رسالة فاروق هلال بأصابع مرتعشة

إذا كان فاروق هلال موضع رعاية اليوم من قبل تلميذه المايسترو علاء مجيد فإن وحدته الشخصية أقسى بكثير من أن تختصرها ذكرى أغان!
الاثنين 2023/08/28
لن يغادر فاروق هلال الذاكرة والذائقة السمعية

بينما كانت البلاد تنفض عن نفسها غبار الحرب والأناشيد عام 1991، كان فاروق هلال مشغولا بالقصيدة لإضفاء لمسة موسيقية عراقية عليها، لم يجد بين أصوات أبناء جيله من يعول عليه، فانفتح على جيل شاب خرج من تحت يديه. سألته لماذا، ألم يكن الأجدر أن تعيد المجد لتلك الأصوات التي أرخت لذائقتنا؟ قال عليك أن تترقب ما يعيد الأمل للأغنية العراقية.

وبالفعل غنى قصيدة “بلدي” و”هكذا يلعب المحاصرون” بصوته، بينما توج صوت الفنان الشاب جمعة العربي بقصيدة “الهاتف” وكل تلك النصوص كانت للشاعر رعد بندر.

كان على الجميع أن يعيدوا اكتشاف موسيقى فاروق هلال وقتها، بيد أن ملحنا عراقيا بارعا استاء من مقال لي قبل أشهر في هذه الزاوية، عندما كتب لي مستنكرا إطلاق لقب الموسيقار على فاروق هلال بذريعة أن كل إنتاجه المؤثر على مدار عقود لم يتعد الأغاني العشر. وهذا صحيح وفق مدونة الأرقام لكنه غير عادل وفق تعبيرية هلال وأثرها على الذائقة السمعية.

لماذا أعود لفاروق هلال اليوم، لأن هذا الموسيقار الثمانيني وهو يعود أدراجه إلى بغداد بعد سنوات من الاغتراب المرير، كتب قبل أيام ما يشبه رسالته الأخيرة بأصابع مرتعشة يخاطب تلميذه المايسترو علاء مجيد الذي تكفل برعايته بالقول “سأذكر علاء في الحياة الأخرى كأروع نموذج مر بحياتي”.

بوسعي أن أقول إن هذا الفنان من كبار مدوني التعبيرية اللحنية، لأن أثره الموسيقي لم يقتصر على أبناء جيله بعد أن فتح الطريق أمام أصوات وملحني جيل الثمانينيات في برنامجه التلفزيوني الشهير “أصوات شابة”.

رسالة كتبت بأصابع مرتعشة
رسالة كتبت بأصابع مرتعشة

لا يغيب لحنه الباهر لصوت مائدة نزهت “سألت عنك” كلما أُستُذكر هلال، تلك الأغنية التي كتبها عبدالكريم مكي تأبى أن تغادر جوهرة قلادة الغناء العراقي، لكن على حساب الألحان الأخرى، لأنه كان قد اختار نصا للشاعر نفسه في أغنية “خطار” وقدم حسين نعمة بصورة مفعمة بالحب عن ذاك الملتاع المتسائل في ألحان محمد جواد أموري ومحسن فرحان. قدم أيضا ياس خضر بلحن مهذب بعيدا عن أغانيه المفرطة بالأنين آنذاك، فعرفنا ياس مختلفا في “راح ومشى” بينما تحوّل لحنا “ردت أنساك” و”كلمن يحن إلى هله” لصوت صلاح عبدالغفور أشبه بترنيمة سائدة على الشفاه العراقية وزاد من أثر الأغنية الأولى عندما صورت في شط العرب حيث السفن الذاهبة والراسية تحمل إشارة اللانسيان.

ومن يعود إلى أغنية “أحسب ليالي” التي كتبها غازي ثجيل وقدم فيها فاروق هلال صوت سيتا هوكبيان بمسحته الحداثية، يشعر بقدرته في التعبير عن روح المفردة العراقية مع آلات غربية.

وتكاد تكون تجربته مع الفنان الكويتي عبدالله الرويشد في أغنية “علمني عليك” التي كتبها أسعد الغريري علامة فارقة في الأغنية العراقية.

فاروق هلال الذي يعد من جيل ستيني فني والمتخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1957، أحد أهم مؤرخي الأغنية العراقية والمخلصين لها، كان يعمل من أجلها لذلك بقي أثره التاريخي، منذ أغنية “يا صياد السمك” التي قدمته منتصف الستينيات، ثم الأغنية المفعمة بالتوق الكامن التي كتبها كاظم عبدالجبار “تعاليلي”.

فيما تحولت أغنيته الشهيرة “البنت” إلى فاصلة لحنية متكيّفة مع نصوص على منوالها، فأعادت تقديمها لاحقا الفنانة سيتا هوكبيان بعد أن تحولت مفردة “البنت” إلى “الولد” ثم عندما أراد الفنان فؤاد سالم أن يناجي ابنته “نغم” البعيدة عنه بعد سنوات من الفراق أعاد نفس اللحن بأغنية معبرة عن أوجاعه التي لم تتوقف حتى رحيله.

فإذا كان فاروق هلال موضع رعاية اليوم من قبل تلميذه المايسترو علاء مجيد، فإن وحدته الشخصية أقسى بكثير من أن تختصرها ذكرى أغان!

18