"الباب" حكاية غرائبية لثلاثة أشخاص ينتظرون أمام بيت مجهول

عرض مسرحي سوري يتحدى الخوف بالأمل.
الأحد 2023/11/12
الباب مسافة روحية بين عالمين

يلعب الفن المسرحي بقوة على استنطاق الدلالات وإنشاء الرموز التي تعطي للمتفرج فرصة للتفكير والخيال والحلم، وهو بذلك يتقاطع مع الشعر في كونهما فنّين لا يسعيان إلى قول كل شيء بل خلق مساحات للحلم والتفكير، فعلان متناقضان في الظاهر لكنهما يتماشيان في مسار واحد هو الإنسان. وإيمانا بقدر المسرح على فتح آفاق للتفكير جاءت المسرحية السورية “الباب” لتقدم أجواء غريبة تدفع كل متفرج إلى فضاء فكري خاص.

ماذا يكون بعد الباب، هل ثمة شيء مختلف، هل سيكون المختلف جيدا أم سيئا؟ الباب مفهوم مادي وروحي يحمل دائما فرصة لخطوة تالية. ولو أراد الإنسان معرفة ما خلفه عليه ألا يخشى من دخوله. “الباب” عرض مسرحي يقدم في دمشق طارحا افتراضات روحية عما يمكن أن يكونه هذا العنصر الهام.

الباب فيزيائيا هو حاجز مادي بين منطقتين، تنتهي عنده مسافة معينة لتبدأ مسافة أخرى تقود الإنسان إلى مساحة جديدة وتفاصيل مختلفة. لكن للباب كذلك مساحة في الروح والنفس، فهو مساحة روحية تفصل بين عالمين. قد يكون الباب ممهدا للأمل أو طوق نجاة في محنة وظرف قاس يعيشه إنسان ما، وقد يكون بداية طريق في مشوار حلم. وكثيرا ما تلوك ألسنة العامة مصطلح باب الأمل، وتتعامل مع هذه الفكرة بكونها أحد مكونات العقل الجمعي لهم.

البيت الغريب

مسرحية "الباب" نشاهد من خلالها حكاية عن عدة أشخاص التقوا صدفة على باب بيت في منطقة نائية
مسرحية "الباب" نشاهد من خلالها حكاية عن عدة أشخاص التقوا صدفة على باب بيت في منطقة نائية

عديدة هي الحالات التي قدمت فكرة الباب في الأدب. غسان كنفاني الأديب الفلسطيني الشهير قدمها قبل ما يزيد عن الخمسين عاما في عمل مسرحي يحمل روحا ملحمية حكى فيه في بعد تاريخي عربي قديم عن العلاقة بين الناس والآلهة. كذلك قدمته السينما الروسية في فيلم روائي قصير منذ عشرات السنين وحصد الكثير من المتابعة، وكان يتحدث عن التغيرات الكبرى التي عاشها المجتمع الروسي بعد الحقبة السوفياتية، ومجددا تقدم فكرة الباب إبداعيا في عرض مسرحي في دمشق حمل توقيع ياسر الحسين كاتبا وغسان الدبس مخرجا.

 مسرحية “الباب” تقدمها مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة السورية على مسرح القباني بدمشق. تكمن فيها حكاية عن عدة أشخاص التقوا صدفة على باب بيت في منطقة نائية، يبدو البيت غريبا مثل صاحبه الذي لا يظهر. عند الباب الشاب علي إبراهيم يريد إيصال رسالة من رئيسه في العمل لصاحب البيت وشاب آخر مجد مغامس يعتبر نفسه صديقا لصاحب البيت دعاه إلى العشاء وينتظر حتى يسمح له بالدخول، أما الشخص الثالث فهو فتاة (رغد سليم) تريد أن تطلب من صاحب البيت مساعدة في تخطي ظروف حياتها الاجتماعية القاهرة.

 

 يلتقي الثلاثة عند الباب، ولم يتمكنوا من الدخول إلى ما هو أبعد منه، لأن سمسارا (حاتم أتمت) يخرج من البيت كل حين ويطلق مزايدة مالية على شراء الباب الذي يحمّله ما لا يحتمل من مزايا وصفات، ليدخل المشتري مع السمسار إلى داخل البيت ويختفيان معا. يختفي الشاري الأول كما تقول أحداث الحكاية والثاني، ومجددا يطل السمسار ليقدم مزايدة أخرى، والأشخاص الثلاثة خارجا في الانتظار.

يصيب الخوف قلوب المنتظرين جميعا، لا شك أن ثمة أمرا غريبا مريبا يدور في الداخل، لماذا لا يخرج صاحب البيت؟ وأين جرس الباب؟ ومن هذا السمسار؟ ولماذا لا يخرج من يشتري الباب؟ وما هي طبيعة الأصوات التي نسمعها في الداخل؟ أسئلة تكون أرضية ينشأ عليها حوار ما بين هؤلاء الثلاثة، فمنها يتعرفون على أسمائهم وبعضا من ذكرياتهم وربما مخاوفهم.

المغامرة وعبور الباب
المغامرة وعبور الباب

شخصيات مأزومة

لكل من الأشخاص الثلاثة المنتظرين عالمه الخاص، الذي كونه ويحيط به، فالشاب الذي يريد إيصال الرسالة يعاني من ضعف شديد في شخصيته، ليس تجاه رئيسه في العمل فحسب، بل تجاه زوجته، فهو يخشى ألا يوصل الرسالة فيفقد عمله الذي يعتاش منه وبالتالي سيقوم بالانتظار مهما طال الزمن، كذلك يعاني من ضعف تجاه زوجته التي خسرت بسببه جزءا من مالها فغضبت منه وتهدده بالسجن لامتلاكها سندات مالية ضده.

أما الشاب الصديق لصاحب البيت فيعاني من تحجيم الناس له بصفة العبيط الأبله الذي يسليهم في جلساتهم دون أن يكون لديهم أي اهتمام بما يحمله من مواهب وإمكانات أخرى، وهو يحاول جاهدا أن يخرج من عباءة العبيط التي تكونت عنه.

 أما الفتاة الشابة المنتظرة، فهي تعيش حالة تعذيب ضمير داخلي تعيشها. فهي فتاة واجهت الظروف القاسية للحياة مبكرا، فمات والدها وقد ترك لها عددا من الإخوة والأم المريضة وكثيرا من الديون، الأمر الذي جعلها فريسة لرئيسها في العمل لاستغلالها جسديا، وتاهت بين منعطفات ذلك المسار. بين رئيسها ورجال آخرين.

حلم وخوف

مسارات ثلاثة يقف أصحابها على أعتاب حلم يريدونه أفضل فيما لو اجتازوا الباب لكن الخوف والرهبة يمنعانهم

مسارات ثلاثة يقف أصحابها على أعتاب حلم، يريدونه أفضل فيما لو اجتازوا هذا الباب، لكن تفاصيل ما حدث حملت إليهم الرهبة والخوف، وتبدأ عاصفة الأسئلة والمخاوف في أذهانهم بالتكاثر، وهم يتساءلون عن حقيقة ما يجري. في لحظة تحدّ يرى الشاب الصديق أنه يجب اقتحام البيت لمعرفة ما يجري وراء الباب، لكن الموظف والفتاة يرفضان المقترح، وفي تحد جديد لنفس الشاب، يفاجئهما ويقرر شراء الباب من السمسار في إطلالة جديدة له، يرحب السمسار به ويطلب منه الدخول حتى دون أن يدفع المال، يدخل الشاب فعلا، يودع صاحبيه ويدخل ويعدهما بأن يعود قريبا ويخبرهما بما يجري داخلا، ويتابع ليواجه نفس المصير، فلا يعود هو ولا السمسار ولا صاحب البيت.

في مرحلة نقاش حار يدور بين الثلاثة حوارات تحمل دلالات عميقة تخص أبعادا إنسانية، تدل على رمزية الباب وكونه حاجزا من الخوف والمجهول. فلو أردنا الوصول إلى النجاة فلا بد من تجاوز هذا القلق والخوف. وفي ظهور جديد للسمسار يتحدى الموظف حسونة والفتاة ذلك الخوف والقلق ويقرران المضي في التجربة حتى نهايتها فيدخلان عبر الباب إلى داخل البيت بانتظار ما سيكون.

أجواء غرائبية

لكل من الأشخاص الثلاثة المنتظرين عالمه الخاص
لكل من الأشخاص الثلاثة المنتظرين عالمه الخاص

حمل العرض أجواء غرائبية، تبدأ من فرضية وجود هكذا حدث حياتي أصلا، مرورا بشخصية السمسار الذي يقدم سلسلة من المزايدات المالية التي تخص باب بيت وليس البيت كله، إضافة إلى شخصية صاحب البيت الذي بقي غامضا لم نعرف عنه أي ملمح. هذه التفاصيل حملت روحا تشويقية في العرض، جعلت الجمهور متلهفا لمعرفة ما ستؤول إليه الأحداث.

 ديكور العرض لإياد ديوب أوجد الحيز الأكبر للباب وكان موفقا في إيجاد حالة من الغرائبية، تماهت مع فكرة العمل كله، فهو ليس كأي باب، بل يحمل بعضا من الاختلاف ويشي بأن ثمة شيئا مختلفا وراءه، الأمر الذي غاب في الجانب الموسيقي فكانت عادية لا تحمل معنى التميز.

وغسان الدبس مسرحي سوري يحمل هاجسا خاصا في المسرح وعلى الأخص الموجه للطفل. قدم العديد من الأعمال، من أهمها مسرحية “دو ري مي” وهي من تأليف جوان جان والتي حققت شهرة في حينه. كما قدم مسرحيات مع العديد من مخرجي المسرح في سوريا، كان أحدثها “ديستوبيا” مع المخرج مأمون الخطيب، قدم فيها شخصية القشاش، الرجل الذي يكون رمز الفساد والذي يحمل لبعض الناس الذين يعيشون في مكب للقمامة مستقبلا قاسيا.

يرى غسان الدبس في مقارباته الفنية بأن المسرح “هاجس يسكن الإنسان منذ أن يكون طفلا، والمسرح يقدم مفاهيم إنسانية عميقة للإنسان في كل تفاصيل حياته وأحلامه وبالمسرح يمكن أن نكسر الخوف والقلق الذي يمكن أن يكون عليهما”.

11