فيلم "أزرق القفطان".. ثورة عواطف تتجاوز الحدود

أثار فيلم “أزرق القفطان” لمريم توزاني منذ صدوره في العام الماضي لغطا كبيرا، فهو يتطرق إلى مواضيع شائكة لا يتقبلها العامة بسهولة، بمعالجة سينمائية معاصرة جعلته منافسا قويا ضمن جوائز الأوسكار للعام الحالي عن فئة الأفلام الروائية الدولية.
يجسد فيلم “أزرق القفطان” للمخرجة المغربية مريم توزاني تلاقي البشر ضمن عوالم لا تصدّق، حيث يعبرون عن مشاعرهم وأفكارهم وتطلعاتهم. وعندما يلتقي هؤلاء في ثنايا قصة سينمائية، يتشكّل جسر من المشاعر يعبر فوق القوالب والأنماط المعتادة.
وفي عالم السينما المغربية يعكس الفيلم الثورة العاطفية بأسلوب جذّاب يرتقي بمعنى الحب والجنسانية إلى آفاق جديدة.
تمتاز مشاهد الفيلم بطرحها الجريء والجديد للثنائيات المعتادة في السينما المغربية. فليس هناك مجرد انقسام بين الشباب المشتاق إلى المغامرة والكبار المنهمرين في بحر الروتين، بل هناك تجربة ثلاثية تتجاوز حدود العواطف الاعتيادية، حيث تنسجم العواطف والجنس بتفرد.
المخرجة مريم توزاني لا تخشى في هذا الفيلم استكشاف الجانب الحسّاس من تجربة الإنسان، وترسم صورة واضحة ورقيقة لحياة الرجل مثلي الجنس في المغرب.
لا يقتصر تجريب “أزرق القفطان” على التحدي العاطفي فقط، بل يشمل أيضا تجسيدا متفردا للتقاليد المهددة بالاندثار. يرسم القفطان وحجارة البناء لوحة فنية تعكس الحنين إلى الزمن الماضي وتلاشي الصناعات التقليدية. وتتألّق ألوان القفطان البترولي المطرّز بخيوط ذهبية كعرض تطور الشخصيات وتعقيد العلاقات. تصوير الأزقة التاريخية في سلا يعزّز الروح الجميلة للفيلم، ويفضح أوزان العواطف الصامتة التي تحكم شخصياته.
ورغم الانتقادات الموجهة لبعض المشاهد التقليدية والصور المسبقة، يبقى إبداع مريم توزاني البصري لافتا ومذهلا. تحوّل هذه الجمالية المحظورة إلى لغة تعبيرية تستحق الاهتمام، حيث تصور مشاهد الحب الممنوع بألوان الرقة والترقّب. ومع ذلك، تبقى اللهجات المتنوعة والمعقدة للشخصيات تشكّل تحديا أوليا في فهم السياق المحلي وتواصل المشاهدين مع الأحداث.
على نحو آخر، تُذكّرنا مريم توزاني بأنَّ الحب لا يحتاج إلى تبرير سياسي. من خلال لمساتها الرقيقة، تعلّمنا أنَّ الحب يتخطى الحدود والقيود الثقافية. تجسّد شخصيات الفيلم هذه الفلسفة بأسلوبها الفريد، مدعومة بمشاهد تبادل الأنظار ورقصة الصمت التي تنطق بأكثر من الكلمات.
يعد “أزرق القفطان” رمزا للثورة العاطفية في السينما المغربية. فمخرجته تنطلق في رحلة تحكي قصة حب محرّمة بأسلوب مميز يثير الفكر والقلب. وعلى الرغم من تعقيد بعض العناصر، فإن تلك اللمسات الفنية والعواطف المبهجة تجعلها تستحق المكانة المتميزة ضمن أعمال الفن العالمي.
“آدم”، أول فيلم للمخرجة، عنوان يزهر كفنان يخطو على خشبة المسرح الفني، يأتي بعده “أزرق القفطان” ليكون الفصل الثاني من سيناريو الفيلم السينمائي الراقي للمخرجة الموهوبة مريم توزاني، فرصة لنتبادل الإعجاب والإكبار ونحن نرصد تلك الأحداث العبقرية. في أجواء مغربية ساحرة، نجد أنفسنا داخل متجر محمل بأقمشة ملونة تفوح منها رائحة الفن العتيق، حيث يتشبث زوجان بقوة بين خيوط العاطفة والتفاني، محافظين على تقنية حرفية تشهد على حانة اندثارها: فن تصنيع القفاطين التقليدية.
ومهما تعاظمت دهشتنا أمام تلك اللحظات المبهرة، فإن المديح لا يمكن أن يفصح عن الجمال الذي يتجلى في طيات تلك السردية الغامضة، حيث يتسلل الصمت المعبّر ليحمل معه مجموعة من الإشارات المميزة.
في سنة 2019، حفلت الذاكرة بفيلم “آدم”، هذا العمل الشجاع الذي كشف عن هشاشة مكانة المرأة في المجتمع المغربي، حيث صوّرت المشاهد في قلب مدينة الدار البيضاء المغربية، واستدعت الممثلة المبهرة لبنى أزبال لتحمل عبء الدور الرئيسي.
أما في هذا الفيلم الروائي الثاني لها، فتتطلع المخرجة المغربية إلى تقديم نظرة مرهفة على موضوع يعتبره المجتمع بأسره ممنوعا ويطالب بإنكاره. تبهجنا اختياراتها بوضع الحكاية في محيط ثلاثي الأبعاد يتألق برقيه وأناقته، محققة تحولا عميقا لتلك الغرابة المزعومة التي تجد طريقها إلى منصة رئيسية للتأمل في قوة الحب التي تنتصر على حدود العادات والتقاليد.
وكأنه ألوان ناعمة من القوطيّات الفنيّة، يرتدي الزوجان المغربيّان لبنى أزبال وصالح بكري قمصانهما للتعبير عن الرغبة والموت بما يتناسب مع السرد البديع الذي يجذبنا إلى ذلك العالم الراقي. برؤى مبهجة، نلمس في البداية تجاوبهما الباهت مع ملامح حياتهما المعتادة، حيث يغرقان في الروتين. غير أنها تتحوّل تدريجيا إلى روح المشاركة المتبادلة في مهنة الفن التي تجعلهما يتألقان من جديد، وتنثر في دربهما بهجة العيش بين خيوط الأقمشة الرقيقة ككنوز ثمينة. تتفتح أعماقهما لتكشف عن عش حبيب لا يليق إلا بتلك اللحظات المليئة بالحكايات الصامتة، حيث تشكّل اليوميات المشتركة واللمسات الرقيقة ومساعيهما الجادة أسسا متينة للروابط العاطفية.
في زوايا مقهى محاذ للحياة، نرصد تلك اللحظات التي تجسد لمسات العطف والتقدير المتبادل، والنزهات الهادئة التي تنير أيامهما كأضواء تمتد برفق. حكاية تتعانق مع عرض الضوء والظلال في أرجاء ذلك المحل الصغير، مسلّطة الضوء ببراعة على عوالم الفكر التي تتوهج بتألّق وتسطع مع عودة ألوان الأزرق والأزياء الزاهية أثناء مراحل الإعداد.
إنّه عمل تتوج فيه توازنات مريم توزاني ببراعة نادرة، حيث تجنبت الوقوع في التكلّف أو التحيّر، لتفجر براعم المشاعر المكبوتة وتخطو أبواب التكبر العاطفي. كلما ازداد تفرّع توازناتها تعاظم انطباع الفن المجسد، فتكملة تلوح في الأفق للعمل المتألّق، حيث يتبدّى صالح بكري – الذي فاز بجائزة فالوا لأفضل ممثل في مهرجان أنغوليم عام 2022 – بوصفه البطل الصامت ذا العبقرية المفعمة بالتناقضات. ترتقي تلك الثنائية إلى مستوى أعلى مع تألق أيوب ميسوي بأدائه المتقن، فتتشكّل لنا لوحة مؤثّرة تستحقّ أن تبقى خالدة في عالم الفن والسينما.