القوى غير الدستورية تخدم الأشخاص وليس الجزائر

عكس عدد وحجم الحلقات الدائرة بنواة السلطة في الجزائر، طبيعة التوازنات غير المتجانسة والتجاذبات المتحركة داخل النظام السياسي، ففي ظل غياب الشفافية والأطر المهيكلة لحركة تلك الحلقات، ظلت تتراوح منذ سنوات الاستقلال الأولى بين القلة والكثرة وبين الاضمحلال والقوة، بحسب طبيعة الصراعات والمواقع والظروف القائمة.
ويمكن أن يستشف ذلك من خلال ذوبان دور ونفوذ العسكر داخل النظام، خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، لحساب لوبي المال والأعمال الذي أحاط به نفسه، وصار في ظرف وجيز صاحب قرار ونفوذ في اختيار الحكومات والوزراء والنواب والانتخابات، ومن خلال المولود الجديد في قصر المرادية المتمثل في لوبي رجالات الثقة وهم فئة المستشارين والمقربين، الذين عززهم الرئيس عبدالمجيد تبون، بكل ما يحتاجونه من مهام وصلاحيات تجعل منهم مركز قرار قويا في المستقبل.
في كل الأنظمة السياسية تقاليد وآليات لإدارة الشأن العام تدخل ضمن السلوك اليومي في حياة الدولة، لكن تناسل دوائر القرار السياسي خارج الأطر القانونية هو ظاهرة غير صحية حتى ولو كانت البلاد تعيش أزهى مراحل الاستقرار، لأنه يعكس وضعا غير طبيعي داخل النظام السياسي نفسه.
◙ مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة في الجزائر بين طي صفحة الشرعية الثورية، والمرور إلى الشرعية الشعبية، فكل المحاولات باءت بالفشل
فتحييد الرئيس السابق بوتفليقة، لدور ونفوذ الجيش خاصة في سنواته الأخيرة، لم يكن وليد مشروع سياسي أخضع للنقاش ولرأي الجزائريين، بقدر ما كان تصفية حسابات قديمة بين الطرفين، فالرجل جهر منذ سنواته الأولى بتغول الجنرالات، ولذلك سعى خلفهم إلى أن أسقطهم الواحد تلو الآخر، وباتت المؤسسة العسكرية بموجب ذلك في الصف الثاني للحلقات الدائرة حول النواة الصلبة.
وبوتفليقة لم يكن في خلده مشروع سياسي لمدننة الدولة وإرساء آليات جديدة في إدارة الشأن العام، وإنما لقناعة لديه بأن ما يعيق خلوده في السلطة هو الجيش، ولذلك لابد أن يزاح من واجهة السلطة، وجاء بلوبي رجال المال والأعمال كفاعل ومؤثر لكنه لا يمكن أن يتمرد على إرادة قصر المرادية.
والآن بعد أربع سنوات من رئاسة تبون للجزائر، يبدو أن الرجل لم يطمئن للتوازنات المشكّلة بعد حراك فبراير 2019، ولذلك رمى بكل ثقله من أجل تشكيل حلقته الخاصة داخل السلطة، ما دام الأمان غير مستدام لا في المؤسسة العسكرية التي لها رأيها وحساباتها في الواجهة السياسية، ولا في الحكومة والمؤسسات الأخرى التي يمكن أن تعلن عن الشيء وتأتي بنقيضه، إذا تسللت إليها نوايا عرقلة برنامج الرئيس.
الحلقات الدائرة بنواة النظام ليست وليدة اليوم، فهي تعود إلى سنوات الاستقلال الأولى وما قبل، ولأن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، فإن الحلقة المنتصرة كانت تصنع لنفسها في كل مرة مشروعية تلفها بالشرعية الثورية، غير أن تلاشي الأخيرة والفشل في العودة إلى شرعية الشعب، جعلا النظام يقوم على رجل واحدة، ولذلك تلجأ السلطات المتعاقبة إلى تشكيل آليات حمايتها واستمرارها.
دساتير البلاد واضحة وصريحة في تركيبة الدولة وفي تعداد وتحديد مؤسساتها، غير أن اللعبة غير الشرعية وغير الدستورية، أفضت إلى ممارسات خارج الدستور، فالخوف يخيم على الكل في الجزائر، الشعب يخاف من السلطة، والسلطة تخاف من الشعب، والمؤسسات تخاف من بعضها البعض، ولأن الكل غير مطمئن من الكل يتم اللجوء إلى الضرب تحت الحزام.
ففي تسعينات القرن الماضي، خاف الجيش من جبهة الإنقاذ، وخافت جبهة الإنقاذ من الجيش، ودخلت البلاد في حمام دم كبير، ليس لأن الدولة لا تملك الأطر الدستورية التي تضع كل طرف في مكانه الطبيعي والحقيقي، بل لأن تقليد العمل خارج الدستور هو سيد الموقف.
وفي نفس الحقبة، كان جنرالات الاستخبارات يتفاوضون مع قادة المسلحين الإسلاميين في الجبال، من خلف ظهر الرئيس المنتخب اليامين زروال، بعدما أجهضت مساعيه لتطويق الأزمة وإفشال اتصالاته الشخصية مع القادة السياسيين والشرعيين للحزب المنحل، وذلك نموذج على تداخل وتضارب وجهات النظر خارج الأطر الشرعية، وعليه رمى المنشفة وقرر تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة لم يترشح لها.
◙ في كل الأنظمة السياسية تقاليد وآليات لإدارة الشأن العام تدخل ضمن السلوك اليومي في حياة الدولة، لكن تناسل دوائر القرار السياسي خارج الأطر القانونية هو ظاهرة غير صحية
أول المظلومين في الجزائر هو الدستور الذي يلتحف به الجميع، ويدهسه الجميع، فرغم أنه أقر المؤسسات وحدد المهام والصلاحيات، فيعرف الناس الحكومة والبرلمان والانتخابات والقضاء والإعلام والأمن والجيش، لكن هواية ممارسة الحكم خارج الدستور لا تزال تستهوي الكثير، فيعمد رئيس جمهورية لمحاسبة وزرائه في جلسات رمضانية تتخللها الحلويات الشرقية والشاي، بينما رقابة البرلمان مغيبة، ويعمد آخر إلى إنشاء سلطة قوية داخل قصر الرئاسة والحكومة موجودة.
مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة في الجزائر بين طي صفحة الشرعية الثورية، والمرور إلى الشرعية الشعبية، فكل المحاولات باءت بالفشل، واستحقت البلاد حسب رئيس حكومتها السابق مولود حمروش، “أرض الفرص الضائعة”، ففي كل مناسبة تقترب من فتح صفحة جديدة في مسارها، سرعان ما تتبخر الآمال لأن الفاعلين الحقيقيين يفتقدون للثقة ولا تستهويهم الشفافية.
منذ أسابيع قليلة فقط، أُعلن عن حل أو تجميد لجنة الرقابة المالية، بعد اللغط الذي أثاره مجتمع رجال المال والأعمال، حول شرعية وآليات عمله، والتجاوزات المرتكبة في حقهم، ولا أحد يعلم من أسسها ولا من قرر حلها، فالإعلان جاء على لسان رئيس تنظيم مهني وليس على لسان حكومي أو رئاسي، وهذا نموذج حي عن تغول القوى غير الدستورية في البلاد منذ أمد بعيد وليس اليوم فقط.
الجزائر في حاجة إلى مؤسساتها الطبيعية والدستورية، فهي كافية لإدارة الشأن العام متى توفرت الإرادة والكفاءات، وكل عمل خارج ذلك هو هدر للقدرات المادية والبشرية وضياع للوقت، فالبلد فوق الأشخاص وليس الأشخاص فوق البلاد.