كنان أدناوي مسيرة عازف سوري يطرق باب العالمية

يكسر المبدعون دائما حدود الجغرافيا والجنسيات ليقدموا فنا إنسانيا خالصا يحاكي تطلعاتهم وآمالهم لما فيه خير البشرية. والموسيقى التي تسمى لغة العالم هي أقدر فن على تحقيق هذه الغاية، وما يقدمه الفنان السوري كنان أدناوي عازف العود الشهير يتسق مع ما يرومه هؤلاء. وفي أحدث ظهور له في أوبرا دمشق حقق أدناوي خطوات جديدة في مشروعه الموسيقي الذي يحلق به نحو العالمية.
دمشق - يقدم العازف السوري كنان أدناوي مشروعه الموسيقي في المشهد الفني العربي بشكل يزداد ثباتا ووضوحا يوما بعد آخر. أدناوي عازف بارع على آلة العود، يصر على تقديم مشروع موسيقي أوسع من كونه عازفا بارعا على آلة العود، بل يتعلق بشكل الظهور الموسيقي الآلي عموما وإمكانية خلق حالة من الحوار الثقافي العربي - العالمي من خلال الموسيقى.
في حفله الذي نظم في دار الأسد للثقافة والفنون "أوبرا دمشق" مساء يوم الرابع عشر من ديسمبر الجاري قدم برنامجا موسيقيا كشف بوضوح تميز خطوات مشروعه الموسيقي عن أعماله السابقة وشكل الحفل تحقيق خطوات متقدمة في هذا المشروع.
قسم الحفل إلى قسمين، في الأول منهما ظهرت الموسيقى الآلية البحتة التي ألفها أدناوي لآلات موسيقية مختلفة شرقية وغربية. فعزف رباعي القانون تيما نصر ورغد عمران وجيدا مبيض ومكرم بوحمدان موسيقى أظهرت إمكانيات آلة القانون والآفاق الموسيقية التي يمكن أن تحققها.
ثم قدم الرباعي الوتري رشيد هلال وراما البرشة وغطفان أدناوي وجواد حريتاني معزوفات قدمت أجواء موسيقية اتسمت بالجدة والاتزان. وكذلك فريق تريو ليلى صالح وسيمون مريش وشفيق ياغي الذي قدم معزوفة نادرة الوجود قدمها أدناوي في خطوة جريئة منه، كما قدم عزفا منفردا على آلة الفلوت للعازفة آنا إبراهيميان، وشارك عازف الناي كمي مرشد وعازف البيانو أغيد منصور والإيقاع محمد شحادة في تقديم عزفهم الموسيقي الذي أثرى الحفل بالكثير من الجمال.
العود في الصدارة
في هذا القسم، قدم أدناوي المؤلف والموزع الموسيقي، خطوات غير مسبوقة في المشهد الموسيقي السوري من حيث التشكيل الآلي. فظهور رباعي القانون أمر يحدث لأول مرة، كذلك تشكيل الكونتر باص وآلتي الإيقاع معا. في المقطوعات ظهر شغف أدناوي بكسر حاجز التقليدية في الشكل وإظهار الجديد فيها، كما قدم فيها بنيوية جديدة في تركيب الجملة الموسيقية التي لا تشابه المخزون العربي أو الشرقي لذائقة المستمع، بل تذهب به أكثر نحو المزاج الموسيقي الغربي الذي يعرفه أدناوي جيدا بحكم دراسته للموسيقى في الولايات المتحدة.
في القسم الثاني من الحفل حضر أدناوي وآلة العود معا، واقترب المزاج العام نحو الموسيقى العربية والشرقية عموما. وفي هذا القسم جال أدناوي في العديد من المعزوفات التي كان بعضها جديدا كما قدم بعض المعزوفات التي يعرفها الجمهور، بدأ بمقطوعة "دانس" التي جهزت مزاج الجمهور لمتابعة الحفل مع أجواء آلة العود. كما قدم عددا من المقطوعات منها "بحر" التي وضعها عام 2004 وكانت مخصصة لمهرجان الجاز في سوريا، وقدمها في العديد من حفلاته سابقا.
ويقدم الموسيقار في "بحر" نموذجا للموسيقى التصويرية التي تقوم على إيجاد معان موسيقية ونوتات من وحي الفكرة. في المقطوعة يتناوب عزف أدناوي مع الفرقة في تقديم موسيقى هادئة حينا وصاخبة حينا آخر، سريعة حينا وبطيئة أحيانا، ليصور من خلال ذلك الأمزجة المتعددة التي يكون عليها البحر وبالتالي الأمزجة المختلفة التي يمكن أن يولدها موسيقيا.
في المقطوعة مساحات صعبة العزف وتحتاج درجة عالية من التركيز بين العازف المنفرد والفرقة، وهذا ما كان الحال عليه بين الفرقة وأدناوي، فمقطع العاصفة كان عزف أدناوي فيه في أعلى سرعاته وصخبه، بينما هيئت الفرقة خلفه مزيجا هادرا من الموسيقى السريعة والإيقاعية التي قدمها البيانو والإيقاع، الأمر الذي انتفض الجمهور له فلم ينتظر انتهاء المقطوعة ليباغت الفرقة والعازف بعاصفة من التصفيق الحار وسط صيحات الثناء.
قدم أدناوي بعد ذلك مقطوعة موسيقية مكررة في العديد من حفلاته السابقة في سوريا وخارجها وهي “جو”، مؤلفة خصيصا لآلة الناي، وتحمل معاني وجدانية عميقة تقترب من الحالة الصوفية. عزفها برفقة كمي مرشد بشكل تجلت فيه الأجواء التي أراد الوصول إليها. كما قدم في عزف منفرد بمشاركة عازف الإيقاع محمد شحادة تقاسيم شرقية شبيهة بالتقاسيم الموسيقية التقليدية العربية، ومنها عزف أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب الشهيرة "كل ده كان ليه" بشكل مختلف وبعيد نسبيا عن الأصل الغنائي.
وشكلت هذه الفقرة من الحفل عودة لأسلوب أدناوي التقليدي، فهو يقدم في حفلاته مقطوعات معروفة من المخزون الموسيقي العربي في قوالب موسيقية متنوعة كالسماعي واللونغا والبشرف أو الأغاني الشعبية. لكنه في الحفل الحالي، كسر هذه القاعدة وقدم موسيقى غربية الملامح ولم يعزف أيّ شكل عربي، وكانت الوحيدة التي قاربت البرنامج المعتاد الذي كثيرا ما قدمه.
مشروع عالمي
يمتلك كنان أدناوي مشروعا موسيقيا يقدم فيه خلاصة ما تعلمه في سوريا والولايات المتحدة. فقد درس الموسيقى في سوريا على يدي شقيقه الأكبر، ثم في المعهد العالي للموسيقى بدمشق، بعدها سافر إلى الولايات المتحدة وتعلم أساليب العزف العالمية الجديدة القائمة على تقنيات حديثة تعتمد السرعة وولوج آفاق جديدة متخيلة، وتملك من خلال ذلك فهما مختلفا لما يمكن أن يقدم من موسيقي شرقية عربية تمتلك أدوات علمية غربية في التعبير عنها.
يرى أدناوي في ذلك أن "آلة العود التي تعتبر الآلة الأساسية في الموسيقى العربية تمتلك من الإمكانات ما تستطيع به تقديم حوار موسيقي بلغة موسيقية عالمية، خاصة مع وجود عدد من العازفين العرب الذين امتلكوا ناصية العزف بشكل احترافي".
◙ آلة العود التي تعتبر الآلة الأساسية في الموسيقى العربية تمتلك من الإمكانات ما تستطيع به تقديم حوار موسيقي بلغة موسيقية عالمية
والعلاقة الإبداعية بين أدناوي والعود متكاملة، وهي تشكل بالنسبة إليه المنطلق الذي يقدم من خلاله مفهومه عن بيئته وثقافته. ويرى الموسيقار السوري أن الجمهور العربي متعلق بهذه الآلة كونها متجذرة في تراثه، حيث يقول إن “آلة العود قديمة في تراثنا فهي وجدت منذ 2500 عام قبل الميلاد وانطلقت إلى العديد من الجهات في العالم، وعرف الناس ما يمكن أن تحمله من روح وفن، فكانت ملازمة للفنانين والحكماء وكان لها ارتباط وثيق بالفلاسفة، الذين وجدوا تماهيا بينها وبين بعض أفكارهم. كما حضرت في الطقوس الدينية القديمة، وفي عصور متأخرة ارتبطت بحالة الغناء وصارت ملازمة له. وغدت الآلة الأساسية في الغناء العربي. وعبر مسيرتها الطويلة تطورت وأخذت مسارات عديدة في ذلك. وكان لها في الأندلس مكانة هامة خاصة على يدي زرياب الذي أضاف لها وترا خامسا".
ويوضح "في عصرنا الحالي اهتم بآلة العود العديد من العازفين لما لمسوه فيها من إمكانات كبرى، بعيدا عن الحالة التقليدية التي تشتهر بها وهي مرافقة المغني. وأنه يمكن أن تكون قائدة في الموسيقى الآلية. وهذا ما حقق لها عند الجمهور العربي مزيدا من الحضور القوي".
ويتابع عن أجواء حفله "حاولت في الحفل تقديم مزاج موسيقي مختلف يذهب إلى الموسيقى الغربية أكثر، في مقاربة بين الموسيقى العربية والغربية. كنا نهدف إلى تقديم الكثير من المقطوعات الموسيقية التي تمكّن من ظهور المشروع بشكل أقوى، لكن الزمن المخصص للحفل لم يمكّنا من ذلك واكتفينا بما تم تقديمه على أمل أن نقدم ذلك لاحقا".