفات إخوانية بتوظيف الدين لأغراض سياسية، وترهيب الناس باسم الدين بذريعة الحفاظ على الاستقرار والتنمية.
وهناك تحفظ من أنصار النظام على دخول المساجد في قضية عليها خلافات دينية مجتمعية مثل تحجيم الإنجاب وتنظيم النسل، لأن التمادي في الاعتماد على الخطب الدينية لتمرير رؤية السلطة، ولو كانت على صواب، يمنح المتطرفين فرصة القفز على خطاب الحكومة وتفسيره بصورة خاطئة، ويُظهرها عاجزة عن إيجاد حلول واقعية لتلك القضية، فلجأت إلى استغلال الدين.
ومع أن المساجد جزء من كيان الدولة وإحدى مؤسساتها التنويرية، لكن خطابها يجب أن يكون مستقلا وبعيدا عن الرؤى الضيقة لبعض الأئمة والخطباء، فبعضهم يفتقد الحد الأدنى من الإمكانيات الشخصية التي تؤهلهم لتقديم خطاب تنويري مرتبط بالإنجاب والزيادة السكانية، وقد يقدمونه كخطبة رسمية للحكومة.
ويصل عدد سكان مصر إلى نحو 106 ملايين نسمة، ويستحوذ ملف الزيادة السكانية على جزء كبير من اهتمام السلطة، لكن لا تزال حلول ضبط النمو السكاني غائبة عن الحكومة أمام تمرد غالبية الأسر على كل توجه يجري إقراره كجزء من الحل، ويبدو غير واقعي أحيانا أو يتم تقديمه للشارع بطريقة تحمل ترهيبا، حتى أصبحت المساجد آخر الحلول المرتبطة بالوعي والإقناع.
وتكتفي المؤسسات الرسمية بالدعوة إلى تنظيم الأسرة دون إقناع الأهالي بأن المعتقد الديني حول كثرة الإنجاب ارتبط بأحاديث وتفسيرات تزامنت مع أحوال وأوضاع المسلمين قديما، ولم تعد تصلح لهذا العصر، لأن الظروف تغيرت ومن شأن استمرار هذا الوضع أن يؤدي إلى تفكيك الأسر ويعم الفقر، وهو ما يرفضه الإسلام.
وأخذت الحكومة تقتنع بأن الخطاب الاجتماعي بلا تأثير أمام هيمنة الخطاب الديني على خطط وحياة الناس في قضية الإنجاب وتداعياتها الاقتصادية، وهي معضلة تم تداركها مؤخرا بعد أن ظلت الحكومة تتعامل معها باستخفاف فترة طويلة، وترى أن الأزمة مرتبطة بغياب فهم المشكلة، مع أن الخطاب الدعوي من صميم الأزمة.
ويتفق مراقبون للأزمة السكانية في مصر على صعوبة مخاطبة الشارع الذي يتحرك بلغة الفتوى بخطاب حكومي خشن، لأن بعض المتشددين مؤيدون لكثرة الإنجاب، وبينهم من يتباهى بذلك ولديهم من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية التي توحي بذلك لكن لا يتم تفسيرها بشكل صحيح، والحل أن يتم التركيز على خطاب يعيد تشكيل الوعي.
وكشفت منظمة الصحة العالمية أن عزوف شريحة كبيرة من السكان في مصر عن استخدام وسائل منع الحمل واتّباع برامج تنظيم الأسرة والاقتناع بالحد من الإنجاب وفق الإمكانيات الاقتصادية، يرجع إلى أسباب دينية في المرتبة الأولى، ثم ثقافية وفكرية، وإذا عولجت المشكلة الدينية فإن باقي الأمور سهلة مواجهتها.
السلفيون والإخوان
يعد التحرك المتسارع من المؤسسات الدينية والصحية محاولة أخيرة لتغيير الفكر السائد لدى المجتمع حول شرعية تنظيم الأسرة، لكن هناك سدا قد يمنع إقناع المتدينين بالفطرة بخفض الإنجاب، وهؤلاء يسترشدون بآراء سلفيين صاروا من أهم المفتين لرواد المساجد، ويروجون لكثرة الإنجاب بنظرة مقدسة مدعومة بآيات قرآنية أشهرها “المال والبنون زينة الحياة الدنيا”، وحديث النبي محمد (ص) “تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”.
وقال عادل بركات الباحث المتخصص في العلاقات الاجتماعية والتنمية البشرية إن ضبط الخطاب الديني المرتبط بتنظيم الإنجاب يتطلب إحكام السيطرة على أئمة وشيوخ ورجال الفقه الذين يتحرّكون في اتجاه مخالف للمؤسسات الرسمية، وهؤلاء اعتادوا الفتوى بأن تدخل الأهل في تحديد الإنجاب حرام شرعا.
وأضاف لـ”العرب” أن هناك شريحة كبيرة داخل المجتمع المصري لا تعترف بأيّ رأي تقدمه المؤسسة الدينية حول قضية النسل، لأنهم يعانون من مشكلة مرتبطة بالوعي، ويكفي أن الحكومة اعترفت مؤخرا بوجود 17 مليون أمي في البلاد، هؤلاء هدف سهل للتيارات التي تحارب الدولة بالفتوى مستغلة تغييب العقل، وبالتالي مهم وجود دور للمساجد بخطاب بسيط يصل إلى من لا يجيدون القراءة والكتابة.
وأشارعادل بركات إلى ثلاث فئات لا يقتنعون بالخطاب الديني الرسمي، الأميون والسلفيون والإخوان، وهذه أزمة تجعل مهمة الحكومة بالغة الصعوبة في تغيير قناعات المجتمع بسبب خرافات متجذرة في أذهان الناس، إضافة إلى أن تأخر الخطوة أوقع البعض فريسة لعدم القدرة على الفرز بين الصواب والخطأ، والتجاوب بشكل أعمى مع ربط زيادة المواليد بالعقيدة.
دوائر مصرية تخشى من أن يكون إقحام المساجد والوعاظ والخطباء في جدل مرتبط بالحكومة مغامرة غير محسوبة العواقب تجلب نتائج سلبية
وإذا كانت الحكومة المصرية مقتنعة بأن الخطاب الديني الذي يستهدف تغيير قناعات الأهالي حول مفاهيم الإنجاب، أقصر طرق خفض الزيادة السكانية، فالمعضلة الأكبر ترتبط بهوية من يقدم خطابا يؤثر في المجتمع، هل المؤسسات التي تراجعت مصداقيتها، أم الشيوخ الذين يلتقون الناس ويستخدمون القرآن والحديث في الإقناع؟
وهناك تحد مرتبط بأن الأغلبية المقتنعة بزيادة المواليد يحصلون على المعلومات من رجال دين يصدرون صورة سلبية عن المؤسسة الدينية الرسمية ويقنعون الرأي العام بأنها تتحدث وتفتي بلسان السلطة، وأن خطباء المساجد لهم توجهات سياسية، يحللون ويحرّمون وفق خطط حكومية لا علاقة لها بصميم أصول الدين، في محاولة لإنهاك الأئمة والخطباء معنويا.
وإذا لجأت وزارة الأوقاف إلى تخصيص برنامج دعوي للأئمة والوعاظ حول مخاطر الزيادة السكانية وشرعية تحديد وتنظيم النسل لتغيير المعتقدات الخاطئة حول الإنجاب، من المؤكد أنها سوف تواجه تحديا يتعلق بأن الأغلبية تتعامل مع رجل الدين التابع للحكومة باعتباره موجها ليؤدي غرضا بعينه، ولو بالطعن في التراث الإسلامي.
وأصبحت المؤسسة الدينية في مصر مدفوعة سياسيا بإباحة تحديد النسل، ما يثير شكوكا في نواياها، فبعض رجالها في الماضي حرّموا هذا التصرف، ونفوا علاقة الإسلام بتنظيم أو تحديد عدد الأبناء ثم عدّلوا مواقفهم، ما جعل الأغلبية تركن إلى رأي الشيوخ المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي المختلفة، وعلى رأسها السلفيون.
وسبق وأعلن المجلس القومي للسكان بمصر أن من بين أكبر التحديات التي تواجه الحكومة في مسألة خفض المواليد أن الدعاة العشوائيين أقنعوا الناس بأن الإسلام يشجع على كثرة الإنجاب، وتغيير الفكرة مهمة صعبة عندما تصل معدلات الأمية بين النساء في مصر إلى نحو 31 في المئة، وفي بعض المحافظات تقترب من الضعف.
فتاوى خاصة للإنجاب
ثمة مشكلة أيضا ترتبط بأن أغلب رجال الدين الذين يلجأ إليهم الناس للحصول على فتوى خاصة بالإنجاب، لا يدعمون توجهات الحكومة، وهذا خطر يواجه الخطة التي يتم التحرك من خلالها في وقت تسعى فيه السلطة لتفكيك الأفكار المتحجرة عند المجتمع بشأن حتمية تنظيم النسل، للحفاظ على الحد الأدنى من معدلات التنمية.
وما يصعب مهمة الحكومة في التعويل على المساجد لتغيير أفكار وقناعات الناس أن الشيوخ المناهضين لخفض الإنجاب يحللون ويحرمون بالقرآن والحديث، والمؤسسة الرسمية تحلل أيضا بالقرآن والحديث، ما يجعل كسب المعركة بالنسبة للحكومة ليس سهلا، لأن بعض من يقدمون الخطاب الدعوي لا يتمتعون بمصداقية كافية.
ويُصّعب هذا التحدي من مهمة الحكومة في انتزاع مشروعية لخطة خفض المواليد ليكون لدى كل أسرة طفلان فقط، لأن استمرار زيادة الإنجاب تحت غطاء ديني يدحض أي خطوة من شأنها تغيير الثقافة المرتبطة بالنسل، فقد أصبح لكل فصيل مجتمعي ميراثه الفكري الذي يبني عليه مبرراته حول كثرة الأبناء.
وتضاف إلى ذلك مشكلة تتعلق بالحكومة في تعاملها مع تنظيم النسل، لأنها تعتبرها قضية اجتماعية دينية وليست اقتصادية، ما يضعف خطابها نسبيا، ويصبح غير مقنع لكثيرين، وهو ما تستثمره تيارات مناوئة تقوم بتحريض الناس على التمادي في إنجاب الأبناء ليكونوا قوة اقتصادية لعائلاتهم من خلال إلحاقهم بسوق العمل.
ويترتب على ذلك اتساع دائرة التحديات، مثل ارتفاع معدلات التسرب من التعليم، ورفض الكثير من الأهالي تعليم البنات، وقد تزداد نسب الزواج المبكر أو زواج القاصرات، وهذه أزمة نتجت عن خطاب متطرف نجح في إقناع البسطاء بأن تزويج الفتاة في سن مبكرة يضمن سترتها، وهو تحد لمواجهة أزمة تبكير الإنجاب.
وقالت آمنة نصير أستاذة العقيدة بجامعة الأزهر إن نسف المعتقد الديني الخاطئ حول كثرة الأبناء يحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد اختزاله في خطبة جمعة أو ترديد روايات دينية من أعلى منبر مسجد، فمن المهم وجود تفسير عصري لآيات وأحاديث أشارت إلى النسل، وهذا يعني أن جزءا أصيلا من عملية مواجهة كثرة الإنجاب يتعلق بتجديد الخطاب الديني ونصوصه القديمة.
وأوضحت لـ”العرب” أن التحدي الحقيقي حاليا في تغيير معتقد البعض حول الإنجاب دون إقناعهم بأن هناك أحاديث ارتبطت بظروف زيادة المسلمين، وهذه الظروف تغيرت واللجوء إليها يؤسس لمجتمع غير قويم تنتظره مشاكل لا يرضى عنها الدين، والنبي محمد (ص) عندما قال تناسلوا لأباهي بكم الأمم يوم القيامة، كان التباهي مرتبطا بأناس متعلمين ومثقفين وأقوياء بصحة جيدة، وليس بزيادة الفقر والحرمان، وهو ما يجب شرحه للناس بأسلوب بسيط وبلا تخويف أو تحريم مطلق.
ولن يحل الرهان على الخطاب الديني وحده الأزمة، ومطلوب من الحكومة إذا أرادت الحفاظ على معدلات التنمية أمام كثرة الإنجاب، تغيير خطة التنمية لتتناسب مع ظروف الشريحة التي تقدس المواليد بالتركيز على تشييد مشروعات بقرى ومناطق تنتشر فيها ثقافة الولادات لتكون لدى سكانها قوة اقتصادية تغنيهم عن زيادة الأبناء.