بول غوغان في آخر كلماته: لم أعرف أبدا كيفية رسم لوحة مناسبة

تبين كتابات الرسامين الخطوات التي انتهجوها في تشكيل وعيهم الفني ونحت تجاربهم بما أثر فيها، كما تحكي عن العلاقات التي جمعت هؤلاء الفنانين ببعضهم البعض، ومخطوطة الرسام الفرنسي بول غوغان خير مثال على ذلك بما تضمنته من رؤى نقدية وحكايات سيرية.
“قبل وبعد” المخطوطة الأخيرة للرسام الفرنسي بول غوغان (1848 – 1903) الذي انتهى منها قبل رحيله بأسابيع قليلة في كوخه بجزر ماركيساس، حيث قام في أغسطس 1901 بمغادرة تاهيتي على متن مركب شراعي متجهًا إلى جزر ماركيساس وهبط في هيفا أوا، وهناك بنى مكانه الخاص الذي سماه Maison du Jouir.
وقد ظلت المخطوطة ضائعة لفترة طويلة، وعند إعادة اكتشافها تمت إضافتها إلى أهم مجموعة من أعمال غوغان في المملكة المتحدة، وبعد عرضها لعدة أسابيع تم نشرها في كتاب صدرت ترجمته عن دار صفصافة بترجمة الشاعر اللبناني بهاء إيعالي، وحمل نفس العنوان الأصلي للمخطوطة.
فان جوخ
تتخلل الكتاب العديد من الرسومات (27 صفحة من الرسومات) بالقلم الجاف والحبر، بالإضافة إلى العديد من النماذج الأحادية التي تصور المناظر الطبيعية والأشخاص في جزر ماركيساس. وهو يجمع بين المذكّرات والسيرة بشكل مجزأ، ويكشف عن أسرار الفنان الخفية؛ رؤاه الأساسية حول حياته وعلاقاته ومواقفه وأفكاره الفنية والإنسانية.
ويستعرض غوغان مثالب الأخلاق البرجوازية التي دفعته إلى الهروب من أوروبا والتوجه إلى عالم جزر ماركيساس البدائي، كما يستحضر فترة صداقته مع فنسنت فان جوخ، هذه الفترة القصيرة ولكن المضطربة التي قضاها معه في آرل. ويوضح مفهومه للفن من خلال آرائه حول أعمال كبار الفنانين المعاصرين مثل ديغا وبيسارو وسيناك وسيزان ومانيه، وكذلك من خلال تعليقاته اللاذعة حيال نقاد الفن الباريسيين الذين فشلوا في تقدير موهبته والسلوك المتعجرف للسلطات الاستعمارية والكنيسة الفرنسية في بولينيزيا.
إن الكتاب سيرة ذاتية جريئة في صراحتها، تجتازها “الكراهية والانتقام”؛ فالنص مليء بأمثلة من عنصريته وكراهية النساء، مليء بأشياء فظيعة أخرى، وقد اختتم بوصف لفلسفته الشخصية التي تصور الحياة على أنها صراع وجودي للتوفيق بين الثنائيات المتعارضة.
يقول غوغان في كتابه الذي يعد أعظم نصوصه المكتوبة، عن علاقته بفان جوخ “في الوقت الذي وصلت فيه إلى آرل، كان فنسنت في منتصف المدرسة الانطباعية الجديدة، وكان يتعثر بشكل كبير مما جعله يعاني. وهذا لا يعني أن المدرسة سيئة شأنها شأن باقي المدارس، إلا أنها لم تتوافق مع طبيعته غير الصبورة والمستقلة تماما. مع كل ألوانه الصفراء على الأرجوانية، وكل هذا العمل التكميلي والعمل غير المنتظم من جانبه، لم يصل إلا إلى تناغمات ناعمة، غير مكتملة ورتيبة. كان صوت البوق غير موجود. وقد أخذت على عاتقي مهمة التنوير التي كانت سهلة بالنسبة إلي لأنني وجدت أرضا غنية وخصبة، ومثل كل الطبيعيين الأساسيين والمميزين بالنسبة إلى شخصيته، لم يكن فنسنت يخشى جارا ولا عنادا. ومنذ ذلك اليوم أحرز فان جوخ تقدما مذهلا، بدا وكأنه يلمح كل ما كان فيه، ومن هناك كل هذه السلسلة من الشموس على الشموس في وضح النهار”.
ويتابع “عندما وصلت إلى آرل كان فنسنت يبحث عن نفسه، فيما أنا الأكبر منه بكثير، رجل بالغ. إنني مدين لفنسنت بشيء ما، مع الإدراك أنني كنت مفيدا له، ألا وهو تقوية أفكاري التصويرية السابقة، ثم في الأوقات الصعبة أتذكر أن المرء يجده أكثر تعاسة. عندما يقرأ المرء هذا المقطع ‘إن رسم غوفان يذكر برسم فان جوخ إلى حد ما’، أبتسم. خلال الأيام الأخيرة من إقامتي أصبح فنسنت صاخبا، مفاجئا بشكل مفرط وصامتا بعد ذلك، في بعض الأمسيات فاجأته، وهو بدوره استيقظ واقترب من سريري. ما الذي يمكنني أن أعزو إليه استيقاظه في هذا الوقت؟ ومع ذلك كان يكفي إخباره بجدية شديدة ‘ما الأمر فنسنت؟’ وذلك لكي يعود إلى الفراش دون أن ينبس ببنت شفة وينام ثقيلا”.
ويضيف غوغان “خطرت لي فكرة رسم صورة فنسنت وهو يرسم الحياة الساكنة التي أحبها كثيرا في عباد الشمس. وعندما انتهيت من الصورة قال لي: ‘هذا أنا، لكنني جننت’. في نفس المساء ذهبنا إلى المقهى وطلب الأفسنتين الخفيف. وفجأة ألقى بكأسه ومحتوياته على رأسي. تجنبت الضربة وأخذته بين ذراعي وغادرت المقهى، وعبر ساحة فيكتور هوغو وبعد بضع دقائق كان فنسنت على سريره حيث نام خلال بضع ثوان فقط ليستيقظ صباحا. وعندما استيقظ متنعما بهدوء كبير قال لي: عزيزي غوغان، لدي ذكرى غامضة بأنني أسأت إليك ليلة أمس. أجبت: سامحتك بكل سرور ومن قلب كبير، لكن مشهد الأمس يمكن أن يتكرر مرة أخرى، وإذا تعرضت للضرب فقد أكون خارج نطاق السيطرة وأخنقك ساعتها؛ لذا اسمح لي بأن أكتب لأخيك لأخبره عندما أعود”.
◙ غوغان اختتم كتابه بوصف فلسفته الشخصية التي تصور الحياة على أنها صراع وجودي للتوفيق بين الثنائيات المتعارضة
ديغا ونقد الرسم
يكتب عن علاقته ورؤيته للفنان إدغار ديغا وفنه “من يعرف ديغا؟ لا أحد، سيكون ذلك مبالغة. قلة فقط من يعرفونه، إنني أعرفه جيدا. حتى بالاسم ليس معروفا للملايين من قراء الصحف اليومية، وحدهم الرسامون، كثيرون بدافع الخوف وقليلون بدافع الاحترام، معجبون بديغا. هل يفهمونه جيدا؟ ولد ديغا.. لا أعلم متى، لكنه كبير في السن كمتوشالخ منذ وقت طويل. أقول متوشالخ لاعتقادي أن الأخير في عامه المئة بدا مثل رجل ثلاثيني في عصرنا. في الواقع لا يزال ديغا شابا. إنه يحترم آنغر، مما يجعله محترما نفسه. برؤيته، وقبعته الحريرية على رأسه ونظارته الزرقاء على عينيه، يبدو وكأنه كاتب عدل مثالي، برجوازي من أيام لويس فيليب، دون نسيان المظلة”.
ويضيف غوغان “إن كان هناك شخص يحاول بالكاد أن يصبح فنانا فهذا هو، هو كذلك، ومن ثم فهو يكره الأزياء الرسمية حتى ثوبه هذا. إنه شديد الطيبة، يعتقد أنه نذل. شرير ونذل. أهما الشيء ذاته؟ آه، ما هو عليه، الجلف. شك ديغا في المقابلة، فالرسامون يطلبون استحسانه وتقديره وهو الجلف والنذل، وليتجنب التكلم بما يفكر فيه، يقول لكم بلطف شديد ‘اعذروني لكنني لا أرى بوضوح، فعيناي…’. من ناحية أخرى لا ينتظر أن يكون معروفا. إنه يخمن بين الشباب، ولا يتحدث أبدا عن عيب في العلم وهو العالم بذلك. سيقول لنفسه ‘لاحقا سيعرف بالتأكيد’، ويقول لك كما يقول أب لطفله بداية مشيه ‘وضعت قدمك في ذلك’. لا أحد يمنعه من بين القوى”.
ويذكر “أتذكر مانيه. فنان آخر لم يضايقه أحد. ذات مرة أخبرني بعد رؤيته لوحة لي (في بداياتي…) أنها جيدة جدا، فأجبته باحترام تلميذ لمعلمه ‘أوه. أنا مجرد هاو’. وقتها عملت سمسارا في البورصة حيث لم أدرس الفن إلا أيام العطل وفي الليل. ‘أبدا’، يقول مانيه، ‘هناك فقط الهواة الذين يرسمون لوحة سيئة، أما هذه فجميلة بالنسبة إلي’. لماذا أتذكر اليوم كل شيء من الماضي إلى الآن؟ أأنا مضطر إلى أن أرى كل شخص عرفته (يلفت الأنظار) تقريبا، لاسيما آخر الشباب الذين نصحتهم ودعمتهم وما عادوا يعرفونني؟”.
ويضيف “لا أود أن أفهم ذلك. ومع ذلك لا أستطيع أن أردد قصيدة فيرلين لنفسي بتواضع زائف: ‘ماذا فعلت، ها أنت ذا/ تبكي بلا توقف،/ قل، ماذا فعلت، ها أنت ذا،/ في شبابك’. لأنني عملت وأجدت استخدام حياتي بشجاعة وذكاء، دون بكاء وانكسار: كانت أسناني قوية كفاية”.
ويذكر أن ديغا كان يحتقر نظريات الفن ولا يهتم إطلاقا بالمسائل التقنية. ويقول “في عرضي الأخير لدى دوران روبيل ‘أعمال تاهيتي 91 و92’ لم يستطع شابان بحسن نية أن يشرحا رسوماتي، عندها سئل ديغا من قبل أصدقائه المحترمين راغبين في الاستنارة عن شعوره. وبهذه الابتسامة الأبوية، وهو الشاب، روى لهم حكاية الكلب والذئب؛ ‘انظروا إلى غوغان، إنه ذئب./ ها هو الرجل، من يكون الرسام؟’، واحدة من أقدم اللوحات المعروفة لديغا هي متجر القن. وصفها كالتالي: بل انظروا إليها، وقبل كل شيء انظروا إليها جيدا. وقبل كل شيء لا تأتوا لتقولوا ‘لا أحد يعرف كيف يرسم القطن بأفضل شكل’. الأمر لا يتعلق بالقطن ولا حتى بأزهار القطن”.
ويقول غوغان “قالت لي امرأة فظيعة للغاية: ‘لا أحب ديغا لأنه يرسم نساء قبيحات’؛ وتضيف ‘هل رأيت لوحة صورتي التي رسمها لي هنري جيرفيكس في الألوان؟’. إن متهندمة كارولس دوران قذرة، وعارية ديغا عفيفة، لكنهما تغتسلان داخل أحواض، وهذا بالضبط سبب نظافتهما. لكن من الممكن رؤية المرحاض، المغسلة والوعاء، إنهما تشبهاننا تماما. النقد يخلع ملابسه لكنه مختلف تماما. يرى ناقد اللوحات في منزلي، والصدر المظلوم يطلب مني رسوماتي أبدا: هذه رسائلي وأسراري. الشخص العام، الشخص الحميم.. تودون أن تعرفوا من أكون، أفلا تكفيكم أعمالي؟ حتى حينما أكتب أظهر فقط ما أريد عرضه، لكنكم كثيرا ما ترونني عاريا، وهذا ليس سببا، بل الجزء الداخلي الذي عليكم رؤيته. علاوة على ذلك لا أرى نفسي جيدا دائما”.
ويتساءل ما هو الرسم؟ ويقول “لا تتوقعوا مني أن ألقي محاضرة حول هذا الموضوع. ربما يعني الناقد مجموعة من الأشياء على الورق بالقلم الرصاص، وربما يفكر في أن هذا لا يزال هو المكان الذي تعرفون فيه ما إذا كان بإمكان أحد الرسم. إن معرفة كيفيات الرسم لن تؤدي بالضرورة إلى رسم جيد. هل يشك هذا الناقد المتخصص في أن تتبع الخطوط العريضة للشخصية المرسومة يعطي مظهرا مختلفا تماما الاختلاف؟”.
ويضيف “في ‘بورتريه المسافر’ لرامبرانت (المعروض في معرض لاكار) سنرى أن الرأس بهيئة مربع، خذوا المخطط وسترون أن ارتفاع الرأس ضعف عرضه. أتذكر الوقت الذي أكد فيه الجمهور الذي يحكم على رسوم بوفي دو شافان المشغولة على الكرتون، بينما كان يعطي الأخير هدايا تأليفية عظيمة، إن بوفي لا يفهم في تقنيات الرسم. وكان من المدهش عندما أقام ذات يوم رائع لدى دوران ـ رويل معرضا حصريا لدراسات الرسم، بالقلم الأسود والطباشير الأحمر. ذلك الجمهور الساحر قال ‘حسنا، حسنا.. لكن بإمكان بوفي الرسم مثله مثل أي شخص آخر؛ إنه يفهم في علم التشريح والنسب.. إلخ، ولكن بعد ذلك لماذا لا يجيد الرسم على لوحاته؟'”.
ويتابع “من ضمن حشد من الحشود ثمة شخص أذكى من غيره دائما، ذلك الذكي قال ‘ألا ترون أن بوفي يسخر منكم؟ شخص آخر يود تكوين صورته الأصلية وألا يكون كأي شخص. يا إلهي، ما الذي سيحل بنا؟’. ربما هذا أراد ذلك الناقد فهمه عندما سألني عن رسوماتي قائلا لنفسه ‘دعنا نر ما إذا أمكنه الرسم’. فليطمئن، سأخبره بذلك. لم أعرف أبدا كيفية رسم لوحة مناسبة ولا كيفية التعامل مع فتيلة وكرة من الخبز. بدا لي أن هناك شيئا مازال مفقودا: اللون. قبالتي صورة تاهيتية. الورقة البيضاء تزعجني”.