هل ينسى التونسيون أن لديهم برلمانا

يجب أن نعترف بأن أي حراك برلماني خارج المشاغل الاجتماعية لا يعني شيئا بالنسبة إلى المواطن العادي وعلى هذا الأساس يمكن تفسير حالة البرود التي تميز علاقة التونسيين بنوابهم في البرلمان.
السبت 2024/01/06
نواب لا يحفظ ناخبوهم أسماءهم

ما الذي يجعل بعض التونسيين يصفون برلمانهم بأنه اسم دون مسمى، ويعرضون عن متابعة نشاطاته وكأنها غير ذات جدوى وعديمة الفاعلية؟

ما الذي حول في ذهنية المواطن التونسي ساحة باردو التي عرفت أشهر الصولات والجولات من الاعتصامات والاحتجاجات، إلى مجرد محطة تمر من قربها وسائل النقل المكتظة بركّاب مزدحمين ومتجهمين، ولا شيء يدور في رؤوسهم سوى الهموم اليومية؟

أين من هذا المبنى التاريخي العريق والأنيق، تلك المحادثات والنقاشات والمعارك الساخنة التي ذكرت التونسيين بتونسيتهم بعد 14 يناير 2011؟

هل أصبح البرلمان التونسي يشبه المبنى الذي يجاوره، والمتمثل في المتحف الوطني الذي لا يتحمس التونسيون لزيارته رغم اعتزازهم بتاريخهم أم أن في الأمر أكثر من سبب لأن تصبح هذه المؤسسة الدستورية العريقة مجرد لافتة وعنوان “مقر شغل” لنواب لا يحفظ حتى ناخبوهم أسماءهم..؟ ولماذا صوتوا لهم دون ضجة وأصوات؟

◙ على الرغم من كل المآخذ حول النشاط البرلماني التونسي، فإنه من غير المنطقي أن يغفل المتابع عن عزمه على طرق مواضيع حساسة في الفترة الأخيرة مثل عملية تنقيح قانون الصرف في تونس

الحقيقة أن ما حدث في 25 يوليو 2021، حين أقدم الرئيس قيس سعيد على حل البرلمان ومن ثم الحكومة، استجابة لموجة غضب شعبي عارم ضد حركة النهضة وشركائها في الحكم، جعل التونسيين يرتاحون، لكنهم لم يعودوا يهتمون للأمر فيما بعد.

غريب أمر الناس ـ يقول قائل ـ كيف يتحمسون ويتظاهرون ويزمجرون ويتوعدون من كان سببا في أتعابهم ثم يديرون ظهورهم للأمر فلا يتابعون مستجداته وكأنه لا يعنيهم.

ليس ذلك لأن “ثقتهم زائدة ومطلقة” في الحكومات التي سوف تأتي بعد 25 يوليو 2021 وتتكفل بالأمر بل لأنهم فقدوها أصلا، في الحياة الحزبية والبرلمانية، ولم يعودوا يبالون إلا بلقمة العيش أمام ضغوطات تتزايد يوما بعد يوم.

خف وخبا بريق السياسيين والبرلمانيين والناشطين الحقوقيين حين وقف المواطن البسيط عند أكاذيب وزيف الكثير منهم، وتغير الخطاب الإعلامي الرسمي والخاص ليطرق مواضيع أخرى غير تلك التي كانت تشغل البلاتوهات التلفزيونية والمواقع الاجتماعية.

جاءت انتخابات برلمانية “مسحوبة الدسم” وخالية من البهرج الدعائي والاحتفالي.. والمال السياسي أيضا، وتراجعت البروباغندا إلى مستوى الصفر لأسباب عديدة غذتها قرارات رئاسية أعقبتها تراجعات ومراجعات حزبية.

وها هي اليوم الانتخابات المحلية التي جرت في 24 ديسمبر الماضي، تشهد ذروة عزوف التونسيين عن التصويت، مما جعل السنة الماضية تعرف نوعا من الشلل العام على مستوى النشاطات الحزبية التي اقتصرت على بيانات وتصريحات إعلامية في مناسبات وطنية من هنا وهناك.

هذا المشهد ذو الأضواء الخافتة يؤثر في الأداء البرلماني الذي انشغل بدوره، بقضايا ومسائل لا تهم جميع التونسيين ولا تتصدر مشاغلهم الحياتية، إذ حضرت الشعارات والمزايدات المتعلقة بالسياسة الخارجية، وغابت القضايا الداخلية الساخنة والملحة.

ومما لا شك فيه أن هذا العزوف الانتخابي العام جاء نتيجة الإحباطات التي أصابت التونسيين خلال العشرية التي أعقبت 2011، لكنها سوف تؤثر على الانتخابات الرئاسية القادمة، وتهدد بحالة من اللامبالاة والإحساس باللاجدوى لدى المواطن الذي أصبح يميل إلى الحلول الفردية بعد فقدانه الثقة في النخب السياسية.

◙ ما حدث في 25 يوليو 2021، حين أقدم الرئيس قيس سعيد على حل البرلمان ومن ثم الحكومة، جعل التونسيين يرتاحون، لكنهم لم يعودوا يهتمون للأمر فيما بعد

يجب أن نعترف بأن أي حراك برلماني خارج المشاغل الاجتماعية لا يعني شيئا بالنسبة إلى المواطن العادي، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير حالة البرود التي تميز علاقة التونسيين بنوابهم في البرلمان. هذا بالإضافة إلى رجحان كفة الرئيس قيس سعيد، في الحياة العامة باعتباره صاحب الحسم والفاعلية والمبادرة دائما.. فلماذا يتابع المواطن نشاط البرلمان في الوقت الذي تأتي فيه الحلول من هرم الدولة باختصار ووضوح.

وعلى الرغم من كل هذه المآخذ حول النشاط البرلماني التونسي، وتقصير أعضائه بسبب انشغالهم بقضايا هامشية تفتقر إلى روح المبادرة والمسؤولية، فإنه من غير المنطقي أن يغفل المتابع عن عزمه على طرق مواضيع حساسة في الفترة الأخيرة مثل عملية تنقيح قانون الصرف في تونس، إذ يراهن البعض على دور قد يمارسه البرلمان لتحريك العملية، خاصة مع صدور تصريحات من نواب تعترف بضرورة الإسراع في سن قوانين تحرك الركود الاقتصادي الذي تواجهه البلاد منذ سنوات.

المشكلة أن المواطن العادي لا يهتم إلا للمبادرات والقرارات المباشرة ذات العلاقة بعيشه اليومي، ولا يعير انتباها إلى قضايا إستراتيجية تخصه في المنظور البعيد، كما أن الإعلام يتحمل مسؤولياته إزاء هذا التقصير المتمثل في تسليط الأضواء وتناول النقاشات البرلمانية بالمزيد من الشرح والتحليل.

المشكلة أن المواطن البسيط هو بطبعه عجول وملول، إذ لا يعطي الفرصة لنفس برلماني شاب وجديد بعد أن سئم ومل تلك العواصف التي شهدها البرلمان خلال الفترة التي سبقت حله، لكن ليس إلى درجة أن ينسى التونسيون أن لديهم برلمانا فاعلا ومسموع الصوت بعد أن اكتسب الكثير من النضج.

9