الفكر الثقافي التشاؤمي القديم يشكل نظرتنا إلى أنفسنا بشكل خاطئ

المُؤرخ الأميركي آرثر هيرمان: الفرد الحر المستقل أسوأ أعداء المتشائم الثقافي.
الخميس 2023/11/09
في العصر الحديث الناس دائما موجودون في الموضع الخطأ

بعض الناس يتحدثون عن اضمحلال الحضارة، والبعض الآخر يعيشونه، وهناك آخرون يواجهون ذلك بحتميات مستقبلية، وكل هذه التوجهات هي في النهاية بعيدة عن الواقع، ومجرد توجهات نظرية لا يمكنها بأي حال كشف مستقبل المجتمعات البشرية والأفراد. هذا ما يحلله بدقة الكاتب والمؤرخ الأميركي آرثر هيرمان.

يتناول كتاب “فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي” للكاتب والمؤرخ ومنسق برنامج الحضارة الغربية في مؤسسة “سميثسونيان” آرثر هيرمان، أصول وانتشار فكرة ثقافية قديمة هي فكرة “اضمحلال الغرب”. حيث نتابع كيف شكلت هذه الفكرة الأساس المظلم للفكر الأوروبي الحديث في القرن التاسع عشر، وكيف أصبحت، تقريبا، الموضوع الأكثر سيادة وتأثيرا في الثقافة والسياسة في القرن العشرين.

يتفحص هيرمان هذه الفكرة التي تؤثر على حياة الناس بصورة غير متوقعة ومروّعة ببعض تفاصيلها، كاشفا أنها ليست منبتّة الصلة بفكرة الحضارة ذاتها، كونها مكونة من فكرتين قديمتين مائزتين، ففي مقابل كل مثقف غربي يخشی اضمحلال مجتمعه مثل هنري آدمز، أو أرنولد توينبي، أو بول کیندي، أو تشارلز موراي، هناك مثقف آخر يتطلع إلى ذلك بلهفة وفرح.

التشاؤمية الثقافية

آرثر هيرمان: بديل التشاؤمية الثقافية عن مستقبل المجتمع ليس الرضا المتفائل
آرثر هيرمان: بديل التشاؤمية الثقافية عن مستقبل المجتمع ليس الرضا المتفائل

يرى هيرمان في كتابه، الذي ترجمه طلعت الشايب وقدم له الأكاديمي رمضان بسطاويسي، أنه وعلى مدى عقود ثلاثة كان المفكرون والنقاد الأميركيون المبرزون، من نورمان مایلر وجور فيدال وتوماس بنشون وکریستوفر لاش وجوناثان كوزول وجاري ويلز، إلى جوزيف كامبل وجوان ديديون وسوزان سونتاج وجوناثان شل ونعوم تشومسکي ومیشیل هارنجتون وغيرهم، وذلك طبعا إلى جانب کورنل وست وألبرت جور ومفجر القنبلة المجهول، يقدمون صورة للمجتمع الأميركي أكثر رعبا مما قدمه أيّ متشائم؛ مثل تشارلز موراي أو کیفین فیلیبس. أما كنقد للمجتمع الصناعي الغربي، فذلك يعود إلى القرن التاسع عشر.

ومن وجهة النظر هذه، يبدو المجتمع الحديث مادیا بشراهة، مفلسا من الناحية الروحية، ومجردا من القيم الإنسانية. ففي العصر الحديث، الناس دائما موجودون في الموضع الخطأ، لا جذور لهم، نفوسهم مليئة بالندوب، منعزلون عن بعضهم، أو كما قال مفجر القنبلة “محبطون”.

ويوضح “الآن لا يصبح السؤال الرئيسي المنتصب أمامنا هو ‘هل بالإمكان إنقاذ الحضارة الغربية؟‘ ولكن السؤال هو ‘هل تستحق الإنقاذ أم لا؟‘ وسوف نُطلِق على هذه النظرة القاتمة، والأكثر رادیكالية ‘التشاؤمية الثقافية‘، هذه التشاؤمية الثقافية تجسد رؤيا خاصة للتاريخ الحديث متمثلة عنوان الكتاب العمدة لأوزوالد شبنجلر ‘أُفُول الغرب’؛ فالمتشائم الثقافي يدّعي أن العالم الحديث والإنسان الحديث مأسوران في فخ عملية اضمحلال وتدهور وسقوط حتمي، والتشاؤمية الثقافية تعتمد إلى حد كبير على فلسفة فردريك نيتشة، وإدانته الشديدة للمجتمع الأوروبي في أيامه، ووصفه بأنه مریض، ومتفسخ”.

ويلفت إلى أنه في سنة 1889 کتب نيتشة “هناك عنصر تآكل في كل شيء يميز الإنسان الحديث”. والواقع أن هناك خطا مباشرا للسقوط ممتدا من نيتشة وتلاميذه مارتن هيدجر وهربرت مارکیوز، وصولا إلى مفجر القنبلة المجهول وما بعده، خط هبوط، هو الذي أفرز الرؤية المفردة للغرب الحديث، والتي لخصها هربرت مارکیوز في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد”، “نوع من الحرية المريحة، الناعمة، المعقولة، الديمقراطية، يسود في الحضارة الصناعية المتقدمة، علامة مميزة على التقدم التكنولوجي”.

أما قضية المستقبل الملحة أمام المتشائم الثقافي فليست هي بقاء الحضارة الغربية أو زوالها، أن ما يشغله هو “ماذا سيحل محلها؟” التشاؤمية الثقافية في مضمونها الأوروبي الأصلي، تتقاطع عبر المنظور السياسي والأيديولوجي. مارکیوز کان مارکسیا، هيدجر اتجه نحو هتلر في حماس شدید، نيتشة احتقر كل الشعارات السياسية التقليدية. فالتشاؤمية الثقافية هجوم على الثقافة الغربية الحديثة التي تسبق وتتخطى التقيد والالتزام بأيّ عقيدة ماركسية أو اشتراكية.

ويلفت إلى أنه إذا كانت الأصوات القيادية في الجوقة المعادية للحداثة في أميركا اليوم تنطلق من ناحية اليسار، فإن أشخاصا مثل ت. س. إليوت ووليم فوكنر وإيفيلين وووكر بیرسي ومالكولم ماجردج وألكساندر سولجنتسین وتوماس مولنر “قد استطاعوا أن يحافظوا على اللازمة المتكررة في أغنية اليمين كذلك. وبصرف النظر عن الموطن والحِقْبة والالتزام السياسي، فإن أولئك المؤلفين يشتركون في الرؤيا ذاتها: الحضارة الرأسمالية البرجوازية في أيامهم، سواء في سنة 1864، أو 1886، أو 1946، أو 1996، مصيرها الدمار الذاتي. فالرأسمالية ليست مجرد نظام مؤلم أو صعب بالنسبة إلى أولئك المحرومين من مزاياها، أو قادرة على إحداث التدمير المادي الشامل، أو نزاعة إلى تفجّرات من الغباء والسوقية أو غافلة عن “المثل العليا” وتقاليدها الروحية الخاصة.

المؤمن بالأفكار الإنسانية الليبرالية يدرك أن المجتمع المدني، مثل كل المؤسسات الإنسانية الأخرى، قد شيد عمدا للوفاء بأغراض معينة،

ويشدد هيرمان على أن التشاؤمية الثقافية ترى ـ وبإصرار أكيد ـ أن المسار الطبيعي للمجتمع المدني على النموذج الغربي، كمجتمع رأسمالي أو تجاري قائم على مبادئ عقلانية أو علمية ومؤسسات سياسية ديمقراطية، واتجاهات ثقافية واجتماعية حديثة واعية بنفسها. ينتظر رؤياه النبوئية العلمانية الخاصة: الفناء. سُحُب النهاية الحتمية تلوح على أفق منتوجاته وإنجازاته: وكما کتب أوزوالد شبنجلر “لقد استسلمنا، وارتضينا حياة ضائعة”. فالإنسان الحديث يعيش حياة تنزلق عميقا في مستنقع الكآبة، إلى أن يقوم نظامٌ افتدائي جديد تماما، يخلصه من ذلك. هذا الفكر الثقافي التشاؤمي القديم هو الذي شكل نظرتنا إلى أنفسنا وإلى مجتمعنا بوسائل نادرا ما نُدركها: أفكار مفجر القنبلة المجهول، ثوار العالم الثالث الماركسيون، علماء الدراسات الأفريقية، نائب الرئيس آل جور السلام الأخضر، روبرت بلاي، مادونا، كل أولئك يعكسون الافتراضاتِ الرئيسية للتشاؤمية الثقافية وإن اختلفت الوسائل.

ويؤكد هيرمان أنه بداية من الهوس الحالي بأسئلة الهوية، والتنوع، إلى المحللين النفسيين المحدثين وما يُسمى ﺑ«مجتمع التداوي»، منحتنا التشاؤمية الثقافية رؤية غنية وثاقبة عن الحداثة والتغيير، ولكنها رؤية معقدة ومحددة بذاتها. على أن القارئ سوف يكتشف أن هناك تناقضا واضحا في قلب تلك الفكرة القديمة، فهي، من جانب، تنطوي على رسالة جادة عن الكآبة والهلاك: المجتمع الحديث يدمر نفسه على نحوٍ منظم.

فهذا المكون الأساسي للاضمحلال له ممارسوه اليائسون؛ مثل جاكوب بوركهارت، وهنري آدمز، وأرنولد توينبي، ولكن التشاؤمية الثقافية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وعلى العكس، تحتوي على رسالة أمل. والمتشائم الثقافي يؤكد لنا مثل زملائه الماركسيين أن مجتمعنا الحديث الفاسد عندما يفرغ من تدمير نفسه ويختفي، سوف يحل محله شيءٌ آخر أفضل منه. إلا أن النظام الجديد لن يكون اقتصاديا أو سياسيا بالأساس، ولكنه بدلا من ذلك سوف يتضمن هدم الثقافة الغربية في مجموعها الكلي. هذا النظام الجديد قد يأخذ شكل اليوتوبيا البيئية التي كان يحلم بها مفجر القنبلة المجهول.

وقد يكون الإنسان الأعلى عند نيتشة، أو الاشتراكية القومية الآرية عند هتلر، أو تلك الوحدة اليوتوبية بين التكنولوجيا والإيروس عند مارکیوز، أو الفلاحون الثوريون عند فرانز فانون. وقد يكون حاملوه هم أصدقاء الأرض عند “أنصار البيئة”، أو “الملونون” عند القائلين بالتعددية الثقافية، أو “الأمازونيون الجدد” عند الحركة النسوية الثورية، أو “البشر الجدد” عند روبرت بلاي. الشكل المحدد لذلك النظام المستقبلي سوف يتنوع بتنوع الأذواق، إلا أن ميزته الأهم ستكون طبيعته اللاغربية. بل ربما المعادية للغرب، فما يهم المتشائم الثقافي في النهاية ليس ما سيتم صنعه، بل بالأحرى ما سوف يتم تدميره. وبالتحديد مجتمعنا الحديث “المريض”.

ويتابع هيرمان “بالنسبة إلى المتشائم الثقافي إذن، فإن الأخبار السيئة في حقيقة أمرها هي أخبار ‘طيبة’، فهو يحتفي بالكساد الاقتصادي والبطالة والحروب العالمية والصراعات والكوارث البيئية، ويفرح لذلك بشكل واضح؛ حيث يعتبرها كلها مؤشرات تُعجل بالدمار النهائي للحضارة الحديثة. ومثل أنبياء الإنجيل القدامى، يعرف أنبياء التشاؤم المحدثون أن الأمور كلما زادت سوءا ستُصبح أحسن. إن معظم الناس اليوم غيرُ واعين جيدا بهذا المكون السادي الافتدائي في فكرة التشاؤمية الثقافية، وبدلا من ذلك، فإن بذر اليأس والشك الذاتي قد أصبح عاما ومتغلغلا في حياتنا، لدرجة أننا أصبحنا نقبله كموقف ثقافي عادي.. حتى عندما يكون واقعنا متناقضا معه على نحوٍ مباشر”.

مستقبل المجتمع

التشاؤمية الثقافية هجوم على الثقافة الغربية الحديثة التي تسبق وتتخطى التقيد والالتزام بأي عقيدة ماركسية أو اشتراكية
التشاؤمية الثقافية هجوم على الثقافة الغربية الحديثة التي تسبق وتتخطى التقيد والالتزام بأي عقيدة ماركسية أو اشتراكية

يشدد الكاتب على أن فكرة الاضمحلال الحضاري ونشأة التشاؤمية الثقافية، من جوانب أخرى ـ وهذه مفارقة ساخرة ـ التفت ليكون هناك تاريخ لنوع آخر من الاضمحلال، اضمحلال الصورة الإنسانية الليبرالية للإنسان والمجتمع، لأخلاقياته وقِيمه في وجه خصومه المختلفين، والاضمحلال قد لا يكون أفضل مصطلح. قد تكون الاستعارة الأفضل تعبيرا عن انسحاب كبير؛ حيث يغادر المسرح الآن الممثلون الساطعون للتراث الغربي الليبرالي واحدا بعد الآخر، ليحل محلهم أنصارُ الإيوجينيا والعنصرية والتشاؤمية العرقية والفاشية والحداثة والتعددية الثقافية.

ويبيّن أن التراث القديم يتضمن ما هو أكثر من مجرد ثقة عمياء في التقدم وتفوق الحضارة الغربية على أيّ بديل آخر. المؤمن بالأفكار الإنسانية الليبرالية يدرك أن المجتمع المدني، مثل كل المؤسسات الإنسانية الأخرى، قد شيد عمدا للوفاء بأغراض معينة، وهي أغراض يحددها أفراد يعملون في انسجام. العرق والطبقة والنوع في الواقع لا تحدد وجهة المجتمع أو التاريخ، ولكنها تعمل على سطح الأشياء، القوى الحقيقية للتغير توجد في خيارتنا كأفراد، وفي الأفعال التي تنطلق منها ونتائجها بالنسبة إلى الآخرين. أبرز نتاج مميز للتراث الإنساني الغربي هو الفرد الحر المستقل، والذي هو أسوأ أعداء المتشائم الثقافي في الوقت نفسه.

ويعترف أن المتشائم الثقافي يواجه دائما متانة المؤسسات الغربية المتشظية (الرأسمالية، التكنولوجيا، السياسة الديمقراطية، القواعد الأساسية للقانون والأخلاق) بشعور بالإحباط. كيف يمكن لكيان ضخم مفرد، طاغية وصناعي ومحتال ومحكوم عليه بالسقوط، أن يواصل ازدهاره بل وربما يوسع نفوذه؟ إلا أن تلك المتانة والنزعة إلى الاستمرار ذات صلة وثيقة بالعامل الفردي الذي يقوم بدور مصدر القوة أكثر مما هو مصدر للضعف.

ويتابع هيرمان موضحا أن النزعة الإنسانية تفترض أن البشر الذين يُحدثون الصراعات والمشكلات في المجتمع قادرون على حلها، وهذه النزعة تركز على تزويدهم بالوسائل المادية والأخلاقية والثقافية التي تساعدهم على ذلك. وكما بين توكفيل ﻟجوبینو بعد أن قرأ مقاله عن اللامساواة “نعم! أحيانا يصيبني اليأس بخصوص الجنس البشري. ومن منا لا يشعر بذلك؟ لقد كنت أقول دائما إن من الصعب علينا أن نرسخ الليبرالية ونحافظ عليها في مجتمعاتنا الديمقراطية الجديدة، بل أصعب مما كان يمكن أن يحدث في مجتمعات أرستقراطية معينة في الماضي. ولكنني لن أجرؤ على الاعتقاد باستحالة ذلك. إنني أصلي لله لكي لا يُوحي إليّ بفكرة أن أتخلى عن ذلك”.

ويخلص هيرمان إلى إن كل الجدل حول “اضمحلال الغرب” يقدم لنا مجموعة زائفة من الخيارات. فبديل التشاؤمية الثقافية عن مستقبل المجتمع الإنساني ليس الرضا المتفائل، إنهما وجهان نقيضان للنظرة الكليانية نفسها. بديل التشاؤمية الثقافية ليس نوعا من الموجة الثالثة، ذلك التوجه الكبير، أو المغامرات المستقبلية الأخرى لكتاب مثل وارن واجار وألفن توفلر، النظرة الليبرالية الكلاسيكية برزت أصلا لأن دُعاتها قد أدركوا أخطار الإصرار على أن الأفراد لهم أهمية فقط عندما يكونون جزءا من كل أكبر.

في الأزمان السابقة، كان ذلك النموذج العضوي الكلياني هو “القيد الأكبر للوجود”، حيث وضعية الشخص معينة من الله والطبيعة، ومفروضة من السلطة السياسية. مفكرو التنوير تمردوا على هذا النمط من الحتمية التاريخية، جون لوك يُعرف هذا الوضع هكذا “أن يكون المرء تحت القرار الحتمي لشيء آخر غير الذات” ودون موافقته، فذلك نوع من الظلم.

إحدى النعم الكبرى لعملية التحضير ـ كما يقول التنوير ـ هي أنها ترفع البشر فوق وضعية الخنوع الذليل بجعلهم واعين بحقوقهم الفردية ومصالحهم وقواهم، إلى جانب كونهم متحررين من العواطف والمخاوف اللاعقلانية. العصور الوسطى أعطت تلك السلطة الرهيبة لتوجيه مصير الفرد لله ولممثليه على الأرض ـ الباباوات والملوك ـ القرن التاسع عشر أعطاها للتاريخ بدلا من ذلك، أعطاها له في المرة الأولى كتقدم ثم كاضمحلال، إلا أن التنوير حقيقة هو الذي طرح التساؤل الثوري: ماذا لو لم يكن المجتمع كيانا عضويا ذا مسار وعمر محددين سلفا، وكان مكوّنا من كيانات فردية لكل منها قوته وقدرته على تشكيل مصيره الخاص على أي نحو؟ مستقبل المجتمع إذن لن يكون من صنع قانون حتمي للتقدم أو الضعف، وإنما المستقبل هو ما يقرره أعضاؤه. وبضربة واحدة، تنكسر الثورة وتتبدد دورة الوهم واليأس لا في العالم أو في الخارج، وإنما حيث هي موجودة بالفعل في عقول البشر رجالا ونساء.

12