التفكير المؤامراتي آفة مدمرة في حاجة إلى استئصال

روب براذرتون: عقولنا متشككة بالفطرة وجميعنا أصحاب نظريات مؤامرة.
الجمعة 2023/12/15
كلنا مهووسون بنظرية المؤامرة (لوحة: سروان باران)

يبحث الكاتب الأميركي روب براذرتون في نظرية المؤامرة. وفي حين أنه يشدد على مدى انتشارها وخطورتها أحيانا على الملايين من الأشخاص، يؤكد أنه لا يمكننا العيش دون تحيز أدمغتنا البسيطة فهي تحفزنا على العمل وتحثنا على المضي قدما في الحياة، لكنه يحثنا على مراجعة هذا السلوك الفطري واحتوائه وتوجيهه.

تملأ نظريات المؤامرة الشرق والغرب على حد السواء، يقال إنها تمتد لتصل إلى الهواء الذي نتنفسه، والطعام الذي نأكله، والدواء الذي نتناوله، والماء الذي نشربه، فالانتخابات مُزورة، والسياسة زائفة، والرؤساء فاسدون، هذه فقط بضعة أمثلة لنظريات المؤامرة التي تسيطر على عقولِ مواطنين كبار مثلما تؤثر على جيل الألفية الثالثة بشكل كبير. لكن من هم المنظرون؟

وفقا للكليشيهات فإن أصحاب نظريات المؤامرة هم سُلالة نادرة؛ مجموعة صغيرة من أصحاب الأفكار المتطرفة المجنونة الذين ينغلقون على أنفسهم ويكرسون حياتهم لأفكارهم الشاذة، هم رجال أذكياء غريبو الأطوار في منتصف العمر، يسلكون نهجا غير مألوف في البحث.

ويرى عالم النفس والأكاديمي والكاتب الأميركي روب براذرتون في كتابه “عقول متشككة: لماذا نصدق نظريات المؤامرة” الصادر عن مؤسسة هنداوي بترجمة هاني فتحي سليمان، أن أغلب عناصرِ هذه الصورة النمطية لا تصمد. فبوجه عام تسيطر نظرية المؤامرة على عقول النساء، شأنهن في ذلك شأن الرجال. كما أن التعليم والدخل لا يصنعان فارقا كبيرا أيضا. فمَرتَبات أصحاب نظريات المؤامرة تتدرج من طلاب تسربوا من التعليم في المرحلة الثانوية بأعدادٍ لا تزيد كثيرا عن خريجي الجامعات، وصولا إلى أساتذة جامعيين ورؤساء وفائزين بجائزة نوبل. وتروق نظريات المؤامرة لجميع الأعمار.

 تسيطر نظرية المؤامرة على عقول النساء
تسيطر نظرية المؤامرة على عقول النساء

ويضيف “فيما يتعلق بالفكرة القائلة بأن نظريات المؤامرة هي شأن مجموعات متطرفة مجنونة، فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فعلى وجه العموم، ثَمة أعداد ضخمة من الناس هم أصحاب نظريات مؤامرة عندما يتعلَّق الأمر بقضية ما أو بأخرى. ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أُجريت على مدار العقد الماضي أو ما شابه، يعتقد قرابة نصف الأميركيِّين أن حكومتهم تخفي على الأرجح حقيقة هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ويعتقد أربعة أميركيين من بين كل عشرة تقريبا أن التغير المناخي نوع من التدليس العلمي. ويرى قرابة ثلث الأميركيِّين أن الحكومة تُخفي على الأرجح أدلة على وجودِ مخلوقاتٍ فضائية. ويشعر أكثر من ربع الأميركيين بالقلق حِيال النظام العالمي الجديد”.

ويوضح أنه في استطلاعٍ للرأي أُجري عام 2013 قال 4 في المئة ممن شملهم الاستطلاعُ (الذي امتد ليصل إلى سكان الولايات المتحدة بأكملها، ما يعني 12 مليون أميركي) إنهم يعتقدون أن “مخلوقات زاحفة قادرة على تغيير شكلِها تسيطر على عالَمِنا عن طريق تشكُّلها في صورةِ بشرٍ واكتساب سلطة سياسية للتلاعب بالمجتمعات”. وأعربت نسبةٌ أخرى قدرها 7 في المئة عن أنها ليست متأكدةً من هذا الأمر.

لا يهدف الكتاب وفقا لمؤلفه براذرتون إلى تقديم قائمة بنظريات المؤامرة كدليلٍ على الأفكار أو المعتقدات الشاذة. كما أنه غير معني بتصنيف أصحاب نظريات المؤامرة باعتبارهم جنسًا غريبًا، أو حكاية تحذيرية حول الكيفية التي يمكن أن يتعطل بها تفكيرُك.

ويوضح أن “نظريات المؤامرة قد تكون نتاجَ بعض نزوات أدمغتنا وزلاتها، غير أنها ليست فريدةً على الإطلاق في هذا الصدد. فأغلب نزواتنا تحدث ببساطة دون أن تسترعيَ الانتباه. ويمكن أن يخبرنا علم النفس بالكثير؛ ليس فقط بشأن أسباب تصديق الناس نظرياتٍ حول المؤامرات الكبيرة، ولكن أيضًا بشأن آلية عمل عقولنا، وأسبابِ تصديقنا أي شيء على وجه العموم. إذن هاكم نظريتي. نحن تحت رحمة مئة مليارِ متآمر صغير، جيوش جرارة من الخلايا العصبية المتآمِرة”.

ويقول “عبر صفحات هذا الكتاب سوف نزيح الستار لنسلط الضوء على جنبات خفية غامضة من عقولنا، ونكشف كيف يمكن لحِيل أدمغتنا السرية أن تشكل الطريقة التي نفكر بها في نظريات المؤامرة؛ وغير ذلك كثير. وسواء أكانت نظريات المؤامرة تعكس حقيقة ما يحدث في العالم أم لا، فإنها تخبرنا بالكثير عن ذواتنا السرية. وتنسجم نظريات المؤامرة مع بعض التحيزات الكامنة في الدماغ وطرقه المختصرة، وتتوافق مع بعضٍ من أعمق رغباتنا ومخاوفنا وافتراضاتنا بشأن العالم ومَن يعيشون فيه. فنحن نملك عقولا متشككة بالفطرة. وجميعنا أصحاب نظريات مؤامرة بالفطرة”.

ويقول الكاتب الأميركي “ليس كل شيء على النحو الذي يبدو عليه. فثَمة جانب مخبأ من الواقع، عالَم سري يعج بنشاط خفي وعملياتٍ كامنة. وهذا العالَم السري شبكةٌ غير مرئية تُصفي المعلومات وترشحها وتعالجها. وهي تنسج خيوطَ كذبات مريحة لمُواراة الحقيقة، أو الواقع المُحير. كما أنها تتحكم فيما نفكر فيه ونعتقده من أشياء، بل إنها تُشكل القراراتِ التي نتخذها، بطريقة تصوغ إدراكَنا الحسي وفق أجندتها الخاصة. ففَهمنا للعالم، باختصار، مجرد وهم”.

روب براذرتون يكشف جنبات خفية من عقولنا، وكيف يمكن لحِيل أدمغتنا السرية أن تشكل الطريقة التي نفكر بها
روب براذرتون يكشف جنبات خفية من عقولنا، وكيف يمكن لحِيل أدمغتنا السرية أن تشكل الطريقة التي نفكر بها

ويتاساءل “من يقف وراء هذه الخطة المذهلة؟ أهو مجتمع لئيم؟ أم بيروقراطيون ذوو اعتلالات نفسية في قاعاتٍ إدارية، يملؤها الدخان؟ أم ملك إنجلترا؟ أم سَحالٍ بين مجرية قادرة على تغيير شكلِها تعمل من أجلها؟ أم كل هذا؟.. لا. فهذا شأن داخلي. فالأمر لا يتعلق بكل ذلك، إنما يتعلق بنا نحن. أو بعبارة أدق: الأمر يتعلق بك أنت. أو يتعلق بعقلك، لو أردنا أن نكون أكثر تحديدا”.

ويرى براذرتون أن نظرية المؤامرة، بمفهومها الأساسي، هي سؤال بحاجة إلى جواب؛ فهي تفترض أنه ما من شيءٍ على حاله الظاهر، وتصوِّر المتآمرين على أنهم ذَوو كفاءة منقطعةِ النظير، ويُحرِّكهم كمٌّ هائل من الشرور، ونظرية المؤامرة تقوم على أساس تصيد الأشياء الغريبة، وهي غير قابلة للدحض في نهاية المطاف. هذه الخصائص تُفيد كثيرا في التفريق بين روايتين لأحداثِ الحادي عشر من سبتمبر. فبالرغم من أن الزعم القائل بأن المختطفين المنتمين إلى تنظيم القاعدة تآمروا لشن الهجمات يطرح نظرية عن مؤامرةٍ ما، فإن هذا الزعم لا ينسجم مع معاييرِ نظرية المؤامرة، في حين أن الزعم القائل بأن الهجمات كانت عمليةً داخلية مدبرة ينسجم مع الوصف تمامًا.

أدمغتنا تعمل بهذه الطريقة لسبب معين: مساعدتنا على خوض غمارِ الحياة في عالمٍ غيرِ يقيني وغادرٍ في بعض الأحيان

ويؤكد أن نظريات المؤامرة نتاج لخيال شخص ما، وهي تلقى رواجا لأنها تنسجم مع خيالات الآخرين. وخيالنا -نوع الأفكار التي نجدها جذابة ومعقولة- تقيده سيكولوجيتنا. فحتى تقتنع بزعمٍ يفي ببنود تعريفنا، قد يكون من المفيد مثلًا أن تنفتحَ على جميع مزاعم التآمر غير المُثبتة، إذا كنت معتادا على رفض الرأي السائد، وإذا كنت تظن أنه لا شيء يحدث عن طريق الصدفة، وإذا كنت تعتزم الدخول في مواجهةٍ مع الشر، وإذا كنت ترغب في تفسير الأشياء الغريبة، وأيضًا إذا كنتَ قادرًا على الاحتفاظ بقناعاتك مهما كانت الأدلة “أو إن غابت الأدلة”.

ويقول “لا أقصد أن نظريات المؤامرة يجب تجاهلُها أو تبنيها دائمًا. حيث يمكن أن تقود بعض نظريات المؤامرة إلى نتائج مدمرة. والبعض منها يمكن أن تكونَ له تأثيرات خفية وخبيثة. ومن ثم يجب علينا الحذر من نظريات المؤامرة التي تجعل من الأشخاص الضعفاءِ أكباش فداء، وتحض على العنف، وتعزز الأفكار المغلوطة عن قضايا يمكن أن تترتب عليها نتائج خطيرة بالنِّسبة إلينا جميعًا، مثل اللقاحات والتغيُّر المناخي. لكنني لا أعتقد كذلك أن التفكيرَ المؤامراتي بوجه عام آفةٌ بحاجة إلى استئصال. فأغلب الناس لا يبنون قراراتِهم الحياتيةَ المهمة بِناءً على نظريات المؤامرة”.

ويوضح أنه “قد يتضح أحيانا أن المؤامراتيين على دراية بشيءٍ ما ولديهم ما يُبرر موقفهم. فأحيانا يتم التخطيط بالفعل لأشياء شريرة وخبيثة خلف الأبواب المغلقة. هنا تدعو الحاجةُ إلى محاسبة القادة. فأحيانًا يُصبح جنونُ الارتياب حَصافةً وحكمة. ومن خلالِ تسليطِ الضوءِ على الكيفية التي يُمكن أن تُشكِّل بها تحيزاتُنا معتقداتِنا وأفكارَنا، لا أطمح إلى دحضِ نظريةٍ بعينها، كما لا أهدف إلى انتقاد التفكير المؤامراتي بالكلية. إنما هدفي أن نتأمَّل حَدْسَنا بشيءٍ من التدقيق وأن نسأل أنفسنا لماذا نُفكِّر فيما نفكِّر فيه. هل نحن لدينا جنونُ ارتياب حصيف؟ أم أن تحيزاتنا تستحوذُ علينا تمامًا؟”.

ويخلص براذرتون إلى أنه “ليست جميعُ تحيزات أدمغتنا ولازِماتِها وطرقِها المختصرة سيئة دائما. فبدونها قد لا نبرح أَسرتنا، في حيرة شديدة، غيرَ متأكدين من أي شيء، وعاجزين عن اتخاذ أبسطِ القرارات؛ إذ سنكون بحاجةٍ مستمرة إلى إعادة تقييم عالمنا بأكمله. أدمغتنا تعمل بهذه الطريقة لسبب معين: مساعدتنا على خوض غمارِ الحياة في عالمٍ غيرِ يقيني وغادرٍ في بعض الأحيان. فتحيزاتنا تجعلنا بشريين. نحن بشريون على نحوٍ مدهش ومذهل ومبهر وغيرِ مثالي في الوقت ذاته. وهذا باستثناء مَنْ هم منا كائناتٌ فضائية بين مجرية، قادرة على تغيير شكلها”.

13