"تحولات الثقافة في مصر" مخطط شامل لصناعة مواطن ووعي جديدين

صبحي موسى: يجب مزج مخططات ثروت عكاشة وفاروق حسني.
الجمعة 2023/10/27
يجب تقديم بديل للخطاب الديني

بقيت الثقافة في مصر على غرار العديد من البلدان العربية الأخرى رهينة توجهات السلطة، التي غالبا ما تعزل قطاع الثقافة عن قطاعات أخرى، فيفشل بالتالي في التوغل أكثر إلى أعماق المجتمع والمساهمة في خلق الوعي وتطوير المجتمعات من الداخل وتجديد أفكار الفرد. لذا يقترح الروائي والكاتب المصري صبحي موسى خطة شاملة في مواجهة هذا القصور.

يستعرض الكاتب والروائي صبحي موسى في كتابه “تحولات الثقافة في مصر” مسيرة الرؤى الثقافية في مصر وما حدث من تحولات، ويؤكد ضرورة وجود خطة ثقافية جديدة يمكنها التعامل مع العديد من المتغيرات التي حدثت في مصر والعالم العربي والعالم عموما. وتدارك ما لم تنشغل به الخطط الثقافية السابقة، وبشكل يضمن إعادة بناء المواطن المصري من جديد، وهو أمر لا يمكن العمل عليه من خلال وزارة واحدة فقط، إذ يلزمه عمل المجموعة الثقافية ككل، وهي مجموعة الوزارات المعنية بالوعي الثقافي.

ويرى موسى أنه يجب التعامل مع هذا التمشي من خلال كل المصادر التي تؤدي إلى تنمية وعي الإنسان وبناء تصوراته ومعارفه عن العالم، وفي العالم الحديث لا يمكن لمؤسسة واحدة، ولا جهاز ثقافي واحد، أن يتعامل مع كل مدخلات الوعي والفكر لدى الإنسان، لذا فلابد من حصر كل الأجهزة والمؤسسات المعنية بالشأن الثقافي ووضعها تحت مظلة أو قيادة واحدة، تكون مهمتها الملاحظة والتخطيط والتنفيذ والمتابعة، بما يسمح بإحكام التناغم والتناسق بين كافة الأجهزة المعنية.

الخطة الثقافية الشاملة

خطة شاملة في مواجهة هذا القصور
خطة شاملة في مواجهة هذا القصور

حول الدوافع والأهداف التي تفرض التفكير في خطة ثقافية جديدة، يقول موسى في كتابه، الصادر بالتعاون بين دار النسيم وبيت الحكمة، إن الدوافع تتعدد، وتلك الخطة لا يمكن القول إنها تنتمي إلى عصر الستينات وما عرف بخطة ثروت عكاشة، والتي نقل خلالها خبرات المدينة وثقافتها إلى الأقاليم عبر جهاز الثقافة الجماهيرية، إلا أن استخدام هذه الخدمة لصالح الإرشاد الثقافي، وجعل الوعي الثقافي العام يدور في فلك الدولة الجديدة ورؤيتها للحياة والعالم من حولها.

ويضيف “لا يمكن القول إنها مثيلة لخطة التسعينات والتي عرفت بخطة فاروق حسني، والتي قامت على المزيد من ثقافة الاستعراض، لكنها في حقيقتها لا تهدف إلا إلى جمع المثقفين من الشارع العام، وجعل فعالياتهم وأنشطتهم لأنفسهم، وكانت لهذه الخطة مضارها الكبرى على الثقافة المصرية، بداية من فصل العمل الثقافي عن الشارع العام، ومن ثم تهميش المثقف، ومن ثم فنحن في حاجة إلى خطة ثقافية جديدة تتوافق مع المعطيات والمتغيرات الراهنة على الصعيد المحلي والقومي والعالمي”.

يرى موسى أن مصر شهدت الكثير من التغيرات خلال العقد الأخير، بدءا من الإطاحة بنظام مبارك، ثم وصول الإخوان إلى سدة الحكم والإطاحة بهم، ثم مجيء الثلاثين من يونيو كي تؤسس لعهد جديد ووعي جديد يستهدف الانتقال من بقايا المرحلة الاشتراكية إلى الإيغال الكامل في المرحلة الرأسمالية، بما يتبع ذلك من رفع للدعم عن كافة الخدمات، وتأهيل المواطن للإيمان بقيمة العمل، كل هذه التغييرات لابد لها من تحول مواز في الخطاب الثقافي بشكل عام، كي يتم تأهيل المواطن لما يتوافق مع هذه التحولات، مما يستدعي التناغم بين كل الأجهزة العاملة على الشأن الثقافي وتقديم الدعم النفسي والروحي للإنسان المصري.

ويشدد على أنه دائما ما يتم إغفال الجانب النفسي في الخطط الثقافية، وكثيرا ما يترك الأمر لعشوائية التكيف الثقافي، إذ يترك المواطن لمعاجلة الضغوط الواقعة عليه من فرط التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لحلوله الخاصة.

ويوضح موسى أن من أبرز القضايا التي يجب الوقوف أمامها في الخطة الثقافية الجديدة، تجديد الخطاب الديني، قائلا “تعد أكثر الدوافع لوضع خطة ثقافية جديدة هي الرغبة في تغيير الخطاب الديني، وهو ما يمكن تسميته بالثورة الثقافية الكبرى، إذ إن الخطاب الديني هو الحاكم الثقافي الأول للشعوب، وتزداد قوته كلما ازداد فقر المواطن واحتياجه، خاصة إذا لم يكن هناك بديل لهذا الخطاب، فطوال العصر الحديث لم تفكر الدولة في عمل خطة لتقديم خطاب بديل، فأغلبها كانت خطابات تخص الترويج الدعائي للنظام وبقائه في السلطة، وليس رغبة حقيقية في تغيير الثقافة العامة لدى المواطن، ولا زيادة وعيه الفكري والثقافي، حتى في المرحلة الناصرية التي من المفترض أن الدولة اعتمدت فيها ثقافة مخالفة للثقافة الدينية، فإنها اضطرت إلى عمل مزيج من الفكر الاشتراكي والإسلامي”.

تجديد الخطاب الديني ثورة ثقافية كبرى، لم تتعرض لها أي من الأنظمة السابقة سواء الملكية أو الجمهورية

ويتابع “يعد تجديد الخطاب الديني ثورة ثقافية كبرى، لم تتعرض لها أي من الأنظمة السابقة، سواء الملكية أو الجمهورية، ومن ثم فهي تحتاج بشكل قوي لتعاون كل الأجهزة الثقافية من أجل العمل على تقديمها بشكل لا يصدم المواطن ولا يجعله يتخذ موقفا عدائيا من الدولة وطارحي هذا الخطاب. ولابد من وضع خطة واضحة لتقديم خطاب ثقافي شامل يمكنه أن يملأ الفراغ الذي سيحدث نتيجة التخلي عن الخطاب الديني السلفي، وهو أمر يحتاج إلى عمل كافة الأجهزة والمؤسسات لبلورة معالمه وصياغة أفكاره بشكل يجعل الذين سيعملون على إتاحته قادرين على تقديمه وشرحه للجمهور، فضلا عن وضع مراحل زمنية للانتقال به من درجة إلى أخرى، بالإضافة إلى تفكيك الخطاب القديم، وتبيان أخطائه وتهافت لغته وأفكاره، وتوضيح مدى احتواء الخطاب الجديد على نفس القيم والمبادئ المهمة التي كانت في الخطاب القديم”.

ويؤكد موسى أن “الخطة الثقافية لابد أن تأخذ في اعتبارها إعادة بناء منظومة القيم حيث إن الدافع الأهم والأكبر هو ما حدث من تجريف لثقافة الإنسان المصري، وانهيار مدهش في منظومة القيم لديه، تلك التي كانت تبدأ بقسم المصري القديم على أنه لم يكذب ولم يسرق ولم يقتل ولم يلوث ماء النهر، هذه المنظومة التي تم تجريفها لصالح الفهلوة وما بها من كذب ونصب وخداع، فضلا عن التكاسل وكراهية العمل والاتكال لدى قطاع كبير من المصريين على التسول بطرق وآليات مختلفة ومتباينة، بالإضافة إلى ترك جوهر الدين والتمسك بمظهره، مما خلق نوعا من الفصام لدى قطاع من المصريين، ومع تراخي الدولة في تفعيل القانون تصور الكثيرون أن الصواب هو الخطأ، فانهارت القيم وتساوى الجاهل مع العالم، وصارت فكرة الضمير مكروهة، والغش والخداع والكذب من ضرورات الحياة”.

ويؤكد أنه لا يمكن إعداد المواطن كي يكون إنسانا نقيا في مجتمع يؤمن بالقيم الإنسانية الحقة إلا عبر مرتكزين أساسيين، أولا تغيير الخطاب الثقافي الشامل في المجتمع، بما في ذلك احترام القانون وسيادته على الجميع، وأن يكون ذلك معلنا للكل، بما يساعد على بناء جدار ثقة حقيقي بين المواطن والدولة، وإيمانه بأن القانون أقوى من أي خطاب تقليدي لا يهدف إلا إلى تخديره وإرجاء حصوله على حقه، أما المرتكز الثاني فيقوم على إكساب المواطن درجة من الرفاهية في الحياة، إذ لابد أن تعمل الدولة على إنهاء حالة الفقر، وأن يعود الدخل القومي على المواطن بنصيب يجعله غير مضطر إلى اللجوء إلى سلوك غير سوى، ولابد أن يكون لديه عمل حقيقي ودخل حقيقي، وأن يوقن أن ثمة التزام قوى من قبل المؤسسة التي يعمل بها بقانون العمل، وأن عدالة مكاتب العمل ستأتي له بحقه حال وقوع ظلم عليه.

صياغة وعي جديد

صبحي موسى: في ظل اهتمام دولة مبارك بثقافة الحجر وليس البشر فقد أنجزت العشرات من القصور والمتاحف والإنشاءات المهمة
صبحي موسى: في ظل اهتمام دولة مبارك بثقافة الحجر وليس البشر فقد أنجزت العشرات من القصور والمتاحف

حول بناء القوة الثقافية يتابع موسى أنه “في ظل اهتمام دولة مبارك بثقافة الحجر وليس البشر فقد أنجزت العشرات من القصور والمتاحف والإنشاءات المهمة، إلا أنها في ظل سعيها لتدجين المثقفين وربطهم بمنح وعطايا الدولة فقدت مصر الكثير من الأصوات الثقافية المهمة، بل إن دورها الريادي في المنطقة ككل تراجع لصالح بلدان الهامش والأطراف، فتقدمت عليها هذه البلدان في الكثير من المجالات، خاصة ما يعرف بالقوة الثقافية، فقد أنشأت هذه البلدان العديد من المجالات والجوائز والمنح، ونشطت في إقامة المؤتمرات والمعارض الثقافية الدولية، وأخذت في الدفع بأسماء مبدعيها إلى العالم، عبر مشاركات في مؤتمرات وندوات ثقافية في الخارج، أو الترجمة والجوائز والحضور الإعلامي والترويج لمنجزاتهم وإبداعاتهم بمختلف الطرق، كل ذلك كان على حساب القوة الثقافية المصرية، حتى إن الأمر بدا بمثابة ثورة الهامش على سطوة المركز”.

 ويضيف أنه “رغم كثرة الإبداع المصري المنتج منه إلا أنه لا توجد خطة حقيقية لتروجيه وتسويقه، وعادة ما يتم إهدار الفرص في مجاملات أصدقاء أو موظفين أو رضوخ إلحاح ضعيفي الموهبة، وهي في مجملها فرص قليلة، نظرا إلى عدم اهتمام الدولة بالأمر، رغم ترديد مصطلح القوة الناعمة بقوة بعد الربيع العربي، إلا أن الإعلام حصر هذه القوة في الرياضة والدراما، لذا لابد من التفكير في كيفية الاهتمام بالإبداع المصري وتسويقه، سواء الأدب أو الفن التشكيلي أو الموسيقى والمسرح والسينما، خاصة إذا كان توجه الدولة الآن نحو الرأسمالية، فلم لا يتم بشكل احترافي تسويق هذا الإبداع، سواء عبر شركات خاصة أو متعاونة مع الدولة؟”.

ويرى أنه يمكن وضع التشريعات القانونية اللازمة لحماية الإبداع وحقوق أصحابه وإلزام المؤسسات والكيانات الخاصة بالإقبال على شرائه والترويج له، ووضع الخطة الملائمة للدفع بالمبدعين إلى المحافل الدولية، وتشجيع دور النشر الغربية على التعامل معهم، وزايدة عدد البرامج الثقافية في الإعلام المصري.

يشدد موسى على أن أي خطة ثقافية يجب أن تكون شاملة، أي أنها تعنى بالمجتمع ككل، وليس بفئة أو طائفة أو مجموعة محددة، وأن تكون أولوياتها بالدرجة الأولى هي البشر وليس الحجر، فترك البشر على حالهم لسنوات طويلة يصيب الوعي والفكر في أي مجتمع بالجمود والثبات، وسيطرة الثقافة الأصولية والتقليدية عليهم يعرضهم إلى أخطار كبرى تتهدد المجتمع ككل، بدءا من الطائفية وصولا إلى تكفير المجتمع، وهي أمراض أشبه بخلل النظام الدفاعي في الجسم، فبدلا من أن تكون هذه الثقافة في إطار وحدود معينة، للدفاع عن هوية وقيم المجتمع وأفراده ومؤسساته، فإنها تتحول إلى فايروسات تهاجم الجسد من الداخل.

ويلفت إلى ضرورة وجود خطة ثقافية تهيمن وتدير وعي وفكر المجتمع، وتغذيه بالثقافة اللازمة لحمايته من الأفكار الخارجية، وتضع مكوناته الفكرية عند الحد الطبيعي والمسموح به، بما يضمن الحفاظ على قوة ووحدة المجتمع وتناغم مؤسساته ومكوناته الاجتماعية، فالعولمة وما بعد الحداثة لا يعملان على تطوير الثقافات بقدر ما يعملان على تذويب الكتل الصلبة فيها، عبر التعامل المباشر مع الأفراد، وجعلهم إلكترونات تسبح في مدارات نواة خفية، لا حضور لها إلا فيما تحققه هذه الإلكترونات من مكاسب تصب في صالح صانعي الفوضى الخلاقة أو الحداثة السائلة.

دائما ما يتم إغفال الجانب النفسي في الخطط الثقافية وكثيرا ما يترك الأمر لعشوائية التكيف الثقافي للمواطن

ويرى أنه لابد أن نجمع بين خطتي كل من ثروت عكاشة وفاروق حسني في عملنا الثقافي، فنصنع مزيجا من رؤيتهما، متجاوزين الأخطاء التي وقعا فيها، سواء الربط الواضح بين الثقافة والنظام عبر خطة الإرشاد القومي كما في المرحلة الناصرية، أو بإمهال الشارع وتركه للجماعات الأصولية والتقليدية كي تسيطر على مخيلته ورؤاه كما حدث في عصر مبارك.

فخطة التحديث، في رأيه، كانت دائما مرتبطة بالنظام ورؤاه، وعلينا أن نمزج بين الرؤيتين من أجل الوصول إلى مرحلة يمكن للمجتمع المدني أن يدير فيها العملية الثقافية كاملة، وترفع الدولة يدها عن الفعل الثقافي، وتكتفي بدور المراقب والمنسق وليس المنتج والفاعل، لكن إلى أن نصل إلى هذه المرحلة فيجب أن تتخذ بعض الخطوات التي من شأنها أن تضمن وضع إستراتجية تحقق الأهداف المرجوة من الخطة الثقافية.

ومن هذه الخطوات التي يضعها موسى أولا يقول “يجب أن تشكل المجموعات الثقافية من الوزارات المعنية بصياغة عقل وفكر ووعي المجتمع، نظرا إلى ما تشتمل عليه من إمكانات ومؤسسات قادرة على تحقيق هذا الأمر، فضلا عن أن بعضها له خطابه الثقافي المؤثر والمشكل لوعي الجماهير التابعة له، وفي مقدمتها وزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم والتعليم العالي والأوقاف، بالإضافة إلى كل من مؤسستي الأزهر والكنيسة، وقد أوضحنا مدى قوة وانتشار وتاريخ وعمق هذه المؤسسات (في أبحاث أخرى)، سواء التابعة لوزارة لثقافة، أو الوزارات والمؤسسات والأجهزة الأخرى الفاعلة في المجتمع، والقادرة على صياغة وعي ووجدان الإنسان المصري، ونعتبر أنه من الضرورة أن يكون لهذه المجموعة نائب لرئيس مجلس الوزراء”.

وثانيا يقول إنه “يجب تشكيل مجلس متخصص يكون بمثابة العقل المفكر لهذه المجموعة، حيث يمكنه أن يضع الخطط والأهداف ويتابع تنفيذها على أرض الواقع، ثم يعاود التقييم والتعديل”. أما ثالثا فيذهب إلى ضرورة إصدار تشريع يقضي بتخصيص 1 في المئة من أرباح المؤسسات الخاصة لصالح الأنشطة الثقافية في المجتمع، بحيث يلتزم القطاع الخاص بالمشاركة في التنمية الثقافية، كما ينبغي تعديل قانون الهيئة العامة لقصور الثقافة بحيث تتعامل مواقعها مع الجمهور بوصفها مراكز ثقافية أهلية، تقوم على دعم كل من لديه مشروع أو نشاط ثقافي جيد، كما يجب أن تتخلى قصور الثقافة عن دورها كمقرات لممارسة الأنشطة الثقافية، وأن تكون مراكز للتنسيق للعمليات الثقافية في الحيز الجغرافي التابع لها، وأن تتمم كل الأنشطة التي تشرف عليها وسط الجمهور، وأن تتعاون الجهات الأمنية وإدارات الحكم المحلي معها لتوفير التأمين اللازم لأداء عملها.

13