فيلم "كذب أبيض".. رحلة استكشافية لأسرار من عمق التاريخ والهوية المغربية

الفيلم نجح في دمج البُعدين الشخصي والتاريخي بشكل متقن، مما أضاف للحكاية عمقًا وزاد من تأثيرها على الجمهور.
الخميس 2023/08/31
فيلم يسترجع ذكريات مؤلمة

“كذب أبيض” أو أيضا (أمّ الأكاذيب) هو وثائقي مغربي يستكشف الماضي المليء بالأسرار في عائلة المخرجة أسماء المدير، حيث يسلط الضوء على تاريخ المملكة المغربية خلال فترة “سنوات الرصاص” في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. ونظرًا لعدم توفر صور أرشيفية، قامت المخرجة بابتكار آلية ذكية من خلال تصوير نموذج لمنزلها القديم في الدار البيضاء خلال طفولتها، واستخدمت تماثيل لتصوير ماضي أسرتها.

الرواية مميزة بعمقها وتعقيدها، حيث يتم استكشاف الجوانب الشخصية والسياسية ببراعة. يظهر السيناريو بشكل متقن كيف يتداخل الشخصي بالسياق السياسي، حيث تعيش الشخصيات توترًا مستمرًا بين شكوك حول هويتهم الشخصية وذكريات مؤلمة عاشوها في المغرب.

تأخذ بطلة القصة الشخصية الرئيسية، أسماء، في رحلة استكشافية تبحث فيها عن الحقيقة والهوية. من خلال كاميرا الفيديو الخاصة بها، تتناول أسماء الأسرار والأكاذيب التي اجتمعت حول تاريخ عائلتها. تُظهِر هذه الأكاذيب أحداثًا مؤلمة من تلك الفترة، والتي تشهد على انتهاكات حقوق الإنسان.

يتميز الفيلم بأسلوبه البصري الرائع واهتمامه الواضح بأدق التفاصيل. يتم تسليط الضوء على تصوير جمالي للمشاهد واستخدام الإضاءة بذكاء لتعزيز التجربة السينمائية. تُظهِر البيئة المرهقة والمنازل المصغرة المُصنَّعة يدويًا رموزًا تعبّر عن الذكريات المؤلمة وتحمل معانٍي عميقة حول الماضي والحاضر.

◙ "كذب أبيض" نجح في دمج البعدين الشخصي والتاريخي بشكل متقن، مما أضاف للحكاية عمقا إضافيا وزاد من تأثيرها على الجمهور
"كذب أبيض" نجح في دمج البعدين الشخصي والتاريخي بشكل متقن، مما أضاف للحكاية عمقا إضافيا وزاد من تأثيرها على الجمهور

أظهر سيناريو فيلم “كذب أبيض” براعة في تقديم الشخصيات والأحداث. تصف الكلمات الطريقة التي تم بها تجميع خيوط القصة، حيث تم استغلال العناصر بشكل محكم لتكوين توليفة مترابطة. البداية المبهرة تعكس عمق القصة منذ اللحظة الأولى وتلقي الضوء على أسئلة الهوية والغموض الذي يحيط بالشخصيات وتصاعد الصراعات الداخلية للشخصية الرئيسية.

هذا يعكس تقنية تناول الشخصيات بشكل عميق، حيث يتم استكشاف تحولاتها العاطفية والنفسية على مر الأحداث. بالإضافة إلى ذلك، يتضح أن المقدمة المشوقة تعمل على إثارة فضول المشاهدين وتجعلهم يتوقعون تطورات مثيرة في القصة.

إن الطريقة التي تم بها توجيه القصة وبناؤها من خلال السيناريو تعكس عمقًا في التفكير وفهما للدراما والتشويق. يبدو أن هناك اهتمامًا كبيرًا بإيجاد توازن بين العناصر المختلفة لخلق تجربة مثيرة ولا تنسى للمشاهدين.

يعكس الأسلوب الفني للمخرجة تنوعًا ملحوظًا، حيث تمزج بين العناصر المتنوعة والمتداخلة. وبفضل هذا الأسلوب، تتمكن القصة من الانتقال عبر مستويات مختلفة من التفسير والفهم من خلال استخدام الدمى والصور والرموز، وتعبر المخرجة عن إعادة إحياء للقصة التي حاولت عائلتها التعتيم عليها. يقوم هذا الأسلوب بمنح الأحداث التاريخية أبعادا جديدة ويرتبط بها من خلال تجربة بصرية فريدة.

ويبدو أن المخرجة أسماء المدير قد قامت بعمل رائع في تحقيق التوازن بين البُعدين الشخصي والتاريخي. وتتجلى مهارة الإخراج في القدرة على استخدام العناصر المختلفة مثل الإضاءة، والإطار، وتقنيات التصوير لصياغة المشاهد بشكل ينقل المشاعر والتعقيدات العاطفية للشخصيات والتقاط اللحظات الدقيقة، وقد استطاعت إضفاء الكثير من الأصالة والواقعية على العمل من خلال الاهتمام بعناصر البيئة والموقع والأشياء التي تتفاعل معها الشخصيات. هذه التفاصيل تضيف لمسة خاصة إلى العمل وتساهم في إيقاظ ذاكرة الشخصيات وكشف جوانبها الخفية.

نجح فيلم “كذب أبيض” في دمج البُعدين الشخصي والتاريخي بشكل متقن، مما أضاف للحكاية عمقًا وزاد من تأثيرها على الجمهور. فمن خلال تصوير تطور الشخصيات يمكن للمشاهد أن يرى كيف تتفاعل هذه الشخصيات مع تفاصيل الماضي العائلي المعقد. تُظهر لنا التجارب الشخصية كيف يؤثر التاريخ الشخصي على نمو الشخصيات وتطورها، وكذلك كيف يشكل الجزء الأساسي من هويتهم.

◙ الطريقة التي تم بها توجيه القصة وبناؤها من خلال السيناريو تعكس عمقًا في التفكير وفهما للدراما والتشويق
الطريقة التي تم بها توجيه القصة وبناؤها من خلال السيناريو تعكس عمقًا في التفكير وفهما للدراما والتشويق

استخدم الفيلم تقنيات التصوير ببراعة لتعزيز تلامس البُعدين. الكاميرا تلعب دورًا مهمًا في إبراز هذا التفاعل بين الأبعاد المختلفة للحكاية. كذلك يساهم الجانب التحقيقي للتصوير في جعل الأحداث تبدو واقعية وملموسة، بينما يتيح الجانب الروحاني التعبير عن الجوانب العاطفية والروحية للقصة. كما يبدو أنه تم التلاعب بالتقنيات المرئية لتحقيق هذا التأثير المميز، مما يعزز من تجربة المشاهدين ويجذب انتباههم على مستوى العقل والقلب.

من ناحية أخرى، حقق أداء الممثلين في فيلم “كذب أبيض” مستوى عاليا من التألق والاحترافية. يبدو أنهم نجحوا في تجسيد شخصياتهم بشكل متقن ومعقد، مما يشير إلى امتلاكهم لمهارات تمثيلية عالية. وتميز أداءهم بالقدرة على توصيل مشاعر الشخصيات بطريقة عميقة ومؤثرة، مما يعزز تفاعل الجمهور مع الأحداث والتطورات في القصة.

ومن خلال تسليط الضوء على الشخصيات الرئيسية التي قامت بتقديم أداء استثنائي ومقنع تمكن الفيلم من نقل مشاعر الشخصية ببراعة، مما يجعل الجمهور يشعر بتجربة الشخصية ويفهم تحولاتها العاطفية والنفسية، كما أن هناك تناغمًا مثاليًا بين بقية أعضاء الفريق الفني. هذا التناغم يتجلى في تفاعل شخصياتهم وتكاملها، مما يسهم في إضفاء طابع فريد ومميز على تقاطع الأحداث يثري تجربة المشاهدين ويجعلهم مشتاقين لمتابعة تطورات القصة وينغمسون في عوالم الشخصيات والأحداث.

استغرق تنفيذ هذا الفيلم عشر سنوات، وسمح للمخرجة بالتفاعل مع ماضيها حتى وإن كان مؤلمًا في بعض الأحيان. كما شارك أفراد من عائلتها في تجسيد الأحداث.

ويمكن القول إن هذا الوثائقي يسعى إلى تنويع السينما المغربية وتحفيز الشباب على الانخراط في هذا المجال. وتجد هذه الدعوة تأييدًا من قِبل مبتدئين في الإخراج مثل زينب وكريم اللذين حققا نجاحًا ملحوظًا بفيلمهما القصير “آيور”، الذي يصور قصة شابين مصابين بمرض وراثي نادر.

الخلاصة أن الفيلم يجمع بين الجوانب الشخصية والسياسية بطريقة معقدة، حيث تعبِّر أسماء عن تجربتها في تخطي التحديات الشخصية والعائلية لتسليط الضوء على قصة جيل سابق وتأثير السياسة والظروف الاجتماعية على الفرد والعائلة.

14