أوبرا دمشق تعرض مسيرة أشهر فرقة موسيقية في تشيلي

لا تطفئ سنوات الغياب الحضور الحضاري القوي لو كان يمتلك عناصر قوة. مدينة ماتشو بيتشو، يسميها شعب البيرو المدينة المفقودة، غابت مئات السنين في أعالي جبال الأنديز، ثم عادت بقوة لتحكي عن حضارة الهنود الحمر في أميركا اللاتينية ومدى الإبداع الذي يعرفونه، ليتبنى ذلك الصوت شاعر كبير وفرقة غنائية شهيرة تجاوز عمرها الستين عاما.
في اختراق لفوارق الزمن وجدران الأمكنة، وبعيدا عن أميركا اللاتينية آلاف الأميال، تقام فعالية فنية في دمشق تجمع أطياف عدد من الفنون. فتحضر حضارة الإنكا في جبال الأنديز من البيرو وشعر بابلو نيرودا وفرقة لوس هايفاس من تشيلي.
وضمن فعاليات دار الأسد للثقافة والفنون (أوبرا دمشق) لشهر ديسمبر الجاري قدمت سفارة تشيلي فيلما حمل عنوان “مرتفعات ماتشو بيتشو” بمناسبة مرور ستين عاما على تأسيس أشهر فرقة غنائية في تشيلي وأميركا اللاتينية، قدم له سفير تشيلي بدمشق خوسيه باتريسيو بريكل الذي قال في مستهل العرض "بين سوريا وتشيلي شبه كبير، من حيث امتلاكهما لعدد وافر من المواقع الأثرية القديمة التي تؤكد أن ثمة حضارات عريقة قد عاشت بها. وليس الهدف من هذه الفعالية الاحتفال بمدينة أثرية أو قصيدة شاعر أو فرقة غنائية فحسب، بل إيجاد نوع من التفاعل بين حضارة سوريا القديمة وأميركا اللاتينية".
تابع السفير في حديثه عن فرقة لوس هايفاس فقال “من يعرف موسيقى وغناء بينك فلويد وأسلوبه في الغناء سيعرف أهمية هذه الفرقة. يقوم عملها على تقديم التراث الموسيقي بروح عصرية، فقدمت آلات تقليدية مع آلات عصرية حديثة وتجمع موسيقى محلية قديمة مثل الهوروبو الفنزويلي والكويكا مع الإيقاعات الموسيقية الحديثة مثل الروك".
الفرقة تأسست عام 1963 في تشيلي، لتقدم الغناء الشعبي في أميركا اللاتينية إضافة إلى الغناء المتعلق بالمحبة والبيئة والناس البسطاء. وهي جزء من تراث قارة أميركا اللاتينية رغم التغيرات التي طرأت عليها بسبب وفاة عدد من أعضائها الذين صار أبناؤهم أعضاء بدلا عنهم فيها.
موسيقى من الأعالي
الفيلم الذي قدم عن الفرقة صور عام 1981 في مدينة ماتشو بيتشو في أعالي جبال الأنديز. وقدم له الأديب الذي حاز على جائزة نوبل للآداب لاحقا ماريو فارغاس يوسا من البيرو.
تناول الفيلم عبر زمنه الذي تجاوز النصف ساعة، موضوع المدينة والشعر والغناء ضمن جدلية فنية، كان البطل فيها الفرقة الغنائية لوس هايفاس وكيفية تقديمها خياراتها الغنائية والموسيقية التي قاربت العديد من الأشكال الموسيقية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهي تعزف مقاطع شعرية من قصيدة الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا التي وضعها بعد زيارته لها.
وظهر الفنانون الخمسة وهم يعزفون على آلات الأورغ والإيقاع والغيتار الكهربائي، وقدموا معادلات غنائية وموسيقية لما قدمه نيرودا في مقاطعه الغنائية عن ماتشو بيتشو. ونعيد من خلال مسيرة الفرقة اكتشاف بابلو نيرودا (1904 – 1973)، وهو صديق الأديب الإسباني غارسيا لوركا ومعارض الرئيس التشيلي الأسبق بينوشيه وصاحب جائزة نوبل للآداب عام 1971 جمع بين السياسة والأدب والفكر، وهو الشاعر الذي قال عنه غابرييل غارسيا ماركيز إنه أعظم شاعر في القرن العشرين بكل لغات العالم.
في خمسينات القرن العشرين زار الشاعر البيرو في أعالي جبالها، ودخل مدينة قديمة عريقة مهجورة، باقية من حضارة الإنكا الشهيرة، تسمى ميتشو بيتشو. تقع على ارتفاع ما يقارب الألفين وثلاثمئة متر فوق سطح البحر، وتختبئ في جبال عالية كثيفة الأشجار، كانت مدينة للتواصل مع الآلهة لشعب الإنكا، فيها تقدم القرابين من أجمل الحسان للآلهة الشمس.
ومن حرص شعب الهنود الحمر على قداسة مدينته هجرها وتكتم عليها لكي لا يعلم بها المستعمر الأوروبي، فبقيت المئات من السنين خفية عن الأعين مختبئة بين أدغال الجبال العالية، حتى اكتشفها صدفة رحالة أميركي عام 1912. وعادت إلى الأضواء كمدينة أثرية شامخة ببيوتها الصخرية المتراصفة وأزقتها المنظمة البديعة. ماتشو بيتشو مدينة استعصت على الباحثين معرفة سر بنائها في هذا المكان، كما خفي عليهم معرفة زمن بنائها، وكيف تمكن بناؤوها من التعامل مع الصخور الضخمة.
وقد صنفت منظمة اليونيسكو ماتشو بيتشو مدينة أثرية في عام 1983 وصارت مقصدا للسياح والباحثين عن أسرار الحضارات القديمة ويزورها سنويا الملايين من الأشخاص وتعد إحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة وتعني قمة الجبل القديم.
في طريق صعب ووعر صعد بابلو نيردوا إلى أقاصي تلك الجبال في البيرو قاصدا تلك المدينة العجيبة. حتى وصلها بعد فترة أيام من المسير المتتالي، وقضى فيها وقتا طويلا، وكانت المدينة التي تركت في ذهنه الكثير من الخيالات والانطباعات. وفيها كتب أثرا أدبيا خاصا حمل اسم ماتشو بيتشو.
الشعر والغناء
فصاحب آثار "إسبانيا في القلب" و"عشرين قصيدة حب وأغنية يائسة" و"أحجار السماء" وغيرها، لم يشأ أن يترك المكان دون أن يكتب فيه من ذاته وشعره وهو شاعر أميركا اللاتينية الأهم. وضع نيرودا فيها قصيدة ملحمية مكونة من اثني عشر مقطعا تمازجت فيها رغبته الجامحة في وصف تفاصيل المدينة الحجرية القاسية وكذلك روحانيتها ومقدار القداسة التي يحملها لها شعب الهنود الحمر. شاعت القصائد بين الناس في بلاد أميركا اللاتينية وصارت معروفة في كل العالم، وترجمت مرات إلى اللغة العربية.
كتب نيرودا في قصيدته: "حِصنٌ ضائعٌ، سيف معميٌّ./ حزامٌ كوني، خبزٌ مقدس./ سلمٌ جارفٌ، جَفن هائل./ رداءٌ ثلاثيّ، غبارُ الصخر./ مصباحُ الصوَّان، خبزُ الحجر./ حيَّة معدنية، وردة البحر..". وكتب في مغناة أخرى: "ريحٌ لريحٍ، هواءٌ في شِباك،/ همتُ في الدروبِ والجوّ، أصلُ لأودّع،/ حملَ الخريفُ/ نقوده المتناثرة/ من أوراق الشّجر، وبين الربيعِ وسنابل القمحِ اليانع،/ تنتظرنا عطايا الحُبِّ العظيم".
الفرقة جزء من تراث قارة أميركا اللاتينية رغم التغيرات التي طرأت عليها بسبب وفاة عدد من أعضائها الذين صار أبناؤهم أعضاء بدلا عنهم فيها
وفي مغناة ثالثة كتب: "أيُّها البحر الشاسع، أيها الموتُ/ أنت لا تأتي موجات، بل تعدو كالفجر الصادق،/ أو كأعداد الليل المطلقة،/ لا تتسللْ كالنشال، لا تأتِ من دون لباسك الأحمر". في عام 1963 اجتمع خمسة موسيقيين من تشيلي ليقدموا شكلا غنائيا جديدا يزاوج بين الموسيقى المحلية التراثية والروك، وتصبح الفرقة خلال فترة قصيرة إحدى أهم الفرق الغنائية في أميركا اللاتينية.
وفي إطار بحثها عن تقديم الجديد والمميز من تراث المنطقة والعالم، تلقفت قصيدة نيرودا في مدينة ماتشو بيتشو لتقوم بتأليف مقاطع موسيقية خاصة بها، وتقوم بتصويرها في المدينة الأثرية ذاتها من خلال إنتاجات جامعة أهلية في البيرو وبعض الجهات الإعلامية في تشيلي.
كانت النتيجة فيلما سينمائيا فريدا، قدمت فيه قيم فنية عالية، مدينة أثرية هي ماتشو بيتشو وشعر أكبر شعراء أميركا اللاتينية وأشهر فرقة غنائية في المنطقة. وبعد مرور العشرات من السنين على تأليف هذه المقطوعات الغنائية والموسيقية عن مدينة ماتشو بيتشو التي تجاوز عمرها المئات من السنين ما زالت هذه الحضارة راسخة بقوة في ضمير شعوب أميركا اللاتينية وقادرة على تحقيق تفاعل حضاري لها مع شعوب العالم.