طرف المعادلة الغائب في أمن الحدود الجزائرية

قدر الجزائر أن تتقاسم ستة آلاف كيلومتر من الحدود البرية مع دول الجوار منها 2400 كيلومتر مع بلدين هشين هما مالي والنيجر وأكبر تحد يواجهها هو حماية السيادة الترابية وتأمينها.
الجمعة 2023/08/25
حدود ملتهبة

“الهلال الأحمر الجزائري يرسل مساعدات لسكان برج باجي مختار إثر الفيضانات التي شهدتها المنطقة”.. بمثل هذه العناوين لا زال الإعلام الجزائري يتعاطى مع الشأن العام بجنوب البلاد، لدرجة أن يجبر القارئ على التمعن في المفردات والتساؤل إن كان سكان تلك البلدة جزائريون، وإن كانت برج باجي مختار من ضمن الجزائر، ولماذا تعرف مهام الهلال الأحمر دائما بمفردة “يرسل”، وكأن الأمر يتعلق ببلد وشعب آخر وليس بجزائريين؟

المسألة لا تتعلق بمستوى مؤسسات إعلامية أو أداء عاملين فيها، بل يتعلق بثقافة راسخة في مؤسسات رسمية لا زالت تتعامل مع الجنوب كإقليم من درجة أخرى غير تلك التي يتم التعامل بها مع الشمال، فينظر إليه وإلى سكانه على أنهم حزام جغرافي وبشري لملء الصحراء، فأفرز هذا الركام بعد عقود من الزمن حالة من القطيعة الوجدانية والشك في الانتماء لدى سكان تلك الأقاليم للوطن الأم.

وإلى وقت قريب كان جنوب البلاد مفرغا للمعاقبين في الإدارة والأمن والجيش وموظفي الخدمة العمومية، فكل من غضب عليه رئيسه أو ارتكب خطأ مهنيا يعاقب بالتحويل إلى الجنوب، وكأن هذه المناطق وجدت لأن تكون تنزيها لذنوب يرتكبها سكان الشمال، فانعكس ذلك على العلاقات الاجتماعية بين القادمين من هناك وبين السكان المحليين، وعلى أداء الخدمات التي يضطلع بها هؤلاء، فكان العقاب جماعيا للمعاقبين وللجغرافيا وللإنسان، لأن صاحب القرار يختصر الجزائر في الشمال فقط.

قد تعبّأ مختلف الإمكانيات البشرية والمادية لحماية الحدود، وتطمئن الدولة لأمن حدودها، لكن لا ضمان لكل ذلك إذا لم ينخرط سكان الحدود في أيّ عملية

خلال سنوات خلت، أقام الأطباء المقيمون الدنيا ولم يقعدوها من أجل مطالب مهنية واجتماعية، وكان من ضمنها مدة الخدمة في جنوب البلاد، لقناعة راسخة لدى هؤلاء أن العمل في الصحراء هو عقاب ومساس بمكانتهم الاجتماعية والعلمية، وكأن المؤسسات الصحية أو مرضى الجنوب لا يستحقون الخدمة المطلوبة منهم.

الآن وبعد أن انفجر الوضع في الساحل الصحراوي وفي دولة النيجر تحديدا، تبحث القيادة السياسية والنخب المهتمة، فرص وآليات مواجهة التحديات الأمنية والإستراتجية التي تهدد البلاد مع أيّ انفلات أمني أو عسكري على الحدود مع البلد الشقيق والجار.

صحيح من قدر الجزائر أن تتقاسم نحو ستة آلاف كيلومتر من الحدود البرية مع دول الجوار، منها حوالي 2400 كيلومتر مع بلدين هشين ومتهالكين وهما مالي والنيجر، وأكبر تحدّ يواجهها هو حماية السيادة الترابية وتأمينها، لكن السؤال المطروح ماذا أعدت الجزائر لذلك؟ ما هي الإمكانيات المادية والبشرية التي بحوزتها وبالإمكان حشدها لمواجهة المخاطر الممكنة؟

في العادة تتوجه الأنظار إلى الإمكانيات الأمنية والعسكرية وإلى الانتشار الميداني والمعدات اللوجيستية، لكن 2400 كيلومتر، ألف منها مع دولة النيجر، “لا يعدها إلا اللسان” كما يقول المأثور الجزائري، لأن الجوهر الناعم لحماية الحدود وحراستها يبقى مغيّبا عن المعادلة، وهو ذلك المواطن العادي والبسيط الذي سيكون أول المتطوعين لولا المساس بكرامته من طرف سياسات ومؤسسات عملت على تهميشه وإقصائه وحرمانه من مواطنته، لأن جغرافيته وآدميته ظلتا لعقود عقوبة لسكان الشمال.

خلال تسعينات القرن الماضي وفي ذروة الحرب الأهلية تمكن مسلحو الجماعات الإسلامية من السيطرة على مناطق بعينها وغير بعيد حتى عن العاصمة، لأن الفارق كان واضحا بين حرب شاملة تؤديها مؤسسات الجيش والأمن، وبين حرب عصابات منهكة يؤديها الإسلاميون، ويذكر الكثير أن رموز الدولة اختفت تماما في تلك المناطق، ولم يبق فيها إلا بعض رجال ونساء في مهنة التعليم يقدّمون الدروس للأطفال.

وبفضل رجال ونساء مدنيين وعزل ومحدودي العدد حافظت الدولة على حضورها في تلك المناطق، فلا أفراد الجيش والأمن كان بإمكانهم أداء تلك المهمة، ولا مسلحو الجماعات الإسلامية امتلكوا الجرأة لغلق المدارس للأبد، لكن بفضل تضحياتهم استمر أكبر رموز الدولة متحديا الجميع.

القيادة السياسية والنخب المهتمة، تبحث فرص وآليات مواجهة التحديات الأمنية والإستراتجية التي تهدد البلاد مع أيّ انفلات أمني أو عسكري على الحدود مع البلد الشقيق والجار

والآن يمكن إسقاط المسألة على ما يمكن أن يجري في أقصى الجنوب، فيمكن أن يضطلع الجيش بالكثير من المهام، لكن ليس كل المهام، وبعضها لا يقوم بها إلا مثل هؤلاء الأساتذة والمعلمون، فلا يهم عددهم ولا جنسهم ولا هم في حاجة إلى سلاح، وإنما خدمتهم هي التي تحفظ حرمة الحدود.

وفق العقيدة الجزائرية سيادة البلاد تبدأ عند الشريط الحدودي، وفي عقيدة آخرين السيادة ثم المصلحة تبدأ ممّا بعد الحدود، لكن المعادلة تبقى مختلة ما دامت لا تستحضر جميع الأطراف، فتقليديا وأزليا كانت المسألة من اختصاص القوى العسكرية والأمنية التي تخصها الدساتير بمثل هذه المهام، لكن للحزام البشري دوره في حماية الحدود وتأمينها عندما يكون معبئا ومجندا بالشكل اللازم، لأن الاختراق والتراخي لا يتمان إلا في الأماكن المدنية، وحسب درجة التماسك والوفاء تكون الحدود في مأمن أو عرضة للخطر.

وكان الأجدر بالسياسات المنتهجة والمؤسسات المتعاقبة أن تفكر في مدننة الحدود بنفس درجة عسكرتها، وإذا كان حشد الإمكانيات المادية والبشرية للشأن العسكري على الحدود يدخل في صميم إستراتيجية الدولة، فإن تنمية الشريط الحدودي وتوفير الخدمات وايلاء الاهتمام بسكانه هو الوجه الآخر لتلك الإستراتيجية، لأن الوعاء البشري المدني هو الذي سيكون عونا وعينا للوعاء العسكري.

قد تعبّأ مختلف الإمكانيات البشرية والمادية لحماية الحدود، وتطمئن الدولة لأمن حدودها، لكن لا ضمان لكل ذلك إذا لم ينخرط سكان الحدود في أيّ عملية، لأنهم هم العارفون بأسرار الصحراء وألغازها، كما عرف متطوعو تسعينات القرن الماضي أسرار تحرك مسلحي الجماعات الإسلامية في المناطق المحررة ونشاطهم وألغازهم، وفي الجبال والتضاريس الوعرة.

أزمة النيجر ومخاطر الحدود الجنوبية يتوجب أن تفتح عيون صاحب القرار لمراجعة الكثير من السياسات والمفاهيم، وأولها أن الجزائر جغرافية مترامية الأطراف بشمال أفريقيا، وليست مناطق الشمال فقط، وأن المواطنة هي مكسب لجميع الجزائريين، وربح ثقة سكان الجنوب ورضاهم عبر التنمية وتوفير الخدمات والاستماع لأصواتهم، هي المفتاح الوحيد الذي يساعد العسكر على إقفال الحدود في وجه أيّ خطر.

8