حملات مقاطعة المنتجات الأجنبية تجلب نتائج عكسية للمصريين

ارتفاع أسعار السلع المحلية قلّص من خيارات المواطنين لمواجهة الغلاء.
الخميس 2023/11/30
ماكدونالدز يعيش الركود

أثبت المواطن المصري دعمه للمنتجات المحلية من خلال الحملة التي أطلقها لمقاطعة البضائع والشركات الأجنبية الداعمة لإسرائيل، لكن المصانع والشركات المصرية قابلت هذه المبادرة بالجحود واستغلت نصرة المصريين لأشقائهم الفلسطينيين بأن رفعت أسعار المواد التي يحتاجها المواطن الذي أصبح بين مطرقة التجار وسندان متطلباته المعيشية.

القاهرة- جلبت حملات مقاطعة بعض المنتجات الأجنبية على المصريين نتائج عكسية، بعدما قرروا اللجوء إلى السلع المحلية البديلة، لكنهم تعرضوا لصدمة جراء ارتفاعات قياسية في أسعار المنتجات التي يتم تصنيعها في السوق المصرية.

نجح مصريون إلى حد كبير في تكبيد بعض الشركات التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالولايات المتحدة ودول أوروبية وتدعم إسرائيل في الحرب على قطاع غزة، خسائر فادحة، بعد أن وصلت حملات المقاطعة حد الامتناع بشكل شبه كامل عن شراء منتجات هذه الشركات واستبدلتها بنظيراتها المحلية.

وعكست طلبات الإحاطة التي تقدم بها أعضاء في مجلس النواب إلى الحكومة لسرعة التدخل العاجل لضبط إيقاع السلع المحلية التي أقبل عليها المواطنون بدلا عن الأجنبية، إلى أي درجة وضع المصريون أنفسهم في ورطة، فلا هم يرغبون في شراء منتجات يعتقدون أنها داعمة للاحتلال أو يستطيعون اقتناء ما يحتاجونه من البضائع المحلية.

انتقادات للحكومة

خالد الشافعي: الحكمة تقتضي أن تتم مكافأة الناس على دعمهم للمنتج المحلي
خالد الشافعي: الحكمة تقتضي أن تتم مكافأة الناس على دعمهم للمنتج المحلي

وجه نواب البرلمان انتقادات حادة للحكومة جراء إخفاقها في ضبط الأسعار والسيطرة على السوق، بعد أن اعتادت الترويج إلى أن تحديد سعر معين للسلع الأجنبية مرتبط بالعملات الأجنبية، ووضعت نفسها في مأزق باعتبار أن المنتجات المحلية تكلفتها معروفة ولا يتم استيراد النسبة الأكبر من مكوناتها.

ولم تتوقع الحكومة وشركات محلية أن تنجح الحملة التي تم إطلاقها منذ اندلاع الحرب على غزة تحت مسمى “صنع في مصر”، حيث بدأت بعض الشركات تتواصل مع القائمين على الحملة للترويج لمنتجاتها وسط تفاعل كبير من المواطنين لمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل.

وارتبط نجاح التسويق للمنتجات المحلية في البداية بقيام الحملة الترويجية بنشر صورة المنتج المصري وصفاته ومميزاته وأسعاره، ودعم ذلك بعض الآباء والأمهات الذين أشادوا بمكوناته وقيمته، خاصة السلع الغذائية، ما ضاعف معدل الشراء.

وانقلبت بعض الشركات على المواطنين سريعا وقررت رفع سعر المنتج المحلي بشكل كبير، مع أن الثمن وقت الترويج له كسلعة بديلة للأجنبية لم يكن بنفس القيمة، ما جعل شريحة من الناس تشعر أنها تعرضت لخديعة وتورطت في دعم منتجات محلية استغل أصحابها حملات المقاطعة وقرروا تحقيق أرباح طائلة على ساب جيب المواطن المصري.

يدرك بعض المواطنين أن ارتفاع أسعار المنتجات المحلية البديلة للأجنبية مرتبط بشعور الشركات والمصانع المصرية بأن حملات المقاطعة لن تستمر طويلا، وسوف يأتي اليوم الذي يعود فيه الناس إلى المنتج المستورد بعد أن تضع الحرب على غزة أوزارها، ما دفعهم إلى استغلال الظرفية الراهنة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.

أصبحت الشريحة التي آمنت بفكرة المقاطعة للسلع المستورة، مقابل تشجيع المحلي منها، توجه غضبها صوب الحكومة وأجهزتها الرقابية والجهات المسؤولة عن ضبط الأسواق، لأنهم تركوا الناس فريسة لمصنعين جشعين استثمروا ظروف الحرب والمواقف الداعمة للفلسطينيين بالمقاطعة واستغلوا مشاعر الناس وتعاطفهم مع جيرانهم دون رقابة أو عقاب.

ويدافع بعض الصنّاع المحليين بأنهم أبرياء من استغلال مقاطعة البضائع الأجنبية لتحقيق أرباح سريعة، وأن كبار التجار والموزعين سبب الأزمة، وهي إشكالية تفرض على الحكومة أن تكون صارمة في ضبط السوق من خلال لجان المتابعة ورقابة الأسعار كي لا تكون هناك شريحة تستثمر الحرب لتعظيم مكاسبها من جيوب الناس.

كريم العمدة: مشكلة الحكومة تكمن في أنها بطيئة في التعاطي مع الأزمات التي تلامس احتياجات الناس
كريم العمدة: مشكلة الحكومة تكمن في أنها بطيئة في التعاطي مع الأزمات التي تلامس احتياجات الناس

واعترف رمضان يحيى، وهو صاحب متجر لبيع السلع الغذائية في القاهرة، بأن منتجات المياه الغازية المحلية ارتفعت بنسبة وصلت إلى 30 في المئة منذ زيادة حملات المقاطعة، ما ترك مشاعر سلبية لدى مواطنين يدركون وجود استغلال لحسهم الوطني.

وقال لـ“العرب” إن الكثير من المنتجات المستوردة التي تم إدراجها ضمن حملات المقاطعة أصبحت تعاني من هبوط قياسي في معدلات الشراء، وإذا لم يجد الناس نظيراتها المحلية فلن يشتروها من الأساس، ما دفع بعض التجار وأصحاب محلات التجزئة إلى رفع سعر السلع المحلية لتعويض الخسائر المرتبطة بمقاطعة الأجنبية منها.

ويرى مراقبون أن انخراط الجمهور في دعم الاقتصاد المصري بالترويج للمنتجات المحلية لم تقابله مساندة حكومية ولو بفرض الرقابة على الأسواق، وبدا الأمر كأن هناك جهات تعاقب المواطن على نصرته للقضية الفلسطينية باعتبارها قد تسبب خسائر للاقتصاد عندما تدفع بعض الشركات الأجنبية إلى الانسحاب من السوق المصري.

وتأسست المقاطعة الجماهيرية على حتمية دعم السلعة المحلية كجزء من إنقاذ اقتصاد وطني يعاني صعوبات كبيرة، وحتى لا يكون المواطن أسيرا لسلعة مستوردة بينما يمكنه أن يجد منها المحلية، إضافة إلى توجيه رسالة معنوية ومادية لبعض العلامات التجارية المرتبطة بدول داعمة لإسرائيل، لكنهم لم يجنوا ثمار ذلك بعد.

وحذرت دوائر برلمانية مصرية من الانعكاسات الخطيرة لحملات المقاطعة كونها تؤثر على حجم الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وهي نبرة جعلت شريحة من المواطنين يشعرون بأن عدم وجود رقابة صارمة على السوق يرتبط بدفع الناس إلى تخفيف المقاطعة أو حثهم على العودة إلى ما كانوا عليه قبل الحرب.

ما ساعد على رواج بعض المنتجات المحلية أن عددا من البرامج التلفزيونية التي يقدمها إعلاميون مشهورون تبنت التوجه الرامي إلى القضاء على ما يسمى بـ”عقدة الخواجة”، وتعاطت معهم بعض الشركات بتقديم خصومات في بادئ الأمر على مأكولات ومشروبات وسلع أساسية ثم سرعان ما قفزت أسعارها بلا مقدمات.

أغنياء الحرب

بوكس

أكد خالد الشافعي، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، لـ”العرب” أن ما حدث من ارتفاع في أسعار بعض السلع المحلية يعيد إلى الأذهان مصطلح أغنياء الحرب، وهو نفس الموقف الذي سبق وتكرر مع بدايات الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث تسيطر على السوق مجموعة محددة من الشركات والتجار والموزعين، يستغلون الموقف لصالحهم بغض النظر عن أوضاع الاقتصاد وظروف الناس.

ولفت إلى أن الحكمة تقتضي أن تتم مكافأة الناس على دعمهم للمنتج المحلي، والضرب بيد من حديد على المجموعة التي تستغل الوضع الحالي لتحقيق أرباح في زمن قصير، وهذا يتطلب أن يكون المواطن أكثر وعيا ولا يشتري سلعة ترتفع بشكل كبير مع أن منتجاتها محلية، لأن ضبط السوق مسؤولية تشاركية بين الفئات المستهلكة والأجهزة الرقابية.

◙ دوائر رسمية متهمة بالتواطؤ مع شركات وتجار لأنها تعرف جيدا تكلفة المنتج المحلي رغم الصرامة التي أبدتها الحكومة

وتتحمل الحكومة المصرية جزءا كبيرا من مسؤولية الاستغلال السيء للحرب على غزة، مع أن لديها أدوات تمكنها من ضبط إيقاع السوق، لكنها تتراخى في المواجهة بدعوى أن الشارع اختار هذه الوضعية عندما قاطع منتجات بعينها، ووضع أخرى في قائمة أولوياته حتى غابت المنافسة بين المنتجات بما انعكس على أسعارها.

ولم تنعكس الصرامة التي أبدتها الحكومة وأقالت بموجبها رئيس جهاز حماية المستهلك بصورة إيجابية على أسعار المنتجات المحلية، وأصبحت هناك دوائر رسمية متهمة بالتواطؤ مع شركات وتجار لأنها تعرف جيدا تكلفة المنتج المحلي.

وأوضح خبير الاقتصاد السياسي كريم العمدة لـ“العرب” أن ارتفاع أسعار بعض السلع ذات المكون المحلي يشير إلى عدم قدرة الحكومة على فرملة التجار، ومن الواجب التعامل بحزم مع المشكلات التي تواجه الاقتصاد وتترتب عليها آثار سلبية على المواطنين، ويجب أن يشعر الناس بعدم استغلال دعمهم لفلسطين بشكل سيء.

وذكر أن مشكلة الحكومة تكمن في أنها بطيئة في التعاطي مع الأزمات التي تلامس احتياجات الناس، ولا تتدخل سريعا للحد من خطورتها، وتمضي على وتيرة تجلب نتائج قاتمة لجميع الأطراف، مثل الشركات والمواطنين والحكومة نفسها، فعدم التدخل في توقيت مناسب يغذي الأزمة ويوجد صعوبة في الحد من علاجها بشكل واقعي.

منافسة حقيقية

◙ البضاعة الأجنبية في رفوفها
البضاعة الأجنبية في رفوفها

هناك حالة من فقدان الأمل على مستوى الجمهور في إمكانية عودة المنتج المحلي ليكون منافسا قويا لنظيره الأجنبي، طالما أن الحكومة باتت عاجزة عن استثمار الحالة الشعبية المحتشدة لدعم الاقتصاد والصناعات المحلية، مع أن الحكمة تقتضي تشجيع الاعتماد على السلع المحلية في ظل شح العملات الأجنبية.

لا تنوي نادية محمد، وهي ربة أسرة من خمسة أفراد، استبدال المنتج المحلي بالأجنبي مستقبلا، قائلة “هناك حاجز نفسي يصعب تحطيمه بين الكثير من المواطنين والسلع المستوردة، فقد يصل الأمر حد مقاطعة سلعة محلية كعقاب لجهة تصنيعها على انفلات سعرها، لكن العودة مجددا لشراء أخرى مستوردة سوف يكون صعبا للغاية”.

وأكدت الأم لـ“العرب” أن المواطن المصري البسيط يعيش بين خيارين بالغي الصعوبة، فالكثير من الشركات الأجنبية تقدم خصومات كبيرة على منتجاتها لحث الناس على الشراء، في حين تبالغ نظيراتها المحلية في الأسعار، وقد يضعف البعض ويعود للتعامل مع المنتج المستورد الذي له بديل محلي، وهي مشكلة تتحملها الحكومة.

◙ منتجات المياه الغازية المحلية ارتفعت بنسبة وصلت إلى 30 في المئة منذ زيادة حملات المقاطعة للبضائع الأجنبية

يمثل توفير جنيه واحد بالنسبة لبسطاء مصر في كل سلعة مسألة مهمة في طريق عبور الأزمة المعيشية التي تضرب شريحة كبيرة من المواطنين، لكن تظل الأجهزة الرقابية تعاني من بطء التدخل وعليها أن تشعر الناس بتدخلها لحمايتهم.

ويتوقع متابعون أن تصبح موجة الزيادات في الأسعار بالنسبة للسلع محلية الصنع أكبر ما لم تكن هناك رؤية رسمية للاستفادة من الوضعية الراهنة، فالحكومة ليست لديها وفرة من العملات الأجنبية للاستيراد، وتعج السوق المحلية بمنتجات بحاجة إلى من يروج لها، والمواطن يبحث عن سلعة محلية بسعر معقول وتجب حمايته من جشع التجار.

باتت بعض الأصوات تطالب بوقفة شعبية ضد المنتجات المحلية التي بالغت في تقدير أسعارها، وإذا تطلب الموقف مقاطعة بعضها أسوة بما حدث مع السلع المستوردة، طالما هناك تقصير حكومي في الرقابة على الأسواق وارتفاع الغلاء إلى مستويات قياسية، لأن الناس أصبحت خياراتهم محدودة للغاية في مواجهة الأزمة.

وبغض النظر عن الخطوة التي يمكن أن يلجأ إليها المصريون لمعاقبة الشركات المحلية التي بالغت في المكاسب، فأزمة الغلاء مرشحة للتصاعد أمام حالة الغليان الواضحة في صفوف المواطنين، لأن مقاطعة السلع الأجنبية لم تأت بنتائج إيجابية، فلا دعم المحلي جلب لهم مكاسب ولا الحكومة تملك نية للتدخل بصرامة.

16