الأحداث السياسية موسم لمخالفات كبيرة في مصر

يستغل الكثير من المصريين الأحداث السياسية في بلدهم لارتكاب مخالفات، أبرزها البناء العشوائي على الأرض الزراعية، ما أدى إلى تآكل جزء منها خلال السنوات الماضية بسبب النمو السكاني والزحف العمراني. ويشير الخبراء المختصون إلى أن وقف البناء العشوائي يصعب بالعقوبات وحدها، وإن كانت سياسة الترهيب مطلوبة للردع، ويطالبون بتوجيه أسلوب الردع أولا للمعنيين بمكافحة البناء العشوائي.
القاهرة - بعد سنوات طويلة من إقامته في منزل بسيط رفقة زوجته وأولاده الخمسة، استثمر المصري حسان عيد، الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية في البلاد، اختتمت الثلاثاء، وشرع في بناء منزل جديد على مساحة من الحقل الزراعي المملوك له في قريته، لكنه اصطدم بإنذار من جهات حكومية بتحديد موعد لإزالة المبنى كليا، ورفع دعوى قضائية قد تقوده إلى الحبس بتهمة الاعتداء على أرض زراعية.
ما فعله المصري حسان ليس حالة فردية لمواطن بسيط أراد أن ينقل أسرته من العيش في منزل قديم يفتقد مظاهر الحياة الجيدة، لكنه يمثل موقفا منتشرا في أوساط كثيرة من المصريين الذين اعتادوا توظيف الأحداث السياسية في بلدهم لارتكاب مخالفات، وبينها زيادة البناء العشوائي على الأرض الزراعية، مستفيدين من انشغال المؤسسات الحكومية بفرض الأمن وعبور الحدث السياسي في هدوء وبلا صدام مع الناس.
قال حسان لـ“العرب” إنه استطاع إنجاز بناء منزله الجديد على جزء من مساحة الأرض الزراعية المملوكة له في أيام قليلة دون أن يشعر به موظفو أي جهة رسمية معنية بالتصدي للبناء المخالف، وقبيل البدء في تجهيز البيت للانتقال إليه تلقى صدمة التمهيد لإزالته، معقبا “هناك حالات مماثلة، استثمرت موسم الانتخابات الرئاسية لإنجاز مهمة البناء على الأرض الزراعية”.
تسببت تصرفات شريحة مثل حسان في تآكل جزء من الأرض الزراعية المحدودة في مصر خلال السنوات الماضية، بسبب النمو السكاني والزحف العمراني بعيدا عن السيطرة وغياب أجهزة الحكم المحلي عن القيام بدورها والتصدي لاستغلال الأحداث السياسية في توسيع وتيرة البناء العشوائي وغيره من الأعمال العشوائية، قبل أن تضطر الحكومة إلى الدخول في مواجهة مع الأهالي، ولو خسرت الكثير من شعبيتها.
ظهر ذلك في الاجتماع الذي عقده مصطفى مدبولي رئيس الحكومة المصرية، الاثنين، في ثاني أيام الانتخابات الرئاسية، للتأكيد على المحافظين (الحكام المحليين) بأن الدولة لن تسمح تحت أي ظرف، بتوسيع نطاق المباني المخالفة، موجها بالإزالة الفورية لأي مبنى، ويتحمل كل محافظ مسؤولية تحقيق ذلك ومتابعته باستمرار.
تبدو فئة من المصريين على قناعة بأن الحكومة من الصعب أن تدخل في مواجهة معهم في التوقيتات السياسية الحساسة، بالتالي فهي فرصة لإنجاز البناء العشوائي بأقل تكلفة، وإلى حين أن تستفيق الأجهزة الرسمية بالمتابعة سوف تكون المهمة قد انتهت، ويمكن الدخول بعدها في إجراءات التفاوض لأجل التصالح.
عشوائية مفرطة
كانت الفترة التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل حسني مبارك، وما تبعها من فراغ أمني، فرصة ثمينة أمام الآلاف من المواطنين للتوسع في التعدي على الأرض الزراعية وبناء الكثير من العقارات، بغرض الاستثمار فيها أو الانتقال من المنازل القديمة الضيقة إلى أخرى أكثر اتساعا بعيدا عن اللجوء إلى شراء مبان بأسعار فلكية.
اعتادت الأجهزة الحكومية في أوقات التحديات الأمنية والسياسية غض الطرف عن المخالفات، فتوسعت معدلات البناء العشوائي على وقع الاستحقاق الرئاسي، ولم يقتصر ذلك على المناطق الريفية، لكنه امتد ليشمل بعض المدن من خلال تعلية بنايات بالمخالفة للاشتراطات التي تحددها الجهات المعنية، باعتبار أن هذه فرصة لن تتكرر، خاصة أنه يمكن وقف الإزالة بثغرة قانونية.
يعكس ما فعله الأب حسان من تبوير لمساحة من الأرض الزراعية لتحسين وضعه السكني طبيعة الخيارات المتاحة، فهو لديه ثلاثة أبناء اقترب أكبرهم من الزواج دون أن تكون لديه وحدة سكنية للعيش فيها، وباقي أخواته بعد ثلاثة أعوام قد يتزوجون، وهو لا يمتلك من المال ما يؤهله لشراء أرض مخصصة للبناء السكني.
يقول خبراء إن قيمة الأرض الزراعية عند الكثير من الفلاحين تراجعت، فلم تعد مثل الماضي بأنها وسيلة للعيش الكريم، حيث أهملت الحكومات المتعاقبة مطالب المزارعين وحقوقهم، ولم يعد غالبيتهم يهتمون بها كميراث تجب المحافظة عليه، وانتشرت فكرة تحويلها إلى مناطق سكنية، وبات البعض يتعمدون إهمالها لتبور وتصبح غير صالحة للزراعة ثم يطلب تغييرها إلى السكن أو ينزع عنها صفة الزراعة.
أكد نادر نورالدين، الباحث والخبير في شؤون الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، أنه يصعب وقف البناء العشوائي بالعقوبات وحدها، وإن كانت سياسة الترهيب مطلوبة للردع، لكن يجب على وجه السرعة أن تصبح الزراعة مهنة مربحة تجعل الفلاح لا يستطيع التفريط في أرضه والبناء عليها، أو تعريضها للبوار، مع حتمية وصول صوت المزارعين وقاطني المناطق الريفية لبحث الأسباب الواقعية للمخالفات.
وأوضح لـ“العرب” أن استمرار البناء العشوائي يحمل مخاطر كبيرة على الاقتصاد، ويوسع دائرة الفجوة الغذائية ويضع على الحكومة تحديات ضخمة في استيراد احتياجات البلاد بعد زيادة تعداد السكان، مقابل تقلص المساحات المزروعة، ولا يجب أن تكون الأحداث السياسية فرصة للتوسع في البناء العشوائي وارتكاب المخالفات، ومن المفترض أن تقوم الحكومة بالقضاء على هذا الإرث بشتى السبل.
وكشف تقرير رسمي أصدرته وزارة الزراعة أن إجمالي عدد حالات التعدي بالبناء على الأراضي الزراعية خلال الفترة من ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى 2018، بلغ مليونا و832 ألفا و776 حالة تعد، بإجمالي مساحة تصل إلى 81 ألفا و590 فدانا.
وزادت هذه النسبة بشكل واضح خلال الفترة التي أعقبت الثورة، وهو ما يفسر تهديد الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ نحو عامين بنزول الجيش لإزالة التعديات.
ترفض الحكومة المصرية أن تتحول المواجهة مع المعتدين على الأرض إلى صدام أمني من خلال الاعتماد على جهاز الشرطة فقط في التصدي للمخالفين، باعتبار أن إزالة المبنى والمخالفات والتخلص من العشوائيات أمر يتطلب إجراءات مشددة واستعدادات مكثفة من رجال الأمن، ما يفسر إظهار رئيس الوزراء التشدد في التعامل مع كبار المسؤولين، وضرورة أن يواجهوا الظاهرة قبل تفاقمها، ويصبح المبنى المخالف أمرا واقعا، ثم تتوالى الإجراءات القاسية.
قيمة الأرض الزراعية عند الكثير من الفلاحين تراجعت ولم يعد غالبيتهم يهتمون بها كميراث يجب المحافظة عليه
ثمة مشكلة أكثر تعقيدا للحكومة وصاحب المخالفة، ترتبط بأن الأرض الزراعية التي تم البناء عليها تصبح غير صالحة للزراعة لسنوات طويلة مع إزالة المخالفة، أي أن الطرفين لتتحقق لهما مكاسب، فلا الدولة تستفيد من إنتاجية الأرض، ولا الفلاح يستفيد منها جيدا بعد ذلك، بحكم أن الأجهزة المعنية بالإزالة لا تقوم بإعادة استصلاح المنطقة لتعود للزراعة، وهي عملية تستدعي المواجهة المبكرة بدلا من التعامل ببطء.
يربط الخبراء بين استثمار الأحداث السياسية وزيادة معدلات البناء على الأرض الزراعية، وبين انتشار الفساد داخل بعض الأجهزة المحلية والتغاضي عن المخالفة نظير الحصول على رشاوى تدفع الموظف إلى الصمت على المواجهة المبكرة، وتجاهل المعتدي لينتهي من مهمته ويصبح وجود المنزل أمرا ملموسا، ولا تحاسب الحكومة أجهزتها المحلية بالصرامة اللازمة على هذه الخروقات، وتكتفي بإزالة المخالفة.
ذكر أمجد عامر، الباحث المصري في شؤون المحليات، لـ”العرب” أن منع تكرار البناء على الأرض الزراعية يستدعي محاسبة المقصرين في المتابعة من بعض العاملين بالجهاز المحلي، فأسلوب الردع يجب أن يوجه أولا للمعنيين بمكافحة البناء العشوائي، ومن المهم أن تكون هناك صرامة في الغرامة ليشعر من يرتكب المخالفة أن تكلفة البناء أكبر من التزامه بالقانون.
وأشار إلى أن التصعيد الحكومي مرتبط بارتفاع تكلفة تجهيز أراض جديدة للزراعة، وجودتها لن تكون مثل تلك التي تم البناء عليها في منطقة دلتا النيل (شمال القاهرة)، وفي المقابل هناك زيادة سكانية كبيرة، والدولة مطالبة بتوفير الغذاء بأسعار مناسبة، ويجب أن يكون هناك خطاب ترهيب للناس لتحذيرهم من الاستمرار على نفس النهج، ويصبح التصالح مع المخالفات في أضيق الحدود، مقابل غرامات قاسية.
مسؤولية الحكومة
تتحمل الحكومة جزءا كبيرا من مسؤولية التعدي على الأرض الزراعية، لأنها اعتادت الاهتمام ببناء المساكن الشعبية لمحدودي الدخل في المدن، ولا تهتم بتوفير وحدات سكنية مناسبة وبأسعار مناسبة لأبناء الريف، وتساهلت حكومات سابقة مع بعض رجال الأعمال الذين حصلوا على أرض للاستصلاح الزراعي وحولوها إلى منتجعات سكنية، وهي تفسيرات يحتمي فيها بعض المزارعين لتبرير مخالفاتهم.
وأصبحت الحكومة مطالبة بالبحث عن الأسباب التي دفعت الناس إلى البناء العشوائي على الأرض قبل أن تفرض الغرامات وتزيل البنايات، فغالبيتهم مضطرون إلى توفير سكن ملائم أمام تجاهل إنشاء مدن متكاملة الخدمات لشباب أبناء الريف بأسعار تتواءم مع ظروفهم المعيشية، بدلا من أن تضطر الدولة إلى توفير المليارات من الجنيهات لاستصلاح أراض صحراوية لتعويض نظيرتها التي تآكلت بفعل البناء.
ولا يخلو التوسع العشوائي في البناء خلال الآونة الأخيرة من محاولة البعض فرض التصالح مع الحكومة في مخالفات البناء بالأمر الواقع بعد مصادقة البرلمان على قانون التصالح في مخالفات البناء، وبات التشريع جاهزا للتطبيق، ويتوقف فقط على تحديد البنايات التي يجوز فيها التصالح وقيمة الغرامة في كل منطقة سكنية، ويسعى من ارتكبوا مخالفات في موسم الانتخابات الرئاسية الأخيرة نحو إدراج مخالفاتهم للبناء على أرض زراعية ضمن الفئة التي تنوي الدولة التصالح معها رسميا.