الدولة الاجتماعية الجزائرية.. العقيدة والطوارئ

بين تعهدات الاستقلال الوطني بضمان العيش الكريم لكل الجزائريين، وبين تسيير الحكومات المتعاقبة للتحويلات الاجتماعية السنوية، تختفي سياسات رسمية شابتها العشوائية والفساد، وتحولت بمرور الوقت إلى عبء ثقيل على كاهل الاستقلال الوطني نفسه وعلى سيادته، فالمال الذي لا يخلق الثروة سيتحول إلى أزمة، فعند العجز عن توفيره سيكون أول بؤرة تهدد بالانفجار.
دون سابق إنذار طفت على السطح أزمة بقوليات جافة، وبين الندرة وارتفاع الأسعار، وجدت الحكومة نفسها في مواجهة أزمة لم تكن في الحسبان، رغم أن المواد المذكورة لا تستهلك كثيرا في فصل الحرارة، وكغيرها من الأزمات العابرة جاءت الحلول عابرة أيضا، لكنها مكلفة وغير مفهومة إلا من زاوية العودة إلى التسيير الاشتراكي لكل شيء في البلاد.
عمدت الحكومة إلى استحداث متاجر تقع تحت وصايتها، بعدما قررت احتكار تجارة البقوليات الجافة، فتطبق فيها أسعارا يظهر أنها مناسبة للقدرة الشرائية المنهكة، لكنها تستنسخ مظاهر وصور سبعينات القرن الماضي، لما كان يجري الاصطفاف أمام المتاجر الحكومية الاشتراكية للحصول على سلعة ما.
وإذا كان الأمر آنذاك يتعلق بنمط اقتصادي واجتماعي تم اختياره علنا، فإن ما يجري مع العدس والفاصولياء والأرز في زمن اقتصاد السوق أعاد اللبس إلى النهج الذي تريده الجزائر في الألفية الجديدة، فلا هو اشتراكي ولا هو ليبرالي، وأقرب وصف له هو نمط بيروقراطي يستنفد الجهد والمال والوقت والمقدرات، ولو كان مبرره الحفاظ على القدرة الشرائية للجزائريين.
الدولة الاجتماعية المطلوبة هي تلك التي تهتم ببناء الإنسان، فتكون بمثل تلك الجمعيات أو المنظمات التي تمكن الأفراد بمساهماتها من توفير دخلهم القار، على أن يكونوا في العام أو الأعوام الموالية متبرعين في صندوق تلك الجمعية أو المنظمة
الطابع الاجتماعي للدولة هو واحد من تعهدات الاستقلال الوطني، وأبرز الخطوط في مختلف المواثيق والدساتير وخطابات الساسة، لكن أن يتحول إلى طوابير يومية من أجل اقتناء الحليب أو الأرز أو العدس، فهو أسلوب بيروقراطي لا مكان فيه لقيمة العمل والوقت من أجل ربح بعض الدينارات في مادة من المواد.
ويبدو أن السياسة الاجتماعية تحولت في ظل قصور الاستشراف والتخطيط الحكومي إلى خدمات طوارئ تتدخل عند حدوث الأزمات، بدل أن تتوقع وتخطط لمنع حدوثها أصلا، فرغم أن مسألة الأمن الغذائي صارت من بديهيات العمل السياسي في السنوات الأخيرة، فإن الجزائريين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بين فكي أزمة بقوليات جافة.
أسعار المواد المذكورة ارتفعت في كل أسواق العالم نتيجة تراجع الإنتاج لظروف الجفاف والتغير المناخي الذي ضرب مزارعها في كندا وأميركا اللاتينية وحتى أفريقيا، وللحرب الجارية في أوكرانيا منذ عام ونصف العام، لكن الحكومة الجزائرية تخلفت عن توفير مخزونها الإستراتيجي، أو أن هذا ما جنته سياسة ضبط الاستيراد من أجل توفير دولارات جديدة في صندوق النقد الأجنبي على حساب الحاجيات الأساسية للجزائريين.
أحد الحكماء نصح أبناءه البخلاء بـ”الأكل والشرب الجيد، بدل أن يضطروا إلى إنفاق أموالهم في شكل دواء وتحاليل”، لأن الحكيم يرى أن الاهتمام بالإنسان هو الذي يحول دون الوقوع في أزمات مفاجئة، وهو ما ينطبق على التسيير الحكومي للملف الاجتماعي والاقتصادي، فما معنى اكتناز 85 مليار دولار في صندوق النقد الأجنبي والحاجيات الأساسية غير متوفرة أو ليست في المتناول؟
بغض النظر عن ردود الفعل الطبيعية على مثل هذه الأوضاع في شكل انفجارات اجتماعية، فالأجدر هو عقلنة الإنفاق، حتى لا تصل الحكومة إلى صرف الـ85 مليار دولار في الدواء والعلاجات بسبب سوء التغذية ونقص الفيتامينات وتفشي الأمراض.
الجزائر من أكبر دول المنطقة والقارة والعالم العربي التي ترصد موازنات سنوية ضخمة من أجل الدعم الاجتماعي لم تنزل عن سقف الـ17 مليار دولار، فهي تدعم السكن، والعلاج، والطاقة، والماء، والمدرسة، والجامعة، والخبز والسكر والزيت.. وغيرها، لكن هل حقق كل ذلك النتائج المرجوة؟
لا، ولن يتحقق، لأن السياسة الاجتماعية المتوارثة والمطبقة لأغراض امتصاص الغضب الاجتماعي كرست ذهنية “البايلك”، وهو القطاع العمومي الذي يدافع عنه الكل، والكل ينهبه، وعلمت الناس من رأسهم إلى أخمص قدميهم السرقة والنهب، والاتكال على “الدولة” المطالبة بكل شيء.
السياسة الاجتماعية المتوارثة والمطبقة لأغراض امتصاص الغضب الاجتماعي كرست ذهنية "البايلك"، وهو القطاع العمومي الذي يدافع عنه الكل، والكل ينهبه، وعلمت الناس من رأسهم إلى أخمص قدميهم السرقة والنهب، والاتكال على "الدولة"
كان يمكن الوفاء لتعهدات الاستقلال الوطني ببناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية بتوفير فرص ضمان العيش الكريم للجميع، لكن بعيدا عن سياسة توزيع الريع وتسخير المال في خدمات الطوارئ السياسية والاجتماعية، حيث صارت مهمة الخزينة العمومية هي إطفاء التوترات والتدخل لضبط أسعار هذه المادة أو تلك.
في سنوات سبقت التحول الاقتصادي عن النظام الاشتراكي، كانت شركة نقل المسافرين الحكومية تمتلك حافلات من صنع ألماني، ولا تنافسها أي شركة على خطوط النقل، ورغم ذلك انتهت إلى الإفلاس، لكن بعدها شركة نقل خاصة بحافلات مهترئة استمرت في الخدمة منذ الثمانينات إلى الآن، وهذا نموذج حي للبس المتكلس في الأذهان بين الدولة الاجتماعية وبين ذهنية “البايلك”.
وهو ما يفرض ضرورة الذهاب إلى مراجعة دقيقة لمفهوم الدولة الاجتماعية التي تضمن العيش الكريم للجميع، وليس للتغطية على قصور وسوء تخطيط الحكومات، بتسخير الخزينة في امتصاص غضب الجبهة الاجتماعية على تدهور هذه الخدمة أو غلاء سعر تلك المادة، أو اكتناز الثروة الاستعراضي على حساب المواد الأساسية.
الدولة الاجتماعية المطلوبة هي تلك التي تهتم ببناء الإنسان، فتكون بمثل تلك الجمعيات أو المنظمات التي تمكن الأفراد بمساهماتها من توفير دخلهم القار، على أن يكونوا في العام أو الأعوام الموالية متبرعين في صندوق تلك الجمعية أو المنظمة، ويسمح لها بتوسيع دعمها إلى أفراد جدد وهكذا دواليك، فتتراجع الأيادي السفلى لصالح الأيادي العليا.
وأما أن يستمر مفهوم الدعم الاجتماعي في مساعدة الفقراء والمساكين والطبقة الهشة، دون تغيير أوضاعهم إلى الأحسن، فإن الأمر سيكون بمثابة الأسطوانة التي يعاد تشغيلها كلما وصلت إلى دورتها الأخيرة، إلى أن تصبح أسطوانة مشروخة، وهكذا لا هي أفادت ولا هي استفادت وهكذا تتبخر أموال الدولة.