القصص الأفريقية نوع من الهجين الأدبي

تصادم الحضارتين الموضوع الأكثر شيوعا في الأدب الأفريقي.
الأربعاء 2023/09/20
الكاتب الأفريقي قدم شكلا جديدا في القصة (لوحة للفنان بسيم الريس)

الأدب صوت المجتمعات، والأدب الأفريقي صوت القارة السمراء، يتمتع برؤاه وآفاقه التي تنبئ عن حيوات وأسرار مجتمعات القارة الكنز، على مستوى جغرافيتها وتراثها الحضاري والثقافي المادي والمعنوي، وهو ما يظهر جليا من خلال كتاب “نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي”.

“نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي” هي القصص التي جمعها وترجمها وقدم لها الكاتب والمترجم سمير عبدربه، تحمل طبقات متنوعة من صوت المجتمعات الأفريقية، يتردد صداها عبر أرجاء مختلفة من القارة، يجمعها خط واحد مشترَك يتمثل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. وتكشف تطور الشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية وعلاقته بالقصة القصيرة الغربية.

في مقدمته لمختاراته التي ضمت نصوصا لكتّاب من جنوب أفريقيا وكينيا والسنغال وسيراليون وأوغندا: حزقيال مفاليلي، أليكس لاجوما، جيمس ماثيوز، نادين جورديمر، جيمس نجوجي، بيراجو ديوب، سيمبن عثمان، أبيوسيه نيقول، باربارا كيمني، وصدرت عن مؤسسة هنداوي، يوضح عبدربه أن “القصة في القارة الأفريقية السوداء بدأت بالحكايات الشفاهية التقليدية ذات الجذور المتعمقة في الفولكلور وأساطير الأقدمين، والتي ظل الناس يتناقلونها من جيل إلى آخر”.

القصة الأفريقية

l

يضيف المترجم “رغم أن هذا النوع من الأدب الشفاهي ما زال موجودا حتى الآن بسبب تعدد اللغات الأفريقية الدارجة غير المكتوبة إلا أن انتشار اللغة الإنجليزية والفرنسية بعد الاستعمار، وولادة جيل جديد من الأفارقة ممن يجيدون لغة المستعمر، قد ساعد في خلق القصة المكتوبة المتعارف عليها”.

ويتابع “غير أن ذلك النوع الأدبي الجديد ظل متراجعا أمام الأشكال الأدبية الأخرى كالرواية والمسرح، ولنأخذ مثلا بالروائي النيجيري تشينوا أتشيبي الذي ازدهرت أعماله الروائية وتراجعت أمامها الأعمال القصصية؛ بسبب حركة الترجمة التي وجدت في أعمال أتشيبي وغيره من المبدعين الذين يكتبون بالإنجليزية فرصة للترجمة إلى عدة لغات أخرى دون أن تتاح لها (أي حركة الترجمة) المقدرة على ترجمة القصة القصيرة المكتوبة باللغات الأفريقية الدارجة، كما كان تحويل روايتين من روايات تشينوا أتشيبي إلى أعمال سينمائية سببا آخر في انتشار الرواية وتراجع القصة القصيرة، بالإضافة إلى سبب ثالث وهو تدريس بعض الأعمال الروائية في مدارس غرب أفريقيا”.

ويلفت إلى أن انتشار المسرح وتراجع القصة القصيرة أمامه يرجع إلى أن المسرح يعتمد في توصيل رسالته على الأصوات التي تردد كلمات المسرحية وعلى آذان المستمعين ـ بما فيهم أولئك الذين لا يجيدون القراءة ـ أكثر من اعتماده على الكلمة المطبوعة، وذلك ما حدث مثلا مع وول سوينكا كاتب الدراما أو عاشق المسرح كما يحب أن يطلق على نفسه، الذي تمتع بشعبية كبيرة بين أبناء قومه عند عرض أعماله على خشبة المسرح.

والجدير بالذكر أن سوينكا يتمتع بالشعبية الكبيرة نفسها ليس فقط بين أبناء قومه، وإنما في معظم العواصم الأوروبية والأميركية بسبب ظهور أعماله المسرحية فوق خشبات مسارح تلك البلاد، علاوة على ما ذكره عبدربه من قبل، وهو حركة الترجمة التي ساهمت بشكل كبير في التعرف على جميع إبداعاته الروائية والمسرحية وحتى قصائده الشعرية، ولم تكن جائزة نوبل العالمية التي حصل عليها في العام 1986 تعَد اكتشافا لذلك المبدع؛ لأنه كان ذائع الصيت قبل الحصول على الجائزة؛ مما يؤكد أهمية دور الترجمة في الحياة الثقافية والمعرفية بشكل عامّ.

القصص يجمعها الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقبول

ويقول “هنا أجد لزاما عليَّ أن أذكر الدكتورة ميرفت حاتم أستاذ الأدب النسائي بجامعة واشنطن، وأتوجه لها بالشكر والتقدير؛ لما قدمته إليَّ من خدمة عظيمة حين تكرَّمت وأرسلت إليَّ من أميركا في عام 1984 رواية مع رسالة تقول: إنها رواية مهمة وشيقة لكاتب أفريقي شهير يتردَّد اسمه في الأوساط الأدبية منذ عشرين عاما، وأخشى ألا تكونوا قد سمعتم به في القاهرة! كان صاحب الرواية هو وول سوينكا الذي ـ والحق يقال ـ لم أكن قد سمعت عنه من قبل، والذي حصل على جائزة نوبل في الآداب بعد عامين من تعرّفي عليه؛ مما جعلني أشفق على حركة الترجمة عندنا، والتي نعرف جميعا أسباب تراجعها رغم أن في بلدنا عددا كبيرا من المترجمين الأكفاء الذين يتمتعون بثقافة عالية، وفي مقدروهم ـ لو توفر لهم التقدير المناسب ـ أن يساعدونا في اللحاق بقطار المعرفة الذي يسير بسرعة فائقة”.

ويضيف عبد ربه “حدث الشيء نفسه في أفريقيا الفرانكفونية التي يكتب مبدعوها باللغة الفرنسية، فنجد الروائي كامارا لاي من السنغال، والروائي يامبو أولوجيم من مالي، وقد تمتَّعَا بشهرة كبيرة لدى قرَّاء الفرنسية خاصة بعد حصولهما على بعض جوائز الأدب الفرنسي؛ ومن هنا ظل كاتب القصة الأفريقي غير معروف في معظم الأحوال للأسباب التي ذكرناها؛ وكان ذلك بالطبع يعَد خسارة كبيرة للقارئ؛ لأن القصة الأفريقية الحديثة تنتمي إلى الأدب التقليدي الشفاهي القديم الذي يلقي الضوء على تراث تلك القارة متعددة الثقافات وعاداتها”.

ويرى أن تراجع القصة القصيرة لم يدم طويلا حين تيقن مبدعوها أن كتاباتهم باللغات الدارجة لا تجاوز الحيز الضيق الذي يعيشون فيه، ولا بد لهم من الكتابة بالإنجليزية أو الفرنسية اللتين أصبحتا اللغتين الرسميتين في معظم البلدان الأفريقية؛ وبالتالي بدأت القصة القصيرة في الانتشار، وكان لصدور بعض الدوريات الخاصة بنشر إبداعات القصة القصيرة دور كبير في ذلك الانتشار.

ويشير هنا إلى أهم تلك الدوريات وهي مجلة Spear في نيجيريا ثم مجلة Drum في جنوب أفريقيا في وقت واحد، والتي صدرت أول الأمر عام 1950، وكان حزقيال مفاليلي من جنوب أفريقيا ـ الذي يلقبونه بعميد الأدب الأفريقي ـ واحدا من الذين عملوا على النهوض بالمجلة والتركيز على نشر القصص القصيرة. قال مفاليلي في رائعته The African Image “إن ظهور مجلة Drum كان إطلالة هائلة ومثيرة عن نشاط كتابة القصة القصيرة، وقد ساهمت المجلة في رسم صورة توضيحية عن القصة القصيرة في أوساط المتحدثين بالإنجليزية”. وأشار مفاليلي أيضا إلى قصص المجلة قائلا “إنها قصص قصيرة تجنح للهروب من الواقع إلى الخيال”.

قصص أفريقية تقدم خيالات عن العنف والشراسة والوحشية وتتمركز في معظمها حول حياة الأشقياء والصراع الحضاري

ويتابع عبدربه “أما توم هوبكنسون ـ الذي تولى رئاسة تحرير المجلة في بداياتها ـ فقد علق في أحد المقالات قائلا: حين بدأت في مباشرة عملي بالمجلة كان أول ما شدني وأدهشني هو ذلك الكم الكبير من القصص المرسَلة، وبخاصة حين تم الإعلان عن مسابقة القصة القصيرة؛ ولأنني أميل نحو الدقة في التقييم فقد قرأت كل القصص ووجدت أن ست قصص منها تحكي عن الحب، وواحدة أو اثنتين عن الطبيعة والأسود والنمور، وأما غالبية القصص فكانت عبارة عن خيالات عن العنف والشراسة والوحشية، وتتمركز في معظمها حول حياة الأشقياء في الأقسام الإدارية بالمدينة، أو في محاولة إيجاد مبرر يمنح الصفة الشرعية للعنف كما يحدث في حلبات الملاكمة. كان الموضوع الغالب ـ بشكل أو بآخر ـ هو الخراب والتدمير والهدم”.

وفي مجموعة مقالاته Home amd Exile عَلَّق لويس كوسي على قصص مجلة Drum قائلا “بالرغم من الأكاديمية المصاحبة لمجلة Drum ـ على الأقل في بداياتها ـ فإن أهمية المجلة لا يجوز إنكارها، ويكفي أنها كانت السبب الرئيسي وراء ظهور وانتشار العديد من كتَّاب القصة الذين يتمتعون بموهبة كبيرة في معظم أرجاء القارة الأفريقية، وبشكل خاص في جنوب أفريقيا”.

ويؤكد أن مجلة Spear في نيجيريا ومجلة Drum واسعة الانتشار لم تكونا وحدهما في ذلك المجال؛ حيث ظهرت مجلات أخرى في مختلف عواصم القارة الأفريقية كان لها الفضل أيضا في انتشار القصة القصيرة، غير أن تلك الإصدارات انتهجت شكلا مختلفا، وراحت تتوجه إلى قارئ واع وعلى دراية بشؤون حياته كما حدث مع مجلة Black Orpheus الصادرة من نيجيريا والتي توقفت عن الإصدار مدة طويلة، ثم عادت للظهور مؤخرا على يد الكاتب المسرحي النيجيري جون بيير كلارك، ثم مجلة Transition في أوغندا، ومجلة Darlite في تنزانيا، وكذلك مجلة Okyeame في غانا.

هكذا بدأت القصة في الذيوع من خلال تلك الدوريات التي كانت السبب الرئيسي في ظهور كوكبة رائعة من كتَّاب القصة في مختلف البلدان الأفريقية، والتي اخترنا منها بعضا من أولئك المبدعين في هذه المجموعة التي بين أيدينا.

تصادم حضاري

l

يوضح عبدربه “أثناء اختياري لقصص المجموعة حاولت ـ قدر استطاعتي ـ أن يجمعها خط واحد ومشترك يتمثل في ثلاثة محاور: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، الاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقبول. لقد ابتدع الكاتب الأفريقي شكلا جديدا في القصة القصيرة، ولنضرب مثالا على ذلك بأحد قصص هذه المجموعة، وهي قصة ‘سارزان‘ للكاتب السنغالي المعروف بيراجو ديوب؛ حيث الاستخدام الرائع للشعر والنثر معا، والتي تذكرنا بالكاتب الأفروأميركي جين تومر في رائعته Cane”.

تضم المجموعة ثلاث قصص من جنوب أفريقيا: الأولى بعنوان “الياقوتة” للكاتبة نادين جورديمر، ثم قصة “مسز بلوم” لصاحبها حزقيال مفاليلي، وأخيرا قصة “مسألة تذوق” للمبدع المتميز أليكس لاجوما، وسيجد القارئ في بداية كل قصة ملاحظات إضافية أو نبذة متواضعة تتعلق بكل كاتب؛ لعلها تساعد في إلقاء بعض الضوء على شخصية الكاتب. والملاحظ في تلك القصص الثلاث أن الاحتجاج هو القاسم المشترك بينها، مع أهمية الإشارة إلى أن السخرية في قصة مفاليلي تشغل حيزا أكبر.

ويشير إلى أن هذه المجموعة النصوص/القصص ليست إلَّا محاولة للإشارة إلى ما حدث من تطور للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية، يعطي للقارئ فرصة لاكتشاف مواطن الجمال والإبهار بنفسه، لكنه في النهاية يشير إلى أن قصص هذه المجموعة وغالبية أشكال الكتابة الأفريقية الأخرى نوع من الهجين الأدبي؛ أي أنها ترتكز على خلفيتين ثقافيتين مختلفتين كل الاختلاف (أفريقيا والغرب)، وهنا يمكن القول إن أفريقيا والغرب هما الموضوع الغالب على معظم قصص هذه المجموعة، ذلك الموضوع الذي يمثّل تصادم الحضارتين الموضوع الأكثر شيوعا في الأدب الأفريقي بمختلف أشكاله.

ويبين أننا نستطيع أن نرى ذلك بوضوح في التصادم الذي يمثّله الدّين الغربي في قصة أبيوسيه نيقول الرائعة “امرأة متزوجة حقّا” أو في نوع آخر من التصادم يتمثل في التعليم الغربي كما في قصة “لقاء في الظلام” للكاتب الكيني الشهير جيمس نجوجي أو “نجوجي واثيونجو” الاسم الجديد الذي اختاره لنفسه بدلا من الاسم الغربي “جيمس” أو ذلك التصادم الذي يتعرض لإظهار أوروبا نفسها كما في قصة “سارزان” وقصة “فتاة سوداء”، وكذلك في قصة “الحجرة المظلمة”.

12