"أنا يوسف يا أبي" بورتريه سينمائي عن يوسف عبدلكي بعدسة محمد ملص

مشروع سينمائي يواصل توثيق سير أشهر الفنانين والمثقفين السوريين.
السبت 2023/08/26
عدسة تهتم برواد الفن السوري

تغيب الألوان المبهجة في دقائق فيلم “أنا يوسف يا أبي”، ولا يحضر كرنفال الألوان الذي عادة ما تحتفي به السينما. فالفيلم بورتريه سينمائي عن فنان عرف بفن الغرافيك وقلم الفحم وعلاقته الوطيدة مع اللونين الأبيض والأسود ما عاشه يوسف عبدلكي خلال عشرات السنين من حكايا مؤلمة سجله محمد ملص في فيلمه التسجيلي الأحدث الذي نبش فيه وجعا عاشه عبدلكي كما عاشه الوطن.

دمشق - في لحظة ألم عاصف، يقتنص محمد ملص رعشات نازفة من ذكريات الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي (1951) وهو يتحدث عن والده. لحظات صمت يقطعها صوت عبدلكي المتهدج بين البكاء والكلام وهو يروي حكاية نجاة والده من الموت تحت التعذيب بسبب غانية تدخلت لدى الضابط لإنقاذه في خمسينات القرن الماضي.

يبكي عبدلكي بحساسيته المفرطة أمام عدسة محمد ملص في فيلم سينمائي يقدم تفاصيل عن حياته وآلامه، وكان سبقه نزيه الشهبندر منذ سنوات طوال في فيلم “نور وظلال”، عندما بكى قهره ووحدته مع بقايا آلاته السينمائية التي طواها النسيان مواجها لحظة يقينه بأنها ستكون إلى مآلات الرمي مع النفايات من قبل أولاده.

يبدو ملص في فيلمه الأحدث “أنا يوسف يا أبي” متعمقا في تقديم مكاشفات مكانية وزمانية يروي من خلالها سطورا من حيوات شخص ومدينة وجيل ووطن. فمنذ فيلم “القنيطرة 74” بدأت حكاية المكان والزمان لديه وصولا إلى فيلم “المنام” الذي سجل أحلام أطفال في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وفي أول أفلامه الروائية الطويلة حكى تاريخ مدينة بأمكنتها وزمانها منهيا إياه برواية سياسية عن أول وحدة عربية جمعت بين سوريا ومصر، وفي فيلم “الليل” تابع الحكاية المأزومة. أما فيلم “سلم إلى دمشق” فكان حكاية عن حرائق في دمشق المكان والزمان التي بدأت عام 2011 وكانت تنذر بالكثير مما يجب أن يحكى.

في فيلم “أنا يوسف يا أبي” يغير ملص وعبدلكي أدوارهما، فيوسف وهو الفنان التشكيلي ليس صانعا لمشروع بورتريه عن شخص أو فنان، كما العادة عند الرسامين، ولا يقدم ملص حكاية روائية في شريط سينمائي. يوسف عبدلكي هو الموضوع والهدف السينمائي هنا، والحدث بورتريه سينمائي يقدمه محمد ملص عن تشكيلي شهير، يعد إحدى قامات الفن التشكيلي السوري المعاصر.

ليس المكان في سينما محمد ملص جغرافيا تجسدها المساحة، بل هو سجل حافل بالذكريات والحكايا، ولكل مكان تفاصيله الحياتية والزمنية، ويمكن من خلاله رواية طيف من الحكايا التي تقدم شهادات عن تاريخ ومجتمعات وفنون وأزمات وأحلام وانكسارات.

مقاومة النسيان

المخرج يقدم رصدا لمحطات شخصية وإبداعية رافقت حياة عبدلكي، بدءا من وجوده بدمشق ثم اغترابه عنها في باريس
المخرج يقدم رصدا لمحطات شخصية وإبداعية رافقت حياة عبدلكي، بدءا من وجوده بدمشق ثم اغترابه عنها في باريس

في فيلم “أنا يوسف يا أبي” يحضر المكان كخيار ضيق في حسبة المساحة، لكنه يحمل عالما واسع الآفاق يمتد إلى أحلام وآلام العشرات من السنين. المكان مرسم الفنان يوسف عبدلكي في سوق ساروجة في قلب مدينة دمشق، تجوبه كاميرا ملص لتسجل فيه بلغة سينمائية هادئة صور عدد من اللوحات أو بعض مشاريع اللوحات التي يعمل عليها. هنا تتجلى زوابع الأبيض والأسود التي رغم محدودية اللون فيها، تحمل حرارة الفكرة وترجمة اللون وتدرجاته وتكوين اللوحة، لتشعل في البال الكثير من الأسئلة الهادئة حينا والصاخبة حينا آخر.

تظهر وجوه وأشخاص وأشياء وأسماك في مكان ما، يرسم عبدلكي لوحة لم تنته بعد، وكما العادة بالأبيض والأسود، تظهر فيها نساء متشحات بالقلق والانتظار على باب سجن لزيارة ابن ووالد وأخ. في هذا المكان الضيق يروي عبدلكي تفاصيل من حياته الشخصية والفنية التي شكلت محطات بارزة في حياته.

وكعادته يتناول محمد ملص موضوعات أفلامه وينحت من ذاكرته الشخصية والجماعية ما يقاوم به سطوة الزمن ونهمه في محو ذاكرة الناس، يقاوم ملص تناسي المجتمع والأفراد لما يشكل قيمة حضارية مضافة في وجدان الناس لبعض قيمه العليا. مشروعه الإبداعي يقوم على حماية الوجدان الشعبي للناس وتحصين ذاكرته. إنه الحفاظ على الذاكرة الوجدانية.

ويقدم محمد ملص في فيلمه “أنا يوسف يا أبي” رصدا لمحطات شخصية وإبداعية رافقت حياة عبدلكي، بدءا من وجوده بدمشق ثم اغترابه عنها في باريس ما يقارب ربع قرن وعودته إليها بعد ذلك. وهي التجربة التي يتحدث عنها عبدلكي ليقدم للمشاهد عصارة تجربته بين الشرق الذي ينتمي إليه الذي سماه بالروحاني والغرب الذي عاش فيه مطولا ويدعوه بالعلمي أو المقنن، مبينا كيفية إفادته القصوى من الجمع بين التيارين. كما يقف بتأمل طويل عند طبيعة العلاقة المتميزة التي جمعت بين عبدلكي ووالده، السياسي العنيد الذي سجن اثنتي عشرة مرة بسبب توجهاته، عذب خلالها وكاد يقتل.

الوصايا العشر

غغ

عنوان الفيلم يحمل مقاربة لملمح ديني، يتجلى في تماثل عنوانه مع آية قرآنية جاءت في سورة يوسف. فهل يحمل الفيلم ذلك التناص السينمائي؟ يبين محمد ملص: “لا يقدم الفيلم هذا التناص بل يذهب في اتجاه آخر. فيه تحضر شخصية والد يوسف عبدلكي بقوة، وهو من أوجد ملامحها وتوجهاتها الفكرية مبكرا مطالبا ابنه بأن يحافظ عليها، بعد أن دفع ثمنا غاليا من أجل الحفاظ على أفكاره ومبادئه العليا. وقد تشرب يوسف كل هذه القيم وأراد أن يثبت لوالده أنه سيكون متابعا على طريقه السياسي والفكري رغم كل الآلام والمصاعب التي واجهها. وكأنه يريد أن يطلق صرخة من أعماق ذاته.. أنا يوسف يا أبي الذي أردته أن يكون. أنا يوسف يا أبي..”.

قبل سنوات دعا محمد ملص وعمر أميرلاي وأسامة محمد إلى إنجاز مشروع سينمائي تأريخي هام سموه “الوصايا العشر”. الهدف منه إنجاز أفلام عن قامات سورية هامة حققت وجودا متميزا على ساحة الإبداع والفكر والسياسة. وأنجز من المشروع بعض محطاته، منها فيلم “نور وظلال” عام 1994 الذي قدم شخصية الرائد السينمائي الشهير نزيه الشهبندر كأول سينمائي سوري أدخل الصوت للسينما واخترع آلات سينمائية وأجهزة صوت، كما أنجز فيلم عن فاتح المدرس حمل عنوان “مدرس” عام 1995، وثالث الأفلام كان “حلب مقامات المسرة” عن المطرب الحلبي الراحل صبري المدلل عام 1999.

ملص في فيلم "أنا يوسف يا أبي" يقدم مكاشفات مكانية وزمانية يروي من خلالها حيوات شخص ومدينة وجيل ووطن

عن المشروع والفيلم يرى ملص أن “فيلم ‘أنا يوسف يا أبي’ يمكن اعتباره ضمن هذا المشروع الذي بذلنا فيه جهدا كبيرا في إنجاز أفلامه السابقة، كان وجود الشرط الإنتاجي المريح عائقا في تنفيذ الأفكار، وكنا نتغلب على الموضوع بإيماننا بالمشروع وتكامل إمكاناتنا التي كنا نضعها بشكل شبه مجاني لكي ننجز الفيلم، واستطعنا رغم كل المعوقات إنجاز عدد منها. يوسف عبدلكي قامة فنية كبيرة، تشكل في المشهد الفني السوري علامة فارقة، وأنا مطلع على مسار تجربته منذ بداياتها حتى الآن ورغبت في أن يكون ضمن مشروع ‘الوصايا العشر’ الذي كنا بدأنا فيه بمناسبة احتفالات مئوية السينما في العالم مع نزيه الشهبندر”.

وعن ظروف إنتاج الفيلم يتابع محمد ملص “كما العادة كنا أمام شرطية الإنتاج الحرجة، ولم يكن هنالك شرط إنتاجي مريح، الأمر الذي دفعنا مجددا إلى إيجاد صيغة تعاون مع مجموعة من الأصدقاء لتقديم جهودهم وإمكاناتهم حتى نحقق الفيلم. شركة ‘دنيا فيلم’، وهي شركة تعود ملكيتها إليّ وزوجتي، قامت بتحضير السيناريو والإخراج وقدم الصديق وائل عزالدين مدير الإضاءة المعروف تجهيزات الإضاءة والتصوير وفريق العمل كاملا. وساهم آخرون معنا وتم تنفيذ الفيلم ونتابع الآن عمليات توزيعه. كانت مراحل العمل سلسة وأنا من طلب توقيف التصوير عندما اقترب الموسم الدرامي الرمضاني لكي تتاح الفرصة لوائل لاستثمار التجهيزات كونها تحقق في هذه المرحلة عوائد مالية جيدة لأصحابها، ثم عدنا إلى التصوير بعد نهاية هذه المرحلة. الفيلم تم في النهاية، وسجلنا وثيقة تاريخية عن فنان سوري كبير يجب أن يوثق له”.

13