المخرج محمد كردفاني لـ"العرب": الفيلم جزء من ثورة الشعب السوداني

لم يكسر فيلم "وداعا جوليا" العزوف الحالي عن السينما جراء الحرب في غزة، فقط، بل كشف أن السينما السودانية قادرة على جذب الجمهور وأن الشباب المحب للفن السينمائي والمجتهد ينسج قصصا من الواقع السوداني قادرة على الإشعاع مصريا وعربيا وحتى دوليا، وأن مصر لا تزال وجهة عربية للفن تدعم كل حركات الإنتاج الجدية.
القاهرة - حقق الفيلم السوداني “وداعا جوليا” نجاحا جماهيريا في مصر بعد أيام قليلة على عرضه في أكثر من 30 دار عرض، ليكون الفيلم السوداني الأول الذي يتم عرضه على نطاق واسع في السينمات المصرية، وحصل الفيلم على إشادات تلقاها من عدد من السينمائيين المصريين والعديد من النقاد والمهتمين بالفن السينمائي.
واستفاد الفيلم من الحضور الواسع للجالية السودانية في مصر، والتي يصل عددها إلى نحو خمسة ملايين شخص، ما كان سببًا في عودة اصطفاف طوابير الجمهور أمام دور العرض التي استضافت العمل في ظل معدل إقبال منخفض على السينمات تأثرا بتطورات الحرب الدائرة على قطاع غزة، ما يشي بأن مصر يمكن أن تصبح سوقًا يمكن الاعتماد عليها لعرض الأفلام السودانية التي أخذت منحى تصاعديا مؤخرا من حيث العدد والجودة الفنية.
قال مخرج العمل ومؤلفه السوداني محمد كردفاني إنه يتملكه شعور مزدوج بين الحسرة على ما تعانيه بلاده من حرب طاحنة تسببت في نزوح مئات الآلاف من السودانيين إلى مصر، وبين فرحته لأن العمل جزء من السودانيين وبإمكانهم متابعته في بلد مؤهل لاستقبال الآلاف داخل دور العرض، وهناك الكثير من دور العرض ممتلئة على آخرها، وتكررت طوابير السودانيين والمصريين للبحث عن تذكرة.
وأضاف في تصريح لـ"العرب" أن الإقبال الجماهيري أكبر مما تخيل منتجو الفيلم، في حالة الاهتمام به من جانب الجمهور المصري الذي حرص على الحضور في العديد من الفعاليات التي جرى تنظيمها لمناقشة الفيلم وبرهنت على وجود تبادل ثقافي مهم، ومثلما اعتاد السودانيون على متابعة الأفلام المصرية فإن البعض من المصريين دشنوا ارتباطهم بالسينما السودانية من خلال "وداعا جوليا".
إقبال جماهيري
ونظمت سينما زاوية (مستقلة) بوسط القاهرة، السبت الماضي، ندوة لمناقشة العمل بحضور عدد من أبطاله بينهم المخرج محمد كردفاني والمنتجان أمجد أبوالعلاء ومحمد العمدة وبطلا الفيلم إيمان يوسف وهي ممثلة مسرحية ومغنية، والفنان السوداني المخضرم نزار جمعة.
وشارك في بطولة الفيلم أيضا عارضة الأزياء وملكة جمال جنوب السودان السابقة سيران رياك، وقير دويني الذي اختارته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين سفيرًا للنوايا الحسنة عن منطقة شرق أفريقيا، وتصوير بيير دي فيليرز ومونتاج هبة عثمان.
وتدور قصة الفيلم حول سيدتين تمثلان علاقة معقدة واختلافات بين مجتمع شمال السودان وجنوبه، إذ تدور الأحداث في الخرطوم قبل فترة قصيرة من انفصال جنوب السودان عام 2011، عن منى المغنية الشعبية السابقة من الطبقة المتوسطة العليا وتنحدر من شمال السودان، وتعيش مع زوجها أكرم، وتحاول التخفيف من شعورها بالذنب للتسبب في وفاة رجل جنوبي من خلال توظيف زوجته جوليا كخادمة في منزلها ومساعدتها سعيا للتطهر من الإحساس بالذنب.
وأشار كردفاني إلى أن الفيلم يتناول قضية انفصال الجنوب عن السودان من خلال قصة إنسانية تتمثل في شكل صداقة بين شخص شمالي وآخر جنوبي، ويناقش مشكلات ترتبت على مساعي فرض الهوية العربية الإسلامية على دولة تتسم باتساع الهويات وأشخاص غير مسلمين أو عرب، ما كان سبباً لتصبح العنصرية حاضرة مع تهميش قطاعات كبيرة من الناس، ومن أوجه ذلك استعلاء الشمال على الجنوب.
ولفت في حديثه لـ"العرب" إلى أن الفيلم يناقش كافة المشكلات التي تعرض لها السودانيون في فترة ما قبل انفصال الجنوب التي قادت إليه، من عدم عدالة، وعنصرية وقبلية ووجود نظام أبوي يسعى لفرض رؤيته وهيمنته على الجميع.
وحاز الفيلم على جائزة الحرية من مهرجان كان السينمائي الذي شهد عرضه العالمي الأول، كما وقع اختيار السودان عليه لتمثيله في الحفل الـ96 من جوائز الأوسكار للمنافسة على أفضل فيلم دولي عام 2024، وشارك الفيلم في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي، ومهرجان ملبورن السينمائي الدولي.
وأكد المخرج الشاب محمد كردفاني أن الفيلم واجه ظروفا صعبة في جميع مراحله، لأنه مع بدء الإعداد له في العام 2019 كان السودان يعاني أوضاعا صعبة عقب اندلاع ثورة أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير، ومع بدء مراحل التصوير وقع الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021 وكان هناك إصرار على تصويره، على الرغم من خروج احتجاجات شعبية، ووجود مشكلات تعرّض لها فريق العمل جراء انقطاع الكهرباء والإنترنت.
وتابع قائلا “في ذلك الحين واجهنا مشكلات إغلاق الطرق وإطلاق القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين، وكان التحرك صعبا للغاية مع التضييق الذي واجهه منتجو العمل من جانب الجهات الأمنية، لكن كان هناك إصرار على تصويره، ومع عرض الفيلم جاءت الحرب الأخيرة (بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع) التي أكملت سلسلة من الظروف السيئة المحيطة به".
نهضة سينمائية
يعتبر كردفاني أن الأحداث السياسية تقوّي من عزيمة منتجي العمل، كما أن الفيلم يعد جزءا من الثورة السودانية، ولا توجد مبررات لتأجيله، وأنه يرفض أيّ خطوات من شأنها تأجيل الفن أو إرجاؤه انعكاسا لأوضاع سياسية حرجة، وأن ما يتم تقديمه من إبداع قادر على أن يخفف من أوجاع الجمهور ويمنح الأمل في الغد، كما أن هناك قناعة بأن اليأس قادر على أن يقتل المدنيين الأبرياء إن لم يقتلهم الرصاص.
وتتماشى هذه الرؤية مع رسالة فيلم “وداعا جوليا” وجاءت النهاية لتنبذ كافة أشكال التعصب وتدعو إلى التسامح، وإن لم يسفر عن تصالح فقد استطاعت سيدتان متباعدتان على جميع المستويات التقارب والتصارح وامتلكتا القدرة على المواجهة.
وأوضح كردفاني لـ"العرب" أن السنوات الخمس الماضية كانت شاهدة على ما يمكن وصفه بأنها موجة فنية عبر تقديم عدد قليل من الأعمال جرى إعدادها بشكل جيد ونالت إعجاب الجمهور وحققت جوائز عربية ودولية، مشيرا إلى أن التطور ارتبط بقدرة المبدعين السودانيين على الانفتاح الخارجي والتعرف على أساليب الإنتاج الحديثة، وأضحى هناك تواصل بين الأفراد الذين أبدوا اهتماما بالإنتاج السينمائي وساهم ذلك في تعاونهم على تقديم أعمال جيدة.
ولفت إلى أن الأفلام السودانية التي جرى إنتاجها كانت بالتعاون مع صناديق ثقافية تقدم للتعبير عن الأفكار في شكل فني، وجاء بداية إنتاج “وداعا جوليا” من خلال عرض الفكرة بمهرجان الجونة المصري عام 2020، وحصل الفيلم على أول دعم من جمعية آفاق اللبنانية، وشارك في ورشة تطوير أثناء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السابقة، وفي النهاية حصل على دعم من خمس جهات مختلفة ساعدت في عملية تمويله، لافتًا إلى أن الأفلام السودانية بوجه عام تسلك هذا الطريق.
ويشارك في إنتاج الفيلم المخرج السوداني الشهير أمجد أبوالعلا ومعه محمد العمدة من خلال شركة الإنتاج السودانية "ستيشن فيلمز"، وتتولى شركة "ماد سولوشينس" المبيعات الدولية للفيلم، إلى جانب عدد من شركات الإنتاج الأجنبية بينها شركة "ريد ستار" المصرية و"دولسي فيتا فيلم" من فرنسا و"سيني ويفز" من السعودية.
وحاز الفيلم على جائزة روجر إيبرت في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، وجائزتين من مهرجان الحرب على الشاشة في فرنسا، وهما جائزة الجمهور وجائزة الصحافة، وحصد أيضًا 3 جوائز دولية في مهرجان "سينياست دو بايزاج" وهي جائزة لجنة تحكيم الصاعدين، وجائزة الجمهور، وجائزة لجنة تحكيم المرأة ، كما فاز بجائزة أفضل فيلم أفريقي في جوائز سبتيموس الدولية.
وقال الناقد الفني السوداني السر السيد إن السنوات الماضية كانت شاهدة على بوادر عديدة تشير إلى نهضة السينما في السودان، لكنها تبقى أفلاما بمواصفات محددة تتواءم مع ما تحصل عليه من دعم، وحققت هذه الأعمال نجاحات في بعض المهرجانات العربية والدولية، وهي ترتبط بصعود الكثير من القضايا التي تتناولها لتكون سائدة في النقاشات بين السودانيين.
وذكر في تصريح لـ"العرب" أن العلاقة مع مصر تشكل قيمة مضافة إلى السينما السودانية وخبرة المشاهدة التي تشكلت لدى المصريين، ومع ارتباطهم بدور العرض لمشاهدة أفلامهم توجد فرصة واعدة لنجاح الأفلام السودانية، لأن جيل الشباب الذي يأخذ على عاتقه تقديم الفن السوداني للعالم هم بالأساس لديهم تجارب مرتبطة بالمحيط العربي والمصري والأفريقي وعلى دراية بكيفية صناعة المتعة والمعرفة في آن واحد.
وشدد على أن سوق السينما في السودان بعيد عن عجلة الاقتصاد، والأفلام تمولها صناديق ثقافية، لكن تطور التجارب المعروضة يشير إلى أن مستقبل السينما في السودان إيجابي، خاصة أن إنتاج السينما لم يعد مرتبطا بالعرض والإنتاج المحلي.