هل تتكرر تجربة بن فليس مع العرباوي بعد 20 عاما

استهلك الرئيس عبدالمجيد تبون، منذ انتخابه رئيسا للبلاد ثلاث حكومات ولا يستبعد أن تكون هناك حكومة رابعة، إذا سارت السلطة بمنطق تهيئة الأجواء الحيادية للانتخابات الرئاسية، وضمان عدم انحياز الجهاز التنفيذي والمؤسسات العمومية لصالحها، لكن اللافت أن الحكومات الثلاث الأولى باستثناء الوجوه التي تداولت على المناصب الوزارية وعلى منصب رئيس الوزراء، فإنه لا شيء يوحي بالتغيير أو الاختلاف في إدارة الشأن العام.
ومنذ الانقلاب على النمط السياسي البرلماني الذي سنه دستور العام 1989، من طرف الرؤساء الذين تعاقبوا على قصر المرادية، فإن الرئيسين الأخيرين (بوتفليقة وتبون)، فصلا دستور البلاد على مقاسهما وحولا النظام المذكور إلى نمط رئاسي في المهام والصلاحيات، لكن دون الحساب والمساءلة، فرغم قضائه لعقدين كاملين على رأس الدولة، لم ينزل الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة يوما إلى قبة البرلمان، للرد على تساؤلات النواب أو الدفاع عن برنامجه السياسي، ولا شيء في الأفق يوحي بأن تبون سيشذ عن قاعدة سلفه.
معلقون على شبكات التواصل الاجتماعي قالوا "بن عبدالعزيز جراد وأيمن عبدالرحمن وعدا بالإقلاع الاقتصادي، لكن الرجلين أُقلعا ولم يقلع الاقتصاد الجزائري"
لا شيء يوحي بأن تغييرا قد حصل أو سيحصل في الجهاز والأداء الحكوميين، سواء بخلافة أيمن بن عبدالرحمن لعبدالعزيز جراد، أو نذير العرباوي لأيمن بن عبدالرحمن، فنفس البرنامج والتعهدات التي قطعها الرجل على نفسه أمام أنصاره ومريديه في حملة العام 2019، يتداول الوزراء ورؤساء الوزراء على تنفيذها، لكن الرئيس نفسه لم يجد ما يدشنه خلال جولاته الداخلية النادرة، ما عدا بعض المشروعات الموروثة عن الرئيس الراحل، أو أخرى تعد على الأصابع.
صحيح أن الرئيس تبون كان حظه سيئا في بداية مشواره بقصر المرادية، فقد استنفدت كورونا والوعكة الصحية التي ألمت به لعدة أشهر، وقتا ثمينا من عمر عهدته الرئاسية، لكن خياراته تبقى غير موفقة إلى حد الآن في تفكيك خيوط الأزمة المتشابكة، فإذا اعتقد أن المسألة تتعلق بزيادات في الرواتب والمنح والتحويلات الاجتماعية ومنحة للعاطلين عن العمل، فإن الأمر في نهاية المطاف سيكون عبارة عن توفير غذاء للتضخم وارتفاع الأسعار، ما دام الاستثمار الحكومي بالشكل الذي يخلق مناصب الشغل والقيمة المضافة غائبا.
الآن أربع سنوات مرت من عهدة الرجل ولم يبق في الرصيد إلا مسافة قصيرة، قد تكون لصالحه كما يمكن أن تكون لغير صالحه، فمهما كانت يد السلطة الفعلية طويلة في صناعة رئيس العام 2024، فإن الحاجة إلى الزخم الشعبي وإلى أصوات الصندوق تبقى ورقة مهمة في استدراك ما ضاع من شرعية شعبية، ولذلك لا مفر من تفعيل الجبهة التنموية والتفرغ للانشغالات المتراكمة، لاسيما وأن الخزينة العمومية فيها ما يكفي لتغيير وجه البلاد من المال.
لكن من يدري، في ظل هذه التأويلات المتضاربة حول تغيير رئيس الوزراء دون الوزراء، ومن يضمن لتبون، أن يكون العرباوي هو ذراعه التنفيذية التي تحرك مفاصل الاقتصاد والتنمية لاستمالة الجزائريين، وألا يكون ذراعا لنفسه في عرض خدماته على الشارع والاحتكاك بالسكان الناقمين، تمهيدا لتجريب حظوظه في الاستحقاق المذكور، إذا صحت تلك التأويلات وتكررت تجربة بوتفليقة مع علي بن فليس العام 2004، في 2024.
في مطلع الألفية، تحول رجل الثقة والشخصية المقربة علي بن فليس، إلى منافس شرس للرئيس بوتفليقة، في انتخابات 2004، والآن تلوك بعض الألسنة في غياب الشفافية والاتصال المؤسساتي، أن رئيس الوزراء نذير العرباوي هو منافس تبون في استحقاق العام القادم، إن لم يكن بديله كمرشح للسلطة، وأن ترقيته المفاجئة قد تمت بإيعاز من الدوائر التي لا تريد للرجل أن يستمر في قصر المرادية.
لا شيء يوحي بأن تغييرا قد حصل أو سيحصل في الجهاز والأداء الحكوميين، فنفس البرنامج والتعهدات التي قطعها الرجل على نفسه أمام أنصاره، يتداول الوزراء ورؤساء الوزراء على تنفيذها
هؤلاء يطرحون سيناريو مشابها لما جرى بين بوتفليقة ومدير ديوانه ورئيس حكومته بن فليس، وبين ما يمكن أن يجري بين تبون ومدير ديوانه ثم رئيس وزرائه العرباوي، فالأول دعمه آنذاك العسكر بقوة، لكن ذكاء بوتفليقة وتمدده الأفقي والعمودي بما في ذلك جهاز الاستخبارات الذي كان منفصلا عن قيادة الأركان، مكنه من إزاحة خصمه عبر الصندوق وعبر آليات قطع الطريق على أي تجربة مماثلة في المستقبل، والثاني يتردد أنه الرهان المناسب لأصحاب صلاحية صناعة الرؤساء في الجزائر، ليكون حصانهم في سباق نهاية العام القادم.
في وقت سابق كانت السلطة بقيادة الرئيس الراحل بوتفليقة، تفتعل الأزمات ولما تشتد وتبلغ ذروتها، يظهر الرجل في ثوب البطل المخلص و“حبيب الجماهير”، فيضحي ببعض الرؤوس من أجل أن يكسب تعاطف وتأييد الشارع. لكن الآن كل شيء يمر عبر مجلس الوزراء، حتى ولو كان بسيطا ويمكن تنفيذه في أبسط مستوى، وهو ما أعطى الانطباع، بل أكد أن كل القرارات تتخذ من طرف الرجل الأول في الدولة، ولذلك فإن الغضب المعزول على مكب نفايات في أقصى بلدة يحمّل له، وحتى أزمات الندرة والغلاء التي ارتبطت بوزير تجارته السابق كمال رزيق، أوصلت به على اعتبار أنه الآمر الناهي في مجلس الوزراء الذي ينعقد كل أسبوعين.
الرئيس تبون، خلال حملته الدعائية عام 2019، قدم لأنصاره 54 تعهدا خلال عهدته الانتخابية، ويقول عنها الآن إنّ ثلثيها قد تجسد، لكن إذا طرح الأمر على معطوبي ومشطوبي الجيش، وقطار العاصمة – تمنراست، والإقلاع الاقتصادي.. وغيرها، هي ملفات ذات امتداد شعبي، وستحجب الرؤية عما تحقق حتى ولو كان رفاها يمشي على الأرض.
معلقون على شبكات التواصل الاجتماعي قالوا “بن عبدالعزيز جراد وأيمن عبدالرحمن وعدا بالإقلاع الاقتصادي، لكن الرجلين أُقلعا ولم يقلع الاقتصاد الجزائري”، فأي خاتم سيحمل لاعب كرة يد سابق ومحام ودبلوماسي، من أجل تحريك مفاصل الاقتصاد والتنمية، سواء للذي يبدو أنه اختاره للمهمة، أو حتى للذين يريدونه حصانا أسود.