تونس - موسكو: علاقة تغضب الغرب أم تجعله يعيد حساباته

زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إلى تونس يوم الأربعاء الماضي، وبحثه مع نظيره التونسي نبيل عمار سبل تعزيز التعاون بين البلدين، لا تعد مجرد محطة توقف عادية لرئيس الدبلوماسية الروسية أثناء عودته من مراكش المغربية بعد المشاركة في منتدى التعاون العربي – الروسي، بل تتويج واضح لتوجه تونسي صريح في البحث عن شركاء دوليين أكثر نفعا وديناميكية ومصداقية من الحليف الغربي على إثر سلسلة من خيبات الأمل التي شهدتها تونس في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي.
كل المستجدات والتطورات على الساحة المحلية والإقليمية والدولية تجعل من هذا التقارب التونسي – الروسي عاديا ومتوقعا، لا بل ضروريا أكثر من أيّ وقت مضى، لكن جل ما يخشاه مراقبون غربيون أن يكون حاسما ومفصليا بالنسبة إلى بلد كانت تعتبره أوروبا في أحضانها، ولا يمكن أن يتمرد على سياستها الدولية لصالح قوة ضاربة ومعارضة مثل روسيا.
هذا الأمر كانت قد حذرت منه الحكومة الإيطالية شركاءها الأوروبيين ملمّحة إلى أن “تونس سوف تضرب عرض الحائط بصداقتنا غير المجدية إن لم نقدم لها يد العون في أحلك أزماتها”.. وبالفعل، فإن هذا ما يحصل على ما يبدو، ولسان حال تونس يقول لهم ما قاله الشاعر العربي في لغة لوم وتقريع “أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا..”.
◙ العلاقات التونسية – الروسية جيدة وتتطور لصالح البلدين، لكن لا ينبغي أن تضحّي تونس بتاريخ من الشراكة مع غرب منحها مكاسب وامتيازات كثيرة رغم ضعف وارداتها الطبيعية
وإذا كانت السياسة التونسية تدرك منذ تسعينات القرن الماضي، وما رافقها من تطورات وتقلبات دولية، أن من غير المجدي أن تضع كل بيضها في السلة الغربية، فإن روسيا بدورها تبحث عن موقع قدم في أفريقيا المحتاجة إلى قمحها ووقودها بشمالها ووسطها وساحلها وجنوبها، وقد وجدته بالتأكيد، نجحت ورسّخت حضورها فيه، خصوصا مع حربها في أوكرانيا وما نتج عنها من حصار لها وعقوبات لا يمكن أن تزول آثارها إلا بانفتاحها نحو أسواق جديدة.
المكاسب التي سوف تحققها موسكو في تونس من خلال هذا التقارب غير المسبوق لا تتمثل فقط في المبادلات التجارية وصادراتها إلى تونس من حبوب وأسمدة ونفط خام وغاز طبيعي، وغير ذلك، بالإضافة إلى تعزيز حضورها الإستراتيجي مع حليفها المتمثل في الجارة الغربية لتونس، وإنما كذلك في المجالين التربوي والثقافي، إذ يركز المركز الثقافي الروسي بتونس أنشطته على تلقين اللغة الروسية وتوسيع انتشارها في المجال التربوي، الأمر الذي تخشاه فرنسا ويهدد وجودها الثقافي التقليدي في أهم البلدان الفرانكوفونية بالمنطقة.
وبالمقابل، فإن تونس التي لا تخفي غالبية من شعبها تعاطفها ومناصرتها لروسيا في مواجهة الغرب، تستفيد من أكثر من نصف مليون سائح روسي سنويا على الرغم من الكساد العالمي، بالإضافة إلى صادراتها لروسيا من الغلال والخضراوات والمواد المصنعة والمنتجات الزراعية المتنوعة الأخرى.
أما من الجانب السياسي فإن موسكو تعتبر الرئيس التونسي قيس سعيد شريكا مثاليا، خاصة مع مواقفه الحادة في ظل توتر علاقاته مع الغرب الذي ما ينفك ينتقد سياسته مع الأحزاب المعارضة ويزعم تخوفه من “انفراده بالحكم وانحراف المسار الديمقراطي “.. وهو نفس النقد الموجه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
جهات تونسية عديدة حذرت من فقدان البوصلة في السياسة الخارجية التونسية، والانسياق نحو الشعبوية، خصوصا مع أحداث غزة وما رافقها من تصريحات وشعارات تصب الزيت على النار في ما يخص علاقة تونس بالغرب المتحيز للاحتلال الإسرائيلي.
◙ كل المستجدات والتطورات على الساحة المحلية والإقليمية والدولية تجعل من هذا التقارب التونسي – الروسي عاديا ومتوقعا، لا بل ضروريا أكثر من أيّ وقت مضى
الحقيقة الواضحة هي أن موسكو تتسلل إلى تونس من شقوق التوتر مع أوروبا والولايات المتحدة، وهذا منطقي ومتوقع في السياسات الدولية والسعي نحو الاستقطاب، لكن من حق تونس أن تنوّع شراكاتها دون أن تدير ظهرها إلى حلفائها التقليديين بعد عقود من الصداقات والمصالح والسياسات التي رسمها الزعيم الوطني وباني دولة الاستقلال الحبيب بورقيبة، والذي أدرك بحدسه السياسي منذ وقت مبكر أن العلاقة مع الغرب تكون أنفع لتونس من غيرها، شرط تغليب المصلحة الوطنية وعدم التماهي والذوبان.
وليس أدل على هذا من وقوف بورقيبة إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية رغم أن بلاده كانت محتلة من طرف فرنسا آنذاك، وكذلك حضور تونس القوي في حركة عدم الانحياز، وغير ذلك من المواقف التي جعلت من هذا البلد الصغير كبيرا.
حصيلة القول إن العلاقات التونسية – الروسية جيدة وتتطور لصالح البلدين، لكن لا ينبغي أن تضحّي تونس بتاريخ من الشراكة مع غرب منحها مكاسب وامتيازات كثيرة رغم ضعف وارداتها الطبيعية.
كل ما في الأمر أن موسكو تسعى إلى تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية عبر الدخول في شراكات بهدف كسر عزلتها الدولية وإيجاد منافذ لأزمتها الاقتصادية الناجمة عن العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها ضد أوكرانيا، كما أن تونس “غاضبة” من الجحود والتقصير الغربيين، وواعية لضرورة التنوع في العلاقات لأنها حرة.. وكلمة “حرة” يوضع تحتها أكثر من سطر في قاموس السياسة والاقتصاد.