حسين بن حديد جنرال جزائري تحدى قوة بوتفليقة وقايد صالح أعزل

لحق الجنرال المتقاعد حسين بن حديد، برمزي السلطة القويين في دار الخلود، بعدما اختار مواجهتهما بدون سلاح وهو في آخر العمر، بينما كانا هما في ذروة القوة والجبروت، فعبدالعزيز بوتفليقة، رئيسا لا يشق له غبار، اقتنع بأن قدره هو الموت على كرسي المرادية، بينما كان الجنرال أحمد قايد صالح، صاحب الحل والعقد في بلد اهتزت أركانه في السنوات الأخيرة.
رحل الجنرال حسين بن حديد، الذي حسم مساره النضالي والمهني منذ سنوات شبابه الأولى، فقد التحق بصفوف جيش التحرير الوطني وهو في سن السادسة عشرة، وأكمل مساره المهني في صفوف الجيش، حيث تدرج في مختلف المناصب والرتب وفي مختلف المراحل، بما فيها العشرية الدموية وصراع الجيش والجماعات الإرهابية، إلى أن غادره متقاعدا نهاية تسعينات القرن الماضي.
لكن غصة ظلت عالقة في حلقه بسبب انحرافات السلطة، وربما رافقته إلى قبره، فحتى التكريم وإعادة الاعتبار اللذان حظي بهما في آخر أيامه، لم ينسياه محطات سجنه وملاحقته من طرف بوتفليقة ثم قايد صالح في سنواته الأخيرة، لا لشيء، وإنما لتحذيره من مغامرة توريث الحكم، ومن جر الجيش إلى متاهات السياسة.
يعتبر بن حديد من بين الضباط القلائل في الجيش الجزائري، الذين جهروا بمراجعاتهم المهنية والسياسية في آخر أعمارهم، فقد اعترض على المسار السياسي الذي انتهجته السلطة منذ العهدة الرئاسية الثالثة للرئيس الراحل بوتفليقة، ثم الارتماء في أحضان الإدارة غير الدستورية لمؤسسات البلاد، تمهيدا لما كان يراه مشروعا لتوريث الحكم في البلاد، بين آل بوتفليقة، من عبدالعزيز إلى سعيد.
كما لم يتوان في انتقاد قائد الجيش السابق، الجنرال الراحل قايد صالح، وهو في أوج قوته ونفوذه، بسبب ما كان يراه توريطا للمؤسسة العسكرية في التجاذبات السياسية، وأعاب عليه الاستحواذ على السلطة وتعبئة المؤسسة لخدمة الأجندة السياسية، خاصة وأن الرجل كان يدير الشأن العام من داخل الثكنات وبالبزة العسكرية.
ذهبت جرأة الجنرال الراحل إلى أبعد من ذلك، حين قدم في إفادات بثتها منابر إعلامية، منذ العام 2015، بعض الألغاز التي كانت تحيط بحرب الجيش ضد الإرهاب، والموقف النمطي لصقور المؤسسة العسكرية من تيار الإسلام السياسي بقيادة جبهة الإنقاذ آنذاك.
حسين بن حديد ذكر في شهاداته أن “الانقلاب على المسار الانتخابي لم يكن وليد الخطاب المتطرف للإسلاميين، وإنما لقناعة سياسية وأيديولوجية لدى كبار ضباط المؤسسة العسكرية، قائمة على عدم الثقة في خيارات الشعب وعلى عقلية الوصاية الموروثة على البلاد.
وذكر في إحداها “بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية نهاية شهر ديسمبر 1991، تم استدعاء كافة القادة والضباط السامين للمقر العام للمؤسسة العسكرية، لاستعراض وتقييم تطورات المسار الانتخابي، وتم الإجماع بين كل المتدخلين على ضرورة التدخل وعدم السماح باستمرار المسار، دون تقدير للعواقب التي جرت البلاد إلى حرب أهلية أودت بحياة ربع مليون جزائري”.
كان الراحل من منظري “مقاربة الاختراق وتعبئة عناصر أمنية في ثوب إسلاميين، للقيام بأعمال تتنافى مع الدين، بغية تشويه صورة المسلحين الإسلاميين لدى الرأي العام، وتفكيك التنظيمات المناوئة من الداخل”، واستدل على ذلك بما رواه عن “علاقة ضباط استخباراتيين مع ما كان يعرف بأمير كتيبة (الأهوال) بن عودة بن حجر”.
المقاربة طرحت على أكثر من صعيد سياسي وإعلامي، وتدعمت بشهادات، أبرزها تلك التي قدمها الجنرال الراحل، لكنها تبقى رواية واردة لكنها غير ثابتة، ومرفوضة تماما من طرف الضباط الصقور ومن أنصارهم في النخب السياسية والمدنية، وفي ظل معالجة صريحة وشفافة لأزمة العشرية الدموية، تبقى حقيقتها رهينة ما ستكشف عنه الأيام كما كشف عنه الجنرال حسين بن حديد.
ويبقى الرجل من طينة الضباط القلائل الذين جهروا بقناعاتهم حتى وهم في آخر العمر وفي موقع ضعف، واختاروا المواجهة رغم عدم تكافؤ كفتي الميزان، لكن يرحل الرجال ويبقى الأثر، فها هو الآن يلحق بخصميه في دار الخلود، ليسجل التاريخ ما لبن حديد، وما لبوتفليقة، وما لقايد صالح، وما عليهم، في مواقف وفي حقائق تعين صاحبها على الرحيل المريح، أو تلاحق صاحبها وهو على فراش الاحتضار.
أثناء هيمنة القبضة الحديدية للجنرال قايد صالح، زعم تقرير في منبر موال لسلطة الأمر الواقع في 2019، بأن “تصريحات الجنرال بن حديد التي يحاكم من أجلها مردها بالأساس إلى رغبة انتقامية يحملها الرجل ضد نائب وزير الدفاع قائد الأركان منذ العام 1996، حينما تدخل الأخير بوصفه قائد القوات البرية وبأمر من قائد الأركان آنذاك محمد العماري، لوقف الانتهاكات التي كان يرتكبها الجنرال بن حديد في حق المواطنين في محافظة بشار، بعد هدمه لعشرات المنازل على رؤوس ساكنيها من المتهمين بشبهة الإرهاب”.
وأضاف “كثرة شكاوى المواطنين ضد الجنرال بن حديد، دفعت قائد القوات البرية إلى رفع تقرير مفصل إلى قائد الأركان، الذي لم يتردد لحظة في اتخاذه القرار في حق بن حديد، وهو ما تم بالفعل بإنهاء مهامه العام 96 وهي الرواية التي يرفض بن حديد كشفها في كل مرة محاولا إعطاء الانطباع على أن أساس خلافه مع الجنرالات في تلك الفترة يعود إلى رفضه وقف المسار الانتخابي”.
لكن التقرير تجاهل مواقف وإفادات الرجل للتاريخ وللأجيال حول أن “اكتساح جبهة الإنقاذ المنحلة لانتخابات 1991 ما كان ليتحقق، لولا الدعم الخفي من إدارة الجنرالات الفاعلين في المؤسسة العسكرية والأمنية آنذاك، الذين كانوا يدفعون بالرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، للغرق في مستنقع جبهة الإنقاذ، من أجل الانقلاب عليه”.
وقال بن حديد “الجنرالات كانوا يتحينون الفرصة للانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد، منذ منتصف التسعينات، واقتربوا من القرار كثيرا بعد أحداث أكتوبر 1988، حيث كانوا قاب قوسين أو أدنى لتحقيق ذلك بين العامين 1990 و1991، لولا التطورات الإقليمية التي نجمت عن حرب الخليج الثانية في 1991”.
في العام 2015، ظهر حسين بن حديد، لأول مرة في الإعلام وهو يدلي بتصريحات وصفت بـ”الخطيرة”، هاجم فيها بوتفليقة، ورفض استمراره في الحكم لعهدة رابعة بسبب مرضه، وعجزه عن أداء مهامه الدستورية.
ولم يتوان في اتهام رجل السلطة القوي آنذاك سعيد بوتفليقة، باستغلال موقعه وعلاقته العائلية، من أجل “وراثة الحكم من شقيقه”، وأكد أن “سعيد هو الذي يحكم البلاد، وهو مختل عقليا!”. كما دافع عن قائد المخابرات السابق الجنرال (توفيق)، وهاجم قائد أركان الجيش حينها، وقال إنه “ليس أهلا للمنصب الذي يشغله”.
اعتقل بن حديد، ووجهت له تهمة “إفشاء أسرار عسكرية، وخرق واجب التحفظ” ومكث في السجن المؤقت قرابة سنة، وكان هذا أول ثمن يدفعه، ثم أفرج عنه بسبب متاعب صحية تتعلق بإصابته بسرطان البروستاتا، وعلق حينها بالقول “سجنت بالهاتف وأفرج عني بالهاتف”.
بن حديد من الشخصيات المستقلة التي علقت آمالها في التغيير السياسي على “الثورة السلمية”، لولا سطوة العسكر التي وقفت ضد إرادة الشارع، وهو ما دفعه إلى توجيه خطاب عبر صحيفة “الوطن”، إلى الرجل الأول في المؤسسة العسكرية قايد صالح.
في ذلك الخطاب، طالب بن حديد قائد الجيش بـ”ضرورة الاستماع لمطالب المتظاهرين، المتمثلة في رحيل النظام كله، وتنظيم مرحلة انتقالية وبعدها الذهاب إلى الانتخابات”، بينما كانت قيادة الجيش تصر على عدم الخروج عن مقتضيات الدستور والذهاب إلى انتخابات رئاسية.
تسببت هذه الرسالة في اعتقال بن حديد مرة ثانية ووُضع في السجن بتهمة “إضعاف معنويات الجيش”، ليدفع بذلك الثمن الثاني، قبل أن يتم الإفراج عنه في يناير 2022 بعد وفاة الجنرال قايد صالح، وقد كان المرض قد نهش جسده النحيف.
وفي الخامس من يوليو 2022 بمناسبة ستينية الاستقلال، فاجأ بن حديد الرأي العام المحلي بظهوره على كرسي متحرك، في حفل بوزارة الدفاع، حيث حظي بتكريم رئاسي، وهو ما اعتُبر رد اعتبار لأحد أبناء المؤسسة العسكرية، ومن يومها اختفى الرجل إلى أن أعلن عن رحيله الأحد الماضي عن 79 عاما.
الجنرال بن حديد، صنع لنفسه تاريخا وشخصية، بات من النادر العثور عليها في النخب العسكرية، ففيما سجن ولوحق بسبب مواقفه وآرائه، يمكث العشرات من الضباط في سجون البلاد بتهم الفساد والتربح غير المشروع واستغلال الوظيفة، وهو مسار غير مشرف لأصحابه وللمؤسسة نفسها.
ومن ضمن ما أدلى به أنه “من بين الأسباب الكامنة وراء سجنه والجهات التي قررت إدخاله السجن وتركه في السجن 10 أشهر دون محاكمة وخلفيات إخراجه من السجن بالهاتف كما دخل بالهاتف، ووضعه تحت الرقابة القضائية بعد إخراجه من السجن، هو التعبير عن مواقفه وآرائه”.
قال الراحل بن حديد “سجنت لأسباب سياسية تتعلق بتصريحات تناولت فيها فترة التسعينات على قناة تلفزية، مما أثار مخاوف بين المسؤولين المدنيين والعسكريين، فتم الاتفاق بين الرئاسة ووزارة الدفاع للزج بي في السجن”، ويقصد بذلك الرئيس بوتفليقة والجنرال قايد صالح.
وأوضح في تصريحات صحفية أن “من زج به في السجن لم يقرر إطلاق سراحه إلا بعدما تبين له أن بن حديد على وشك الموت المؤكد بعد إصابته بالسرطان بعد خضوعه لتحاليل معمقة بمستشفى حكومي في العاصمة، عقب زيارته من قبل طبيب الهلال الأحمر الدولي، وهو من كازاخستان ويتحدث الفرنسية بطلاقة حيث إنه أخضعه لأسئلة دقيقة تتعلق بحالته الصحية”.
واستطرد “حاليا أخضع لمراقبة دقيقة في كل تحركاتي من طرف سيارتين وبشكل دقيق، حتى خلال ذهابي إلى مواعيد العلاج الكيمياوي بمستشفى مصطفى الجامعي، وأن وضعي الحالي يحد من حريتي، ومع ذلك فإنني أنا الذي أضغط عليهم نفسيا وذهنيا، وحتى لو سجنوني ستكون معنوياتي أعلى من معنوياتهم”.