أعمال إلهام الفرجاني ملامح معاصرة من الفن الصخري في ليبيا

تشتغل الفنانة إلهام الفرجاني على الموروث الليبي، فهي توثقه بلوحاتها وألوانها المتنوعة تنوع الجغرافيا الليبية، وتقدم للمتلقي مشروعا فنيا فلسفيا يجمع بين اللون والموسيقى ورؤاها المعاصرة للواقع وتغيراته الكبرى على مجرى الأحداث والحياة في وطنها، بأساليب وتقنيات تميزها في الحراك التشكيلي المحلي والعربي.
كان أول لقاء مع أعمال الفنانة الليبية إلهام الفرجاني في معرضها الشخصي في برج طرابلس قبل 20 سنة حيث كانت تعرض أهم الأعمال عندها في فترة البدايات. أشارت في حديثها لي عند زيارتي المعرض آنذاك إلى لوحة "أقدام على الرمال" أو"آثار على الرمال" كانت مشروع تخرجها في درجة الماجستير، عمل بمقاس كبير استخدمت فيه الفنانة الرمال الحقيقية وآثار أقدام؛ خليط من مواد ﻻصقة ومعاجين أخرى.
ما أثار اﻻنتباه عندي ليس فكرة العمل وﻻ التقنية المستخدمة، بل القدرة الهائلة والشغف عندها بإنهاء عمل بهذا الحجم مكتمل الأركان رغم أنها استعانت بالأرضيات والنسيج لصناعة ملامس وإحساس مبني بشكل حرفي للعمل وبنائه من عدة طبقات. هذا يمنع من أن تكون هناك العديد من المفاجآت غير المتوقعة للفنان الصانع نفسه وللمتلقي أيضا، كتلك القدرة التشكيلية والفهم المعاصر الذي استخدمته في مراحل لاحقة من مشوارها التشكيلي نتيجة الخبرة المكتسبة من الدراسة والاطلاع والعمل المتواصل في حقل التجريب المتنوع.
هذه المقالة ترصد مرحلة مهمة ومتقدمة من مسيرة الفنانة حيث استخدمت الموروث الفني التشكيلي الليبي المتمثل بأقدم لوحات في التاريخ كما أشار إليها مؤلف كتاب لوحات تسيلي الصادر عن دار الفرجاني لمؤلفه هنري لوت بترجمة من أنيس زكي حسن في سبعينات القرن الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن لوحات تسيلي توجد في أغلبها في صحراء الجزائر وجزء صغير منها في الجنوب الغربي من ليبيا وكذلك وهي الأهم رسومات جبال "أكاكوس" الموجودة في جنوب ليبيا.
لم تكن الفنانة الفرجاني قد ركنت في هذه المرحلة "مسرح الحرب" إلى الجانب السهل من عملية فن الرسم بالمحاكاة المباشرة والنسخ كالكثير من الفنانين الليبيين المنجزين لأعمال سياحية رخيصة، بل أجادت تمثيل روحها المبدعة واستخلصت "فيغراتها الفنية" الخاصة بألوانها المبتكرة والتي كانت لها علاقة بالمنسوجات والسجاد الليبي الأصيل وكذلك فن الزنجفور الغدامسي العريق، وهو فن تزيين غرف البيوت من الداخل في مدينة غدامس الصحراوية وكان
يغلب عليه الخطوط باللون الأحمر القرمزي في أشكال تجريدية وتوريق مجرد للنباتات والنخيل. فاستطاعت أن تعبر الآلاف من السنين وتجاوزت العشرات من العصور للجمع بين الفن الصخري وفن السجادة والكليم لصناعة خلطة معاصرة جدا ﻻ تشبه أحدا غيرها في هذه المجموعة من الأعمال النابضة بالقيم الجمالية الأصيلة في تركيبة متجانسة إلى حد كبير ومعاصرة جدا.
قطعات من الزرافات في حياة منسوجة من الكليم وبقايا السجاد بتوليفة فنية منسجمة جدا وثور وراقص وزخارف من فن الزنجفور، سجادة مهترئة ومرقعة كأنها الوطن ينفلت من أطراف نسيجها هواة الصيد والطرائد في كافة الاتجاهات، قطعان من الثيران في مساحات جرداء، مدن من السجاد مرسومة بزخارف وتكوينات هندسية لا تخلو من حميمية بين بيوتها وبتجاور الأحمر مع الأزرق والأخضر والبرتقالي يجعلها تتميز بجمالها الشرقي الذي تتميز به منمنمات شمال أفريقيا، ورجال نحاف تحت سماء مضاءة بطقوس سحرية. وتحمل هذه المجموعة عنوان "مسرح الحرب" وهي انعكاس طبيعي لما عاشته الفنانة من ظروف حرب منذ سنوات مضت في داخل ليبيا.
مجموعة دوائر لفن الزنجفور الغدامسي "أطباق ملونة" بشكل متنوع بعناصر رمزية مختلفة كانت من مجموعات أخرى من ضمن سلسلة أو مشروع تشتغل عليه الفنانة كتوثيق عناصر جمالية من الموروث الليبي في أعمال فنية معاصرة وإضفاء ملامح الموسيقى بنوتات متنوعة تقترب كثيرا من التعبير الموسيقي وألحانه كعلاقة فلسفية بين اللون والموسيقى وتمثيلاتها المعاصرة.
◙ تجربة الفنانة في رسومات الفن الصخري لم تكن متماهية مع ما كان يطرح من قبل الكثير من الفنانين في ليبيا
هنا تصبح كل الأعمال لا تشير إلا إلى ذاتها ولا تحاكي القصص والأساطير التاريخية والميثولوجيا التي كانت تعالجها الفنون التقليدية الأخرى منذ أن بدأت عند اليونانيين في تماثيلهم ورسوماتهم وصولا إلى لوحات عصر النهضة ومرورا بكل المدارس التقليدية في عصر الفن الحديث إلى أن انتهت صلاحيتها في أواخر الستينات من القرن الماضي والتي أصبحت فيها الفنون المعاصرة تجنح إلى التعبير عن الجمال الخالص عبر خطوط وألوان ونظريات واقتراحات جمالية متنوعة ومنتجة بمختلف الأدوات والتقنيات والتي هدفها الأساسي الإمتاع عند المشاهدة والتلقي. ومن وجهة نظري الشخصي أن هذه المجموعة “أطباق ملونة” متماهية جدا مع ما أنتجته الحداثة المعاصر للفن الجديد حيث لم تعد للشاعرية الكثير من المساحة في ذهن الفنان الصانع للعمل التشكيلي المعاصر.
لم تكن تجربة الفنانة إلهام الفرجاني في رسومات الفن الصخري متماهية مع ما كان يطرح من قبل الكثير من الفنانين في ليبيا بين الرسم السياحي من نسخ ولصق لرسومات جدران الكهوف وجبال أكاكوس وبين المبالغة في الحذلقة التشكيلية والاختباء وراء فكرة الفن البدائي أو الفطري من أولئك الذين قفزوا من الجانب الأدبي في وثبة غير موفقة ثم التصفيق لهم من الكثير من الفنانين والكتاب كنوع من التشجيع والدفع في اتجاه أحد أبواب مدينة الفن على أساس الفن الفطري الخام والتماهي مع تنظيرات الفرنسي جان دوبوفي الذي كانت تعتمد أبحاثه النظرية واطلاعه المعرفي الكبير على ما أنتج من تنظيرات علماء النفس بأهمية رسومات الأطفال والمجانين والفنون الشعبية والإثنوغرافية والتي تصف الأعراق والأصول البشرية وكانت لها أغراضها ورغباتها الاستعمارية عند الأوروبيين في الكثير من صنوف الأدب والفنون، بل كانت أعمال الفنانة إلهام توصيفا للحالة الجمالية في أهم موروث جمالي للفن الصخري عبر التاريخ بطريقة معاصرة وأسلوب مطلع ومدروس.
عبر رحلة طويلة، جربت الفنانة الليبية الكثير من التقنيات والعديد من المدارس خصوصا الواقعية، ولكنها لم تلامس حدود التوصيف الحقيقي المعاصر بنبرة صوتها الشخصي إلا في مجموعاتها المتميزة من الفن الصخري ومجموعات الدوائر التي استلهمت التراث الليبي في قالب معاصر ولم تكرر تجارب الآخرين.
يذكر أن الفنانة من مواليد طرابلس في العام 1972، تحصلت على بكالوريوس في كلية الفنون والإعلام جامعة طرابلس 1996، وأكملت دراستها العليا في بلغراد يوغسلافيا سنة 1998، حيث تحصلت على شهادة الماجستير رسالة بعنوان “التجريد في الخط العربي” والتحقت إلى هيئة التدريس في كلية الفنون والإعلام بطرابلس، كما أنها درست في كلية الفنون الجميلة الإسكندرية جامعة حلوان وتحصلت على الدكتوراه في فلسفة التصوير عام 2010، وكانت أطروحتها تحت عنوان "استلهام السمات الفطرية في إبداعات فن التصوير المعاصر - ليبيا كمثال - دراسة مقارنة"، وهي تعمل حاليا محاضرة في كلية الفنون والإعلام بجامعة طرابلس.
الفنانة عضو مؤسس في مؤسسة بيت إسكندر للفنون والثقافة، وعضو في مؤسسة براح الثقافة والفنون بنغازي، شاركت في العديد من المعارض المحلية بين طرابلس وبنغازي، وأيضا خارج ليبيا في تونس، مصر، لبنان، الشارقة، دبي، صربيا، لندن، قرطبة برشلونة. تم اقتناء أحد أعمالها بمتحف الشارقة والعديد من المتاحف ومن قبل الأفراد من هواة تجميع الأعمال الفنية من عدة بلدان عربية.